حسن الجوار من آداب الإسلام

 

قال الله تعالى في وصيته بالإحسان إلى طوائف من الناس: [ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ] {النساء:36}.

البيان:

لستُ أدري ما الذي يَدفع بعض الناس إلى عداوة جيرانهم، وتنغيص عيشهم، وجعل الحياة عليهم جحيماً وعذاباً أليماً؟ أهي غريزة التلذُّذ بعذاب الناس؟ أم هي الغيرة المجنونة من نعمة كريمة يَعيش فيها أولئك الجيران، فتدفعهم هذه الغيرة إلى التنفيس عن أنفسهم، بإبدال نعمى الحياة على جيرانهم شقاءً وعلقماً، وحلوها مراً وصاباً، فتستريح بذلك نفوسهم حين تتعبها الغيرة العارمة؟ أم هي النظرة الحمقاء إلى الحياة، فلا يرونها إلا شِجَاراً وخلافاً، وصخباً وعُنفاً فإذا خلت الحياة من ذلك زعموها ميتة أهل القبور.

ليست الحياة كما تفهمون أيها الحاقدون، إنَّها لِين الجانب، وتبادل المودَّة، وابتسامة البِشر والرضا، وسكون النفس، وهدوء البال، والبُعد عن المكاره والرغبة في الخير.

وليس أولى بحسن المعاملة وتبادل المودة من الجيران، فإنهم عِوض عن الأقارب والأرحام والأصهار، أليس الرجل منا يترك أهله وذوي قرباه وأصهاره، ليعيش بين أولئك الجيران، فعليه أن يحسن مُعاملتهم، حتى إذا مسَّته ضراء سارعوا إلى نجدته ومعونته، وإذا غمرته سرَّاء فرحوا لمسرته، وكانوا له أهلاً بدل أهله، وصهراً بدل صهره، فهم أقرب إليه، وأسرع إلى تلبية ندائه منهم.

إنَّ الإسلام رتَّب للجيران حقوقاً لم يُعنَ بمثلها دِين من الأديان، ولم يجعل هذه الحقوق خاصَّة بالمسلمين، بل أوجبها لكل جارٍ مهما كان دينه، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)– الحديث متفق عليه بين كتب السنة –

فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم: إكرامَ الجار من آثار الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر، ولم يقيِّد إكرامه بأن يكون مُؤمناً.

ولقد ارتفع الإسلام بحقِّ الجار حتى جعل من يُؤذيه ضعيف الإيمان إلى درجة تشبه العدم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبدٌ حتى يأمن جارُه بوائقَه) والحديث متفق عليه.

ولقد عُني جبريل بتوصية النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنَّه سيُورِّثه) والحديث متفق عليه أيضاً.

ومن كان يُؤذي جيرانه فلا تشفع له صلاته ولا صيامه، فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ فلانةً تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها) فقال صلى الله عليه وسلم: (هي في النار). أخرجه أحمد والحاكم، من حديث أبي هريرة، وقالا: صحيح الإسناد.

إحسان السلف إلى جيرانهم من أهل الكتاب:

وكان السلف الصالح لا يَبخلون بالإحسان على جيرانهم من أهل الكتاب، ويرونهم داخلين في الوصية بالجار، قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وغلام له يسلخ شاة، فقال يا غلام: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال: (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزلْ يوصينا بالجار حتى خشينا أنَّه يورثه).

فأنت ترى أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يُكرِّر على غلامه الأمر بأن يبدأ بجاره اليهودي فيعطيه قبل غيره من شاته التي يسلخها، ويحتجُّ لذلك بأنَّه صلى الله عليه وسلم أطلق الوصية بالجار، ولم يخصَّ المسلمين، وكان الحسن لا يرى بأساً أن تُطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيتك.

دستور الإسلام في مُعاملة الجار:

إذا تتبّعنا سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُعاملة المسلمين بعضهم بعضاً، وفي مُعاملة الجيران، استطعنا أن نأخذ منها المبادئ الآتية: لنجعل منها دستوراً ومنهاجاً في مُعاملة الجيران يضمن السلام والمودة، ويستتبع هدوء النفس وراحة القلب، وتبادل النفع ودفع الضر، وإليك هذه المبادئ: يَنبغي أن تبدأ جارك بالسلام، وتفرح لفرحه، و تتألم لألمه، ولا تبحث عن عوراته، وإذا ظهر لك شيء من زلاته حاد به عن جادة الهدى، فانصحه برفق، وكن لأولاده أباً أو أخاً، وإذا مرض عُدْتَه، وإذا استعانَ بك أعنته، وإذا استشارك أخلصت له الرأي، وإذا ناله خيرٌ هنَّأته، وإذا نزلت به مُلمَّة سليته وعزيته.

وعليك أن تغضَّ البصر عن محارمه، وتحافظ على كرامة ذويه، وألا تقتحم بيته بغير استئذان، وأن تلزمَ أهلك الاحتشام والبعد عن مجالسة جارك، وأن تحذر رفع الكُلفة بين أهلك وبين جيرانك، فكم من مصائب نزلت بالأسر المجتمعة ففرَّقتها، وكم من عَفَّة وحَصَانة أصابتها الفتنة فحطمَّتها، وكل ذلك ناشئة من رفع الكلفة بين الرجال والنساء، جيراناً كانوا أو غُرباء، وفتنة الجار أقوى من فتنة سواه، فالتزام الحشمة والتصوُّن واجب بصفة عامَّة، وعلى الجيران بصفة خاصَّة، ومن التزم شرع الله حفظه الله من فتنة سواه.

ومن أدب الجار أن يحرص على بقاء المودَّة بين أولاده وأولاد جاره، فلا يسلطهم عليهم، ولا يوغر صدورهم نحوهم، وإذا غاب جارك عن بيته فلا تَغفل عن ملاحظته حتى يعود.

نماذج من أدب البر بالجار:

قال أبو ذرٍّ الغِفَاري رضي الله عنه: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا طبخت قدراً فأكثر ماءَها، ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها) أخرجه الإمام مسلم.

وإذا لم يتَّسع خيرك لجيرانك المستحقين للبر، فأعطِ أقربَهم إليك، قالت عائشة: يا رسول الله: إنَّ لي جارين، أحدهما مُقْبل عليَّ ببابه، والآخر ناءٍ ببابه عني، وربما كان الذي عندي لا يسعهما، فأيهما أعظمُ حقاً، قال: (المقبل عليك ببابه) أخرجه البخاري.

والإسلام يرى وجوب تكافل أهل الحي، فإن عجز أحدهم عن الكسب ومات جائعاً كانوا آثمين، وكانت قسوتهم هذه أَمارة على ضعف الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جانبه طاوٍ – أي جائع –) رواه الحاكم، وصححه الذهبي في التلخيص. 

وقال: (أي رجل مات ضياعاً بين أغنياء، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله) [لم أجده].

وعن الحسن البصري قال: (لقد عهدت المسلمين وإن الرجل منهم يصيح فيقول: (يا أهيله يا أهيله: يتيمكم يتيمكم، يا أهيله يا أهيله: مسكينكم مسكينكم، يا أهيله يا أهيله، جاركم جاركم) رواه البخاري في الأدب المفرد.

وإذا أهداك جارك هدية صغيرة فلا تحتقرها، فإنَّ الهدية مهما كانت قيمتها أو حجمها فهي سبيل المودَّة، وبرهان على أنَّك في ذهن جارك وقلبه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشرَ المسلمات، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) أخرجه البخاري ومسلم، وفِرْسِن الشاة: حافرها.

وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن احتقار الهديَّة، لما فيه من كسر قلب مُهْديها الذي لم تتَّسع حاله لأكثر منها.

وبلغ من اهتمام النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالجيران الفقراء، أنَّه صلى الله عليه وسلم أوصى المياسير، أن يكونوا بارِّين بهم كلما طبخوا طعاماً، قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم وقال: (إذا طبخت قدراً فأكثر ماءها، ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها)، يعني: أنَّ البر بالجار الفقير لا يكون شيئاً عابراً أو من باب الصدفة، بل يكون أمراً رتيباً كلما وُجد داعيه.

حرص السلف على رضا الجيران:

رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولده عبد الرحمن يناجي جاراً له – أي يزعجه – فقال له: لا تناجِ جارَك، فإنَّ هذا يبقى والناس يذهبون.

وقال الحسن بن عيسى النيسابوري: سألت عبد الله بن المبارك فقلت: الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً، والغلام ينكره، فأكره أن أضربه ولعله بريء، وأكره أن أدعه – أي أترك عقابه – فيجد عليَّ جاري – أي يغضب – فكيف أصنع؟

قال ابن المبارك: إنَّ غلامك لعله أن يحدث حدثاً يَستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه – أي: لا تعجل بضربه من أجل هذا الحدث – فإذا شكا جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث – وهذا تلطُّف في الجمع بين الحقين ولو أن ذلك الجار أحسن إلى غلام جاره بالعفو عنه وحسن مُعاملته، لما احتاج إلى أن يشكوه إلى سيده، فإنه يراه بعد ذلك شديد المودَّة له، فالإنسان عبدُ الإحسان، وقد ندب الله تعالى عباده للعفو وجعله نوعاً من الإحسان يستتبع حبَّ الله تعالى، وذلك في قوله سبحانه: [وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134}.

خلال المكارم كما تراه عائشة رضي الله عنها:

قالت عائشة رضي الله عنها: خِلال المكارم عشر، تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمُّم للجار – أي البعد عن العيب معه – والتذمم للصاحب، وقِرى الضيف، ورأسهنَّ الحياء.

سعادة المرء المسلم وشقاؤه:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع، والجار الصالح والمركب الهنيء) أخرجه الإمام أحمد والحاكم، وقالا: صحيح الإسناد.

وقال صلى الله عليه وسلم (اليمن والشؤم في المرأة والمسكن والفرس، فيُمن المرأة خِفَّة مهرها، ويسر نكاحها، وحسن خُلُقها، وشؤمها غلاء مهرها وعُسر نكاحها، وسوء خُلقها، ويُمن المسكن سعته، وحسن جوار أهله، وشؤمه ضيقه وسوء جوار أهله، ويمن الفرس ذله وحسن خُلقه، وشؤمه صعوبته وسوء خلقه) أخرجه الإمام مسلم.

ومن سعادته أن يُسعف جارَه، وينتشله من كبوته الماليَّة إن قَدِر على ذلك، ليكون على المستوى الرفيع الذي دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). 

ومن أمثلة ذلك أنَّ ابن المقفَّع بلغه أنَّ جاراً له يبيع داره في دَينٍ رَكِبَه، وكان يجلس في ظلِّ داره، فقال: ما قمت إذن بحرمة ظلِّ داره إن باعها مُقدَّماً، فدفع إليه ثمن الدار، وقال: لا تبعها.

واعلم أنَّ شهادة الجار لجاره برهان على إحسانه واستحقاقه أجر المحسنين السعداء، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت، قال: (إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون قد أسألت فقد أسأت) أخرجه أحمد والطبراني، وإسناده جيد.

لا تبع دارك قبل عرضها على جارك:

ومن أدب الإسلام أنَّك لا تبيع دارك أو أرضك حتى تعرضها على جارك، مُراعاة لحرمة الجوار، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبيعه حتى يعرضه عليه) أخرجه ابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه، والحاكم. وقالا: صحيح الإسناد.

أي: من كان له جار في بستان يَملكه وحدَه أو يشاركه فيه جاره، فلا يبيعه لغيره حتى يَعرضه عليه.

ولابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنه – رجاله رجال الصحيح-: (من كانت له أرض فأراد بيعَها فليعرضها على جاره).

وبعد فهذه جولة مباركة حول حقوق الجار وواجباته، وقد تمتَّعنا فيها بعبير كتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح رضي الله عنهم، أسأل الله تعالى أن ينفع بها كلَّ مسلم ومسلمة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة الثانية والخمسون، ربيع الثاني 1400 مارس 1980م- الجزء 3).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين