استمرار التعلم

 

والعلم بحرٌ لا قرار له، ولا شطآن له، وكلما تعمَّق طالبه فيه، تفتَّحت له فيه أبواب جديدة، وتبيَّنت له معالم كانت خافية، وتحتاج إلى مزيد بحث ومزيدِ تحقيق.

من أجل هذا كان الواجب على حامل على العلم أن ينشد الزيادة منه على الدوام، وأن يستمرَّ في طلبه ما عاش، فالعلم يحتاج دوماً إلى تجديد ونماء.

وليس بعد أمرِ الله لرسوله بيان: [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] {طه:114} .

وقد قصَّ علينا القرآن، وقصَّ علينا الرسول عليه الصلاة والسلام، قصَّة موسى عليه السلام في طلبه علمَ ما لم يعلم، عند عبد الله الخضِر عليهما السلام، ولذا قال قتادة: لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى عليه السلام، ولكنه قال: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا] {الكهف:66} ([1]).

 

ولا غرو أن شاع بين المسلمين هذه الحكمة: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد). وحكمة أخرى تقول: "لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل"([2]).

وقال ابن عباس: منهومان لا تنقضي نهمتهما: طالب علم، وطالب دنيا[3]. وقيل لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله[4].

 وسئل أبو عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دامت تحسن به الحياة[5]!

وسئل سفيان بن عيينة: مَنْ أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم، لأن الخطأ منه أقبح[6]!

وقيل للمأمون: أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فقال: إن كان الجهل يعيبه فالتعلم يحسن به[7].

 

وقال مالك بن أنس: لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم([8]). 

هذا هو مسْلك المسلم: حرصٌ على زيادة المعرفة، واستمرارٌ في طلب العلم، لا يشبع منه، ولا يحول دون طلبه كِبَر سنّ، ولا عِظَم قدر، حتى الممات.

وكان سلف الأمة حريصين على ألا يمرَّ يوم دون أن يكتبوا فيه شيئاً من العلم، كثُر أو قلّ وإلا عدُّوا هذا اليوم ضياعا وغبنًا.

وفي هذا روي الأثر: "إذا أتى عليَّ يوم لم أزدد فيه علماً يقرِّبني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم".

قال ابن القيم: وقد رُفع هذا إلى رسول الله r، ورفعُه إليه باطل، وحسبه أن يصل إلى واحد من الصحابة أو التابعين([9]).

وفي مثله قال القائل:

إذا مرَّ بي يوم ولم أستفد هدى     ولم أكتسب علما فما هو من عمري!

 

وخطب عليّ رضي الله عنه، خطبة قال فيها: واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كل امرئ ما يحسن، فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.

قال الإمام ابن عبد البر: ويقال: إنَّ قول علي: "قيمة كل امرئ ما يُحسنه" لم يسبقه إليه أحد.

وقالوا: ليس كلمةٌ أحضَّ على طلب العلم منها.

 قالوا: ولا كلمة أضر بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئاً([10]).

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

 

-------------

([1]) جامع بيان العلم، (614).

([2]) روواه الدينوري في المجالسة (308) من كلام ابن المبارك، كما ظنها بعض الناس.

[3] - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (581).

[4] - المصدر السابق (586).

[5] - المصدر السابق (588).

[6] - المصدر السابق (589).

[7] - المصدر السابق (590).

([8]) المصدر السابق (579).

([9]) مفتاح دار السعادة (1/121-122).

([10]) جامع بيان العلم (608). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين