قضاء الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرّم حلالاً

روى البخاري ومسلم، عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جَلبة خصم بباب حجرته فخرج، فقال: (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعلَّ بعضَكم أن يكون أبلغَ بحجته من بعض، فأحسب أنَّه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها).

المعنى:

هذه قصة الضمير الإنساني أراد رسول الله صلوات الله عليه أن ينبِّه أمته إلى حكمه وهدايته، وأنَّه المرجع في الهداية والضلال، وأنه المسؤول عن الأعمال، وهو السراج الذي أقامه الله في صدر كل إنسان: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}، [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ]. {الشمس}..

فالضمير هو القاضي الذي يقاضي المرء على عمله، كما أنَّه مصدر المكافآت والعقوبات ومنظِّم السلوك، ومقوِّم الاعوجاج، وأنه لا يمكن مخالفة ما يمليه على صاحبه إلا بثمن أقله موت الروح الأدبي، والقضاء على الحياة بالإهانة والتحقير.

فالمؤمن الحق هو الذي يُصغي إلى ضميره إذا ناداه، ويجيب داعي وجدان الحق إذا هتف به، فلا يغترَّ بحكم قاضٍ إذا كان هو يعلم أنَّ الحق غيره، ولا يأخذ بفتوى مُفْتٍ ما دام هو واثقاً من  أنها لم تصادف الصواب، فإنَّ القاضي إنما يحكم بما له من أدلة ظاهرة، والمفتي إنما يفتي بما قُدِّم له من وقائع مصورة.

أما حقيقة الواقع فلا يعلمها إلا صاحبها، فإذا ما نال حقاً ليس له أو اغتصب أمراً لا يملكه فلن ينفعَه من عذاب الله تعالى قضاءُ قاضٍ ولا فتوى مفتٍ.

أرأيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُشير في الحديث إلى أسلوب سامٍ في التربية، ومبدأ سليم في الإرشاد، وهو الرجوع إلى سلطان الضمير وحدَه، والاحتكام إلى نور الوجدان الباطني والإلهام الصادق القلبي.

روى الإمام أحمد عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر، قلت: نعم، قال: استفتِ قلبَك، البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.

أما الذين لا ضمائر لهم بأن أطفأوا نور الله تعالى في باطنهم فأظلمت وجداناتهم، وأعتمت سرائرهم فأولئك يجرون في عنان الشهوة، ويركبون مطية الهوى ولا يصدرون في أعمالهم إلا عن باعث من الأَثَرة وحب النفس، ثم هم يعلمون أنهم على خطأ ولا يبرحون من لذع ضمائرهم في نَصَب، وقانون العدالة يصرخ في باطنهم، فيؤمنون بأنهم مخطئون وفي حق أنفسهم ظالمون، ولكن سلطان الهوى وقلة الرادع الديني وما نجم بين هذا أو ذاك من طول معاودة المنكر قد فلَّ من شبا عزيمتهم وحطَّم من قوى مقاومتهم، حتى أصبح الإثم لهم عادة وارتكاب الجرائم لهم طبعاً، فهؤلاء قد ختم الله على قلوبهم بأفعالهم وعلى أبصارهم غشاوة لتماديهم في الباطل فهم يَعْمهون.

لذلك أوجب الإسلام محاسبة النفس وتمرينها على التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وتعويدها البعد عن مواطن الشبهة ومواقف التهم: قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما شُبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله (الحمى هو الشيء المحمي المحظور( من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

وقصة هذا الحديث: أنَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أخذوا يختصمون عند باب حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء قد درست وليست لهم بنية، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر) أي: مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو أنه يزيد عليهم بالمزايا التي اختصَّه الله بها في ذاته و صفاته، ولكني لا أدري باطن ما تتحاكمون فيه عندي وتختصمون فيه لدي، وإنما أقضي بينكم على ظاهر ما تقولون؛ فإنَّ الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم به الوحي، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يقضي برأيه فيما لم يتنزل عليه فيه وحي، ولو شاء الله لأطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على باطن الأمر.

فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما هو قطعة من النار، وهذا تمثيل يفهم شدَّة التعذيب، وهو كقوله تعالى: [إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا] {النساء:10}.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فليأخذها أو ليتركها) ليس معناه التخيير؛ بل هو التهديد والوعيد، كقوله تعالى: [ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] {الكهف:29}.

يفهم من هذا الحديث أمور:

منها: أن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئاً إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك.

وأنه يجوز على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الأحكام ما يجوز على بقية البشر، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر فيحكم بالبينة واليمين، ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك.

ومنها أنَّ بعض الناس أدرى بمواضع الحجَّة وتصرف القول من بعض، وأن القاضي إنما يقضي على الخصم بما يسمع منه من إقرار وإنكار أو بينات على حسب ما أحكمته السنة في ذلك.

قال العِيني في شرحه للبخاري: وزاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث في رواية الطحاوي بعد أن قال: (فليأخذها أو ليتركها) فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حق لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذ فعلتما هذا فاذهبا فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما (أي اقترعا) ثم ليحلِّل كلُّ واحد منكما صاحبه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 10 السنة 12 السنة 1378هـ - 1959م). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين