الشُّح والبُخل في القرآن الكريم

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، أما بعد:

من الآفات التي أصابت وتصيب كثيراً من المسلمين، وكانت سبباً في كثير مما نعاني منه اليوم هي: (الشُّح والبُخل) وحتى يتطهر منهما من ابتلي بهما، ويتقيهما من عافاه الله -عز وجل- منهما، سنقف على أبعادهما من خلال هذه الفقرات.

أولاً: تعريف الشُّح والبُخل:

يُطلَق الشُّح في اللغة على عدة معاني منها:

1-حرص النفس على ما تملك وبخلها به، والشَّحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شحَّ وبَخُل بإخراجه. 

2-القلَّة والعسر.

3-التَّسابق إلى الشيء والتَّنافس عليه، ومنه تشاحُّوا في الأمر، وعلى الأمر أي: تسابقوا . وتشاحَّ الخصمان: بدأ حرصهما على الغلبة.

4-المخاصمة أو المماحكة والمجادلة. (1)

واصطلاحاً: الشُّح هو البخل بالمال وعدم بذله، وهذا من ناحية العرف، وأما من ناحية الشَّرع فهو: البخل بكل بِرٍّ ومعروف مالاً أو غيره في يده أو في يد غيره. والبخل لغةً: مأخوذ من مادة (ب خ ل) التي تدلُّ على خلاف الكرم.

واصطلاحاً: قال ابن حجر: (البخل: منع ما ُيطلب مما يقتنى، وشرُّه ما كان طالبه مستحقَّاً، ولا سيما إن كان من غير مال المسؤول).(2)

وقال القرطبي -رحمه الله-: (البخل المذموم في الشَّرع: هو امتناع المرء عن أداء ما أوجب الله -تعالى- عليه)(3).

-بين الشُّح والبخل:

قال القرطبي: اختلف في البخل والشُّح هل هما بمعنى واحد أو معنيين؟

 فقيل: البخل الامتناع عن إخراج ما حصل عندك، والشُّح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك، وقيل: الشُّح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح لما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- من قوله: (اتقوا الشُّح فإنَّ الشُّح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أنْ سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم..) أ . هـ(4)

 

ثانياً: مظاهر الشُّح والبخل، من أهمها:

1-البخل بالرئاسة وبالوجاهة.

2-البخل براحته ورفاهيته.

3-البخل بالعلم بمعنى حبسه عن الناس وإن سألوه.

4-البخل بالنفس.

5-البخل بالمال.

ثالثاً: أسباب الشُّح والبخل:

1-حبُّ الدُّنيا مع توهم الفقر.

2- إهمال النفس من المجاهدة.

3- الاستعلاء والتَّكبر في الأرض بغير الحقِّ.

4-عدم اليقين بما عند الله -تعالى-.

5-الغفلة عن العواقب المترتِّبة على الشُّح والبخل.

6-الوسط الذي يعيش فيه المسلم:

فقد يعيش المسلم في وسط معروف بالشُّح، ونعني بالوسط هنا - القريب وهو البيت، والبعيد وهو المجتمع- فتنتقل عدواه إليه، فيبخل بكل بِرٍّ أو معروف: مالاً أو غيره، في يده أو في يد غيره.

رابعاً: آثار الشُّح والبخل:

وللشُّح والبخل آثار ضارَّة وعواقب مهلكة منها:

1-حمل النفس على الوقوع في الإثم والرذيلة.

2-القلق والاضطراب النفسي، ومنه الفرقة والتَّمزق.

3-تمكُّن العدوِّ الإنسيِّ والجنيِّ من صاحب الشُّح والبخل.

4-العذاب الشَّديد في الآخرة -نسأل الله العافية-.

خامساً: من فقه الآيات الواردة في ذم الشُّح والبخل:

قال -تعالى-: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر، و(16) سورة التغابن. 

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- يقول: (هوى نفسه، حيث يتَّبع هواه، ولم يقبل الإيمان)، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ( أن يعمدَ إلى مال غيره فيأكلَه).

قال ابن جرير -رحمه الله-: وقوله: (فأولئك هم المفلحون) يقول: فهؤلاء الذين وُقوا شحَّ أنفسهم المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم).(5)

وكما بين- سبحانه - أن الشُّح على المؤمنين بالخير من البِرِّ والمعروف من صفات المنافقين وكفى بهذا ذمَّاً للشُّح فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}.(19) سورة الأحزاب.

يقول أبو الحسن الماوردي -رحمه الله-: (قوله -تعالى-: (أشحَّةً عليكم) فيه أربعة تأويلات:

أحدها: أشحَّة بالخير، قاله مجاهد. 

الثاني: بالقتال معكم، قاله ابن كامل. 

الثالث: بالغنائم أصابوها، قاله السُّدِّي. 

الرابع: أشحَّة بالنفقة في سبيل الله، قاله قتادة.

وقوله -تعالى-: (أشحَّة على الخير) فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: على قسمة الغنيمة، قاله يحيى بن سلام. 

الثاني: على الماء ينفقونه في سبيل الله، قاله السدي. 

الثالث: على النبي -صلى الله عليه وسلم- بظفره).(6)

وقال -تعالى-: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(180) سورة آل عمران.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبَّتان من حرير من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت أو وَفَرَت على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع..).(7)

والمعنى من الحديث والله أعلم : أن الجواد إذا هم بالنفقة اتَّسع لذلك صدره، وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء والبذل، وأنَّ البخيل يضيق صدره وتنقبض يداه عن الإنفاق في المعروف والصدقة.(8)

وقال -تعالى-:{وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} الليل (8-10).

سادساً: الأحاديث الواردة في ذم الشُّح والبخل:

1-قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- كنت أسمعه -أي الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيراً يقول: (اللهم إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال).(9)

2-عن حسين بن علي -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (البخيل من ذُكرت عنده ثمَّ لم يصلِّ عليَّ)(10)

3-عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اِتَّقواالظلم، فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وإيَّاكم والفحش فإنَّ الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشُّح فإنَّ الشُّح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)(11)

4-عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اجتنبوا السَّبع الموبقات) قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: (الشِّرك بالله، والشُّح، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)(12)

سابعاً: علاج الشُّح والبخل:

1-النَّظر في العواقب والآثار المترتبة على الشُّح والبخل في الدنيا والدين والآخرة.

2-اليقين التَّام بما عند الله من الأجر والمثوبة والنعيم المقيم.

3-العيش الطويل مع كتاب الله -عز وجل- للوقوف على خبر وعاقبة أهل الشُّح والبخل، وكذلك خبر وثواب أهل العطاء والجود.

4-دوام النَّظر في سنَّة وسيرة وهدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مع النِّعمة التي أنعم الله بها عليه من مال أو غيره.. يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في صفته رسول الله:

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الرِّيح المُرْسَلة).(13)

ولقد ذكر ابن القيِّم -رحمه الله- في كتابه: (مدارج السَّالكين) مراتب عشرْة للجود: مثل الجود بالنفس، والجود بالرياسة، والجود بالجاه، والجود بالرَّاحة والرَّفاهية، والجود بالعلم، والجود بالبدن، والجود باليسير وبسط الوجه، والجود بالصَّبر، والجود بالعفو والصَّفح، والجود بكف الأذى، والجود بالمال، والتَّعفف عما في أيدي الناس).

5-البعد والانسلاخ من الوسط المعروف بالشُّح والبخل، والارتماء في الأوساط المعروفة بالجود والسخاء.

6-كثرة الدُّعاء والضراعة إلى الله -عز وجل-.

7-المحاسبة والمجاهدة للنفس.

8-الأخذ بأيدي من ابتُلي بالشُّح والبخل إلى الخير، وشغلهم بالأعمال الصالحات، ومنها الصَّدقة والجود والكرم.( 14)

خاتمة:

على المسلم أن يشغل نفسه ولسانه وجوارحه ووقته بالأخلاق الفاضلة علماً ومعرفة وتخلُّقاً، ومدار ذلك على الإيمان الصَّادق الصَّحيح، وأن يبتعد عن الأخلاق الذَّميمة، ومنها آفة الشُّح والبخل، وإن وقع في شيء من ذلك فعليه التَّوبة والرُّجوع إلى ربه، فإنَّه وليُّ الهداية والتوفيق.

وصلى الله على خير رسله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

1 - المعجم الوسيط (1/474) بتصرف.

2 - الفتح (10/457).

3 - تفسير القرطبي (5/126).

4 - تفسير القرطبي (4/182) والحديث رواه أحمد وأبو داود واللفظ له.

5 - تفسير الطبري (28/12/82).

6 - تفسير الماوردي 3/313.

7 - رواه البخاري ومسلم.

8 - انظر الفتح لابن حجر 3/306 شرح الحديث.

9 - رواه البخاري ومسلم.

10 - رواه الترمذي (3546) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأحمد (1/201) واللفظ له وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح رقم (1736).

11 - رواه أبو داود (1698) مختصراً وأحمد (2/159 – 160) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (9/251( رقم (6487) وهذا لفظ أحمد.

12 - رواه النسائي، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح، (3432).

13 - رواه البخاري ومسلم.

14 - - انظر (آفات على الطريق) السيد محمد نوح 4/67 – 81 . بتصرف.

 وانظر أيضاً موسوعة (نظرة النعيم) 9/ 4029 بتصرف .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين