اعتبار المناسبات في الإسلام بين الإفراط والتفريط -2-

 

الحفاوة بهذا اليوم:

لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين: مولد سيد الخلق، وبدء إنزال أفضل الكتب، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحتفي به، وذلك بصيامه، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين.

أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني، ولا الثالث، وهي القرون المشهود لها بالخير، وأول إحداثه في القرن الرابع.

وقد افترق الناس فيه إلى فريقين: فريق ينكره، وينكر على من يفعله؛ لعدم فعل السلف إياه، ولا مجيء أثر في ذلك.

 وفريق يراه جائزا ؛ لعدم النهي عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة.

كلام ابن تيمية في الاحتفال بالمولد: 

لابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" كلام وسط في غاية الإنصاف، نورد موجزه لجزالته، والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال ابن تيمية في فصل قد عقده للأعياد المحدثة: فذكر أول جمعة من رجب، وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة، حيث خطب - صلى الله عليه وسلم -، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته، ثم أتى إلى عمل المولد، فقال:

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسىعليه السلام ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا، مع اختلاف الناس في مولده، أي: في ربيع أو في رمضان، فإن هذا لم يفعله السلف - رضي الله عنهم - مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.

ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبةً  لرسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص.

وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناوظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها.

واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضا من بدعة وغيرها".

 ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره، فقال:" فعليك هنا بأدبين: 

أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا. 

الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ؛ فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه.

ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء.

ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون.

وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به. . .

ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدَّد.

ولهذا قيل لأحمد: إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: أن زخرفة المصاحف مكروهة، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور، ككتب الأسمار والأصفار، أو حكمة فارس والروم.

مراتب الأعمال:

ومراتب الأعمال ثلاث:

 إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه.

والثانية: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع.

والثالثة: ما ليس فيه صلاح أصلا.

فأما الأولى: فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أعمال السابقين الأولين.

وأما الثانية: فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة، ومن العامة أيضا، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ.

 

طريقة ابن تيمية في معالجة الموضوع: 

 

لقد عالج - رحمه الله - هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها.

ولكن قد حدث بعده - رحمه الله - أمور لم تكن من قبل، ابتلي بها العالم الغربي، وغزا بها العالم الشرقي، ولبس بها على المسلمين، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فلسسفية، ارتفع شأنها في قومهم، ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا، وصاروا يقيمون لهم الذكريات، ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا، فقام من المسلمين من يقول:

نعلم أن المولد ليس سنة نبوية، ولا طريقا سلفيا، ولا عمل القرون المشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة، والذكريات بالذكرى، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين، ويكون ذلك من باب: يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره.

وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب، ولكن انطلاقا من كلام ابن تيمية المتقدم، يمكن أن يقال: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق؛ حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا. جهرا يملأ الأفق، وسرا يملأ القلب والحس.

ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة: في المأكل باليمين ؛ لأنه السنة، وفي الملبس في التيامن ؛ لأنه السنة، وفي المضجع على الشق الأيمن؛  لأنه السنة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 

وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وولده، وماله، والناس أجمعين» .

فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه، وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه، ومن هذا يمكن أن يقال: إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع، وأعمال في أشكال لا أصل لها، يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - عما لا يرضاه - صلى الله عليه وسلم -.

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم هذا اليوم بالصوم، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين، ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور.

ومع ذلك، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين، بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة، وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية.

وختاما: فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير، أن يكون عملا إيجابيا فيه حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع، كما قال ابن تيمية. وبالله تعالى التوفيق.

تنظر الحلقة السابقة هنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين