البخيل في الكتاب والسنة

 

 

الحمدُ لله، وأفضل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ:

إن للغةِ المنطقَ العذب، فكيف إذا جرتْ بلسانِ من لا يعرف الكذب؟! ومن هذا الحس الجميل أن يأتي مع المال والماء البخيلُ، أما مع السلام والنبي، فأبخل؛ للدَّلالة على التهويل؛ لأن مَن شحَّ بالماء والتمويل فقد بخل على فرد أو قليل، أما من حبس اللسان عن القيل في الصلاة على الخليل، فسكوته منكر من الأقاويل، وهو محلُّ اعتلال وتعكير، وهجاء وتضليل، فالحرُّ تكفيه الإشارة، فيقنع بها قبل لفظ العبارة، ومَن أبى إلا النذارة، فإن بخيل الصلاة نزيل نار وحرارة، والسعيد بالصلاة غدًا في صدارة، فيها على صلاة تخبى الشفاعة عند الإغارة؛ إذ الكتب مُستَطارة، والخلائق مُستجارة، تأوي إلى الحبيب وهي محتارة، مِن هول ما ترى وانتظاره، وهو يُنادي: أمتي أمتي، اليوم أنا الأمير في هذي الإمارة.

 

لو استقرأنا الكتاب والسنة للوقوف على أصناف البخل فيهما، سنجدها أربعة أصناف لا خامس لها: صنفان ماديان، وصنفان معنويان، أما الماديان: فبخيل المال، والماء، والمعنويان: بخيل السلام، وبخيل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر عنده، أما الماديان: فجاءا بصيغة بخيل، وأما المعنويان: فجاءا بصيغة أبخل، والثاني صيغة مبالغة للدلالة على شدة البخل.

 

فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السخيُّ قريب مِن الله، قريب من الجنة، قريب مِن الناس، بعيد من النار، والبَخيل بعيدٌ مِن الله، بعيد من الناس، قريب مِن النار، ولَجاهل سخيٌّ أحب إلى الله عز وجل من عابد بخيل))[1]، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَدعو: ((أعوذُ بك مِن البُخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات))[2].

 

حتى أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يَجتمع الشحُّ مع الإيمان في قلب مسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَجتمِع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنَّم في منخرَي رجل مسلم، ولا يَجتمِع شحٌّ وإيمان في قلب رجل مسلم))[3].

 

من أجل ذلك نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخوله الجنَّة؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة بخيل ولا خبٌّ ولا خائن...))[4]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلَقَ الله جنَّة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشقَّ فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال: قد أفلح المؤمنون، قال: وعزَّتي لا يُجاورني فيكِ بخيل))[5].

 

بخيل المال:

المال عصب الحياة النابض، اختبر الله به بني آدم، فمَن أدَّى حقَّه نال مِن الله البشارة، ومَن منَع حقَّ الله فيه كان عليه خسارة، وهذا يمنع نفسه من التنعُّم بنعمة المال يظنُّ أنه سيُخلِّده في الأرض، وهو لا يعلم أنه سيتركه للأهل والخلان، ويُعذَّب به يوم القيامة.

 

قال بعضهم: مسكينٌ البخيل؛ يجمع عذابه بيديه ويحرم نفسه منه في الدنيا؛ قال تعالى: ? يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ? [التوبة: 35].

 

من هنا جاء الوعد والوعيد لمن يبخل بالمال عن الفقراء والمحتاجين بخلاف المُنفق يبتغي وجه الله فيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، يبلِّغ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبَّتان من حديد، أو جبتان من لدن ثُديِّهما إلى تَراقيهما، فإذا أراد المنفق أن ينفق سبغت الدرع عليه، أو مرت حتى تُجنَّ بنانه، وتعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه؛ يعني: الدرع، ولزمت كل حلقة موضعها حتى أخذت بعنقه أو بترقوته فهو يوسعها وهي لا تتسع))[6].

 

من هنا كان الحث الإلهي على الإنفاق وعدم البخل؛ قال تعالى: ? وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ? [آل عمران: 180].

 

وهناك طائفة لا تبخل فقط، بل تأمر الناس بالبخل؛ قال تعالى: ? الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ? [النساء: 37]، وقال تعالى: ? الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? [الحديد: 24]، من هنا جاءت دعوة السماء العلية للإنفاق في سبيل الله، وإلا سنكون عرضةً لسنَة الاستبدال؛ قال تعالى: ? هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ? [محمد: 38].

 

والتخيير الإلهي قائم؛ فمن اختار الإنفاق فسيُجازى به، ومن اختار الآخر فسيُيسَّر للعسرى، والعياذ بالله؛ قال تعالى: ? وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ? [الليل: 8 - 11].

 

بخيل الماء:

الماء سر الحياة وأصلها[7]؛ قال تعالى: ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ? [الأنبياء: 30]، من أجل ذاك كان الماء ملكًا عامًّا يشترك فيه كل الخلائق؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون شركاء في ثلاثٍ؛ في النار، والماء، والكلأ، وثمنُه حرام))[8]، فمن بخل به عوقب أشدَّ عقاب يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل بخلَ فضلَ ماء بالطريق، يمنع ابن السبيل منه، ورجل بايَعَ إماما للدنيا إن أعطاه ما يريد وفَّى له، وإن لم يُعطِه لم يَفِ، ورجل ساوم رجلاً على سلعته بعد العصر فحلف بالله: لقد أعطي بها كذا وكذا، فصدَّقه الآخر))[9].

 

بخيل السلام:

السلام: اسم من أسماء الله الحسنى[10]، وحظ العبد منه أن يتجلَّى على تصرفاته القولية والفعلية[11]، ومن القولية: المبادرة بالسلام، وهي سنَّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردُّه فرض لازم، والمبادرة بالسلام من السنن التي قرر العلماء أنها أعظم أجرًا من فرضها[12]؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - عنه: ((لا يحلُّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يَلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[13].

 

قال ابن حجر: فيه تنبيه الأخيار، ويَحرص أن يُسلِّم في كل يوم على عشرة مِن المسلمين، وأن يكون هو المبتدئ، فإنه أفضل من الردِّ[14].

 

من أجل هذا كان البيان الأول عند دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: السلام، فقال فيما يرويه عبدالله بن سلام رضي الله عنه، قال: لما قَدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَله، فكنتُ فيمَن خرَجَ، فلمَّا رأيت وجهه عرفتُ أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعتُه، يقول: ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلُّوا والناس نيام، تَدخلوا الجنة بسلام))[15]، والإفشاء مقصود لذي لب فلينتبه له.

 

وإذا أكمل العبد أشرف العبادات وهي الصلاة المكتوبة، وعاد بالاتصال إلى المخلوقين يبادرهم بالسلام فيختم صلاته فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم يدعو بالدعاء المأثور فيما يرويه ثوبان رضي الله عنه ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفَرَ ثلاثًا وقال: ((اللهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام))[16].

 

فليتَ شِعري: أين الذين يُنادون بالسلام من هذه النصوص؟ وهم يُهلكون الحرث والنسل صباحًا ومساءً يتستَّرون بالشعارات الزائفة، وهم يحملون السكِّين يذبحون بها كل من يقول: "لا اله الا الله محمد رسول الله".

 

إذا علمنا ذلك كان مَن بَخل بغاز ثاني أوكسيد الكاربون على إخوته كان (أبخل الناس) بصيغة المبالغة كما أسلفنا، هذا ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤشِّر حالةً سلبية لشحيح شحَّ عن نفسه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمثل بهذا المثال ويأتي بالذي هو أبخل منه، وهو: بخيل السلام؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ لفلان في حائطي عذقًا وقد آذاني وشقَّ عليَّ مكان عذقِه، فأرسل إليه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((بعني عذقَكَ الذي في حائط فلان))، قال: لا، قال: ((فهبْه لي))، قال: لا، قال: ((فبعنيه بعذْق في الجنة))، قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيتُ أبخلَ منكَ إلا الذى يبخل بالسلام))[17].

 

وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا أبخلُ الناس))[18].

والعاجز في تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: من عجز عن الدعاء، والبخيل من بخل بالسلام.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعجز الناس من عجز في الدعاء، وإن أبخل الناس من بخل بالسلام))[19].

 

قال المناوي: ((أعجز الناس))؛ أي: من أضعفهم رأيًا وأعماهم بصيرة، ((من عجز عن الدعاء))؛ أي: الطلب من الله تعالى، لا سيَّما عند الشدائد؛ لتركه ما أمره الله به وتعرُّضه لغضبه بإهماله ما لا مشقة عليه فيه، وفيه قيل:

لا تسألن بنيَّ آدم حاجة =وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ 

الله يَغضب إن تركتَ سؤاله =وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضب 

 

وفيه ردٌّ على من زعم أن الأولى عدم الدعاء، ((وأبخل الناس))؛ أي: أمنعهم للفضل وأشحهم بالبذل ((مَن بخل بالسلام)) على مَن لقيَه مِن المؤمنين ممَّن يعرفهم، وممَّن لا يعرفهم، فإنه خفيف المؤونة، عظيم المثوبة، فلا يُهمله إلا من بخل بالقربات وشح بالمثوبات وتهاون بمراسم الشريعة، أطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام، وجعله أبخل لكونه من بخل بالمال معذور في الجملة؛ لأنه محبوب للنفوس عديل للروح بحسب الطبع والغريزة، ففي بذله قهر للنفس، وأما السلام فليس فيه بذل مال، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق، فهو أبخل من كل بخيل[20].

 

وأعظم الناس سرقةً مَن سرَق من صلاته لا من سرق من ماله، وأبخل الناس من بخل بالسلام؛ فعن عبدالله بن مغفَّل  رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرق الناس مَن سرَق صلاته))، قيل: يا رسول الله؛ وكيف يسرق صلاته؟ قال: ((لا يتمُّ ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام))[21].

 

مِن أجل هذا كان توجيه سيد الخلائق والبشر ألا نكون من المغبونين في ردِّه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أبخل الناس من بخل بالسلام، والمغبون من لم يردَّه، وإن حالت بينك وبين أخيك شجرة فإن استطعت أن تبدأه بالسلام، أو لا يبدأك بالسلام فافعل))[22].

 

بخيل بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذُكر عنده:

رسول الله صلى الله عليه وسلم هادي البشرية لربها، ومُخرجها من الظلمات إلى النور، مَن كان سببًا لرفعتهم على الأمم بأجمعها، وهو من يشفع لهم يوم القيامة، ولا يرتضي أن يدخل أحد مِن أمته النار، شرَّفهم الله أن يكون نبيَّهم وإمامهم ورفعتهم في الدنيا والآخرة، وجَّههم ربهم أنه إذا ذُكر اسمه الشريف في حضرة أحدهم أن يبادر بالصلاة عليه، ويُشرِّف نفسه بذلك، ويرفعوا من مقامهم عند ربهم بالصلاة على نبيهم، فمن ذُكر اسم الحبيب قُبالته فامتنع واحجب عن الصلاة عليه كان من أبخل الناس بصيغة المبالغة (أبخل)؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجتُ ذات يوم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأبخل الناس؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((مَن ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، فذلك أبخل الناس))[23].

 

قال المناويُّ: ((إن أبخل الناس مَن ذُكرتُ عنده فلم يصل عليَّ))؛ أي: يدعو لي بلفظ الصلاة مع السلام، وقد جاء: البخيل ليس مَن يبخل بماله، ولكن مَن بخل بمال غيره، فهو كمَن أبغض الجود حتى لا يحبَّ أن يجاد عليه، فمن لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذُكر عنده منَع نفسه أن يكتال بالمكيال الأوفى، فهل تجد أحدًا أبخل من هذا؟![24].

 

وقال القاري: فمن لم يصلِّ عليه فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه؛ كما تدل عليه رواية: ((البخيل كل البخيل))[25].

 

وتعدَّدت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وهو يدعوها للصلاة عليه لا لنفسه بل من أجلها، فمقامه معروف ومحمود عند ربه، فنحن من نتشرف بالصلاة عليه، وهو غنيٌّ عن صلاتنا، فقال فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال عنه: ((إنَّ البخيل كل البخيل مَن ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ))[26]، وعن عبدِالله بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البخيل مَن ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ))[27]، وعن جرير بن حازم قال: سمعتُ الحسن رضي الله عه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بحسب المؤمن من البُخل إذا ذكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ))[28].

 

وثمرات الصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في الدنيا والآخرة، بحسبنا منها: مَن أراد أن يُغفَرَ له ذنبه، ويُكفى همَّه، فعليه بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ فعن الطفيل بن أبيِّ بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثُلثا الليل قام، فقال: ((يا أيها الناس؛ اذكُروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه))، قال أبيٌّ: قلتُ يا رسول الله؛ إني أُكثِرُ الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ((ما شئتَ))، قال: قلتُ: الربع؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك))، قلتُ: النِّصف؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زدت فهو خير لك))، قال: قلتُ: فالثلثين؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك))، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا، تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك))[29]، والكلام في ذلك يطول لمحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

اللهمَّ فصَلِّ على سيدنا محمد ما أشرقت شمس وبزغت أقمار، وما أظلَّ ظلٌّ وأوفى نهار، عدد ما في علم الله من أسطار، وما أنزل من قطر بأمطار، وما أجرى من موج في بحار، وما وكَر حيٌّ أو طار، وحوت البيداء من ذرات والغبار، وما ترك السير من آثار، صلاةً تنجي الفقير من العثار، إذا ما تعطلت العشار، وأطلقت أوابد من إسار، صلاةً تُنجي مِن الثبور، وتنير القبور، وتنشر البهجة والسرور، تثمر لُقيا الحبيب في حبور، إذا ما لُزَّ الناس للعبور، وضاق موطن المرور، وبيده ماء الكوثر ليس شيء عليه يؤثر، مَن شرب منه شربة لم يتأثَّر من هول أو عطش، إذا ما الجبار بطش، والليل أغطش.

 

وصَلَّى الله وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين

 

[1] سنن الترمذي: (4: 342)، رقم: (1961)، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد، وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يَحيى بن سعيد إنما يروي عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل، والمعجم الأوسط: (3: 27)، رقم: (2363)، قال المناوي: بأسانيد ضعيفة يقوى بعضها بعض؛ يُنْظَر: التيسير بشرح الجامع الصغير: (2: 137).

[2] صحيح البخاري: (11: 412)، باب قَولِه: ? وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ? [النحل: 70]، رقم: (4707).

[3] سنن النسائي: (6: 14)، رقم: (3114)، قال الألباني: صحيح، ومسند أحمد: (12: 450)، رقم: (7480)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح بطرقه وشواهده.

[4] مسند أحمد: (1: 191)، رقم: (13)، قال المنذري: رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن، وبعضه عند الترمذي وغيره، الخب بفتح الخاء المعجمة وتكسر وبتشديد الباء الموحدة: هو الخداع المكار الخبيث؛ يُنْظَر: الترغيب والترهيب: (3: 17).

[5] المعجم الكبير: (12: 147)، رقم: (12723)، قال الهيثمي والمنذري: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين؛ أحدهما جيد، يُنْظَر: مجمع الزوائد: (11: 345)، والترغيب والترهيب: (3: 258).

[6] صحيح ابن حبان: (8: 106)، رقم: (3313). قال الأرنؤوط: إسناده حسن.

[7] سبحان الله من جمع بين ذرتيه الأولى مُشتعلة والثانية مساعِدة على الاشتعال بالرمز الكيميائي h2o فجعلنا نطفئ بها النار وحريقه، ولعلَّ هذه الخصيصة تسلب منه يوم القيامة فيعود كما كان قال تعالى: ? وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ? [التكوير: 6]، فسبحان من خلق وصوَّر ودبَّر الأمور كلها.

[8] سنن أبى داود (3: 295)، رقم: (3479)، وقال الألباني: صحيح، وسنن ابن ماجه: (2: 826)، رقم: (2472)، ومسند أحمد بن حنبل: (5: 364)، رقم: (23132) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، والمعجم الكبير للطبراني: (9: 291)، رقم: (10942).

[9] سنن النسائي الكبرى: (3: 492)، رقم: (6020).

[10] قال تعالى: ? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر: 23]، والنصوص في هذا كثيرة.

[11] إشارة لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه))؛ صحيح البخاري: (1: 13)، رقم: (10).

[12] قال ابن عابدين: "وكذلك إفشاء السلام سنة لإظهار التواد بين المسلمين، وفي ردِّه ذلك أيضًا، لكن وجب الرد؛ لما يلزم على تركه من العداوة والتباغض، فإفشاؤه أفضل من حيث ابتداء المُفشي له بإظهار المودة، فله فضيلة التقدم"؛ حاشية رد المحتار: (1: 135).

[13] صحيح البخاري: (15: 291)، رقم: (6077).

[14] يُنْظَر: تنقيح القول الحثيث في شرح لباب الحديث: (1: 83).

[15] المستدرك: (4: 176)، رقم: (7277)، وصحيح ابن حبان: (2: 242)، رقم: (489)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح رجاله ثقات.

[16] صحيح مسلم: (2: 94)، رقم: (1362).

[17] المستدرك: (2: 24)، رقم: (2195)، والسنن الكبرى للبيهقي: (6: 157)، رقم: (12231)، وشعب الإيمان: (6: 430)، رقم: (8771). قال المنذري: رواه أحمد والبزار وإسناد أحمد لا بأس به؛ يُنْظَر: الترغيب والترهيب: (3: 289).

[18] مسند أحمد بن حنبل: (5: 364)، رقم: (23134)، مسند ابن أبي شيبة: (2: 426)، رقم: (967)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.

[19] الأدب المفرد: (1: 359)، رقم: (1042)، قال الألباني: صحيح الإسناد موقوفًا، وصح مرفوعًا، ومسند أبي يعلى: (12: 5)، رقم: (6649)، قال حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وصحيح ابن حبان: (10: 349)، رقم: (4498)، قال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وشعب الإيمان: (6: 429)، رقم: (8767)، قال المناوي: قال الطبراني: لا يُروى إلا بهذا الإسناد، قال المنذري: وهو إسناد جيد قوي، وقال الهيتمي: رجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان وهو ثقة، وبه يعرف أن رمْزَ المصنف لحسنه تقصير وحقه الرمز لصحته؛ يُنْظَر: فيض القدير: (1: 556)، رقم: (1145).

[20] يُنْظَر: فيض القدير (1: 556)، رقم: (1145).

[21] المعجم الكبير للطبراني: (20: 210)، رقم: (1667)، وقال: لم يرَو هذا الحديث عن عبدالله إلا الحسن، ولا عن الحسن إلا عوف، ولا عن عوف إلا عثمان، تفرَّد به: زيد، قال المُنذري: رواه الطبراني بإسناد جيد؛ ينظر: الترغيب والترهيب: (3: 289)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات؛ ينظر: مجمع الزوائد (2: 143)، وعن النعمان بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ترون في الشارب والسارق والزاني؟))، وذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هنَّ فواحشُ، وفيهنَّ عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يَسرق صلاته))، قالوا: وكيف يَسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها))؛ ينظر: الموطأ: رواية يَحيى الليثي: (1: 167)، رقم: (401)، قال ابن عبدالبر: لم يَختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان بن مرَّة، وهو حديث صحيح يستند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد؛ ينظر: التمهيد: (23: 409).

[22] مسند ابن الجعد: (1: 390)، رقم: (2663)، وشعب الإيمان: (6: 429)، رقم: (8770).

[23] يُنْظَر: الترغيب والترهيب: (2: 332)، رقم: (2601)، قال المناوي: (الحارث) بن أبي أسامة، وكذا الديلمي (عن عوف بن مالك)، وفيه رجل مجهول وآخر مضعف، رواه ابن عساكر عن أبي ذر بسند ضعيف أيضًا؛ يُنْظَر: فيض القدير: (2: 404)، رقم: (2156).

[24] يُنْظَر: تنقيح القول الحثيث في شرح لباب الحديث: (1: 83).

[25] يُنْظَر: تحفة الأحوذي: (9: 373).

[26] شعب الإيمان: (2: 213)، رقم: (1565)، ورواه أحمد بن عيسى عن ابن وهب مرسلاً.

[27] سنن النسائي الكبرى: (5: 34)، رقم: (8100)، ومسند أحمد: (3: 257)، رقم: (1736)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي، والمعجم الكبير للطبراني: (3: 209)، رقم: (2816)، الأحاديث المختارة للضياء المقدسي: (1: 242)، رقم: (424).

[28] الزهد لابن المبارك: (1: 363)، رقم: (1025).

[29] سنن الترمذي: (4: 636)، رقم: (2457)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والأحاديث المختارة: (2: 96)، رقم: (1185)، وقال: إسناد حسن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين