الاحتلال الروسي لتركتستان

حدث في الثالث والعشرين من ربيع الأول

 

 في الثالث والعشرين من ربيع الأول من سنة 1284=26/7/1867 أعلنت روسيا القيصرية في مدينة طشقند إنشاء ولاية تركستان الروسية، وذلك بعد حرب دامت قرابة 20 عاماً احتلت فيها روسيا مدن وقصبات تركستان واحدة تلو الأخرى.

 

وقبل الحديث عن هذه الوقائع التاريخية نبدأ بتحديد تركستان جغرافياً معتمدين على الموسوعة البريطانية التي تقول : إنها منطقة في آسيا الوسطى أغلبية سكانها من الشعوب التركية، وتحدها من الشمال سيبريا، ومن الجنوب التيبت والهند وأفغانستان وإيران، ومن الشرق صحراء جوبي، ومن الغرب بحر قزوين، وتبلغ مساحتها نصف مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وتتوزع هذه المنطقة اليوم جمهوريات تركمنستان وأُزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان والجزء الجنوبي من كازاخستان، إلى جانب تركستان الشرقية في الصين التي يقطنها الشعب الإيغوري.

 

وكان الإعلان في سنة 1284 حصيلة توسع روسي في هذه المناطق بدأ قبل قرابة 200 سنة، وابتدأ عندما بنى الروس في سنة 995=1587حصناً على نهر الإرتيش، الذي ينبع من الصين ويتجه شمالاً داخل روسيا، وذلك بهدف حماية الطريق التجاري بين الصين وبين روسيا، ولكن المحاولات الاستعمارية الفعلية بدأت في عهد القيصر بطرس الأكبر، الذي جلس على عرش روسيا، وهو في العاشرة، سنة 1093=1682 وبقي فيه 43 سنة، منها 30 سنة بمفرده، حتى وفاته سنة 1137=1725، فقد أرسل في سنة 1126=1714، والسنة التي تليها، قوة عسكرية حاولت إنشاء قاعدة لها على نهر الإرتيش في مناطق الجونغار، وهم إحدى قبائل المغول البوذية، فطردتهم، وعاود الروس المحاولة في سنة 1720 وكان الجونغار قد دخلوا في نزاع مع الصين أضعفهم كثيراً، فلم يتعرضوا للروس الذين استغلوا ذلك وقاموا ببناء عدة حصون على النهر.

 

وفي نفس الفترة تقريباً حاول الروس التوسع في جنوب الأورال، فأرسلوا في سنة 1129=1717 قوة يقودها الأميرالكساندر تشركاسكي بهدف احتلال إمارة خيوة المهيمنة على منطقة خوارزم، وهزم الروس أمير خيوة في المعركة، فأظهر الاستسلام لهم، ثم احتال على قواتهم وقضى عليها قضاءً مبرماً.

 

وتابع الروس التوسع وفقاً لما تمكنهم به الأحوال السياسية والعسكرية والاقتصادية، فبنوا على مدى سنوات طويلة عدداً من الحصون على حدود سيبريا الجنوبية، وحاولوا ثانية احتلال خيوة في سنة 1255=1839 ولكن البرد القارس أعاق تلك الحملة، فقد ماتت بسببه جمالهم، فعادوا أدراجهم.

 

وتابعت روسيا توسعها المتمهل على امتداد نهر سيحون ،ويدعى اليوم سيرداريا، فكانت إذا أقامت حصناً في منطقة تريثت سنة أو سنتين ثم تقدمت ما استطاعت لبناء حصن آخر، وفي سنة 1269=1853 حققت أول انتصار كبير لها في خُجند، حين حاصرت حصناً يدعى المسجد الأبيض واستولت عليه، وكانت قد حاصرته من قبل وفشلت، وبانتهاء الحملة صارت تسيطر على مسافة 300 كيلومتراً على امتداد نهر سيحون، والذي ينبع رافداه من ثلوج جبال ألتاي في سينكيانج ويلتقيان في فرغانة ثم يسير حتى يصب في بحر أرال، أو بحيرة خوارزم كما يسميه الجغرافيون المسلمون، وتكمن أهمية النهر لكون ضفافه من أخصب مناطق وسط آسيا، وكانت الزراعات المنتشرة على ضفتيه وبخاصة زراعة القطن هي الدافع الاقتصادي الأول للاحتلال الروسي.

 

وفي سنة 1851 وقعت الصين وروسيا اتفاقية كولجا لتنظيم التجارة عبر الحدود المستجدة بينها، وفي سنة 1864 وقعتا اتفاقية تارباجاتاي التي حددت حدود الصين مع كازخستان، وتخلت الصين ضمناً عن أية مطالب لها في كازخستان.

 

وتحركت روسيا كذلك في شرق تركستان فعبرت هضبة الكزخ الشرقية في سنة 1847، وأنشأت سلسلة من الحصون في المناطق الزراعية الخصبة على سفوح الجبال في شمال قرغيزستان، وأرسلت روسيا في سنوات 1864-1868 حملة إلى الجنوب بقيادة الجنرال تشرنايف بغرض الاستيلاء على بعض المواقع، ولما حقق ذلك اندفع تشرنايف وهاجم طشقند على حين غرة في سنة 1281=1864، ولكنه انسحب بسرعة عندما تبين أنه لن يستطيع التغلب على قواتها الأكثر عدداً، وعاود الروس هجومهم بعد 6 أشهر، وحاصروا طشقند شهرين جرت خلالها معارك أوشك في إحداها جيش خجند بقيادة ولي العهد عالم قولي أن يهزم الروس، ولكن مقتل قائده جعله ينسحب، واستنجد أهل طشقند بأمير بُخارى مظفر الدين بن نصر الله وأعلنوا ولاءهم له، فأرسل قوة نجدة سريعة، وبدأ في تجميع قوات لفك الحصار، وأدرك القائد الروسي ما يتهدده من خطر، فقرر المغامرة بهجوم سريع قبل أن تصل قوات بخارى، فاقتحم في موضعين أسوار المدينة تحت جنح الظلام في 2 صفر سنة 1282=27/6/1865 واستطاع اقتحامها بعد 3 محاولات والاستيلاء عليها بعد معارك دامت يومين، استسلمت بعدها المدينة.

 

وهكذا دخلت إمارة بخارى الحرب، وقرر تشرنايف بعد 7 أشهر أن يهاجمها فدخل أراضيها، ولكنه أدرك فوراً خطأ ذلك، فقد كانت في انتظاره قوات بخارى وقد انضمت إليها قوات خجند، وقامت هيئة الأركان الروسية بتأنيب تشرنايف على مخالفته الأوامر واستدعته إلى موسكو، وعينت محله القائد رومانوفسكي.

 

وبدأ رومانوفسكي في تحضيراته للهجوم على بخارى، ولكن أميرها بادره بالهجوم في سهل إرجار، وكانت الدائرة على جيش بخارى الذي تشتت وخسر كثيراً من أسلحته، وبدلاً من أن يتعقب رومانوفسكي الجيش المنهزم، اتجه شرقاً واحتل خجند فأغلق بذلك وادي فرغانة، ثم اتجه غرباً واحتل بعض حصون بخارى، وأدرك أمير بخارى حرج موقفه فبدأ مفاوضات سلام مع الروس.

 

وفي نفس الفترة أعلن الروس إنشاء مقاطعة تركستان الروسية في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 1284= 26/7/1867، وجعلوا حاكمها الجنرال قسطنطين فون كاوفمان، ذا الأصول الألمانية، والذي أخذ على عاتقه توطيد وجود الإمبراطورية الروسية في آسيا الوسطى، وبقي في منصب حاكم المقاطعة حتى وفاته سنة 1093=1682 عن 64 سنة.

 

وشنَّ فون كاوفمان حملة عسكرية ناجحة على إمارة بخارى في السنة التالية، واستولى على عاصمتها سمرقند، ثم تابع إخضاع بقية البلاد بالتدريج، وفي 14 ربيع الأول سنة 1285=5/7/1868 وقع خان بخارى اتفاقية وضع بموجبها بلاده تحت الحماية الروسية، وهي الاتفاقية التي منحت بخارى، دون سمرقند، نوعاً من الحكم الذاتي دام حتى الثورة البلشفية في سنة 1336=1917.

 

وفي سنة 1290=1873 شن الجنرال فون كاوفمان حملة أخرى على إمارة خيوة واستولى على عاصمتها وأجبر أميرها الخان خضر يار أن يعترف بتبعيته لروسيا، وأعقب ذلك في سنة 1292=1875 بحملة على خجند التي كان أهلها قد انقلبوا على خضر يار بسبب خضوعه للروس وأقاموا محله الخان ناصر الدين، وبهزيمته للخان ناصر الدين أنهى الجنرال كاوفمان استقلال إمارة خجند، واحتل أنديجان، وأعلن ضم ما تبقى من وادي فرغانة إلى روسيا، وفي سنة 1301=1884 احتل الروس مدينة مرو، وهكذا وصلت حدود روسيا الجنوبية إلى أفغانستان، مما أثار قلق الحكومة البريطانية التي احتجت رسمياً على تهديد مصالحها في أفغانستان، فأمر القيصر الكساندر الثاني بوقف التوسع نحو الجنوب.

 

وأبدى فون كاوفمان كفاءة في الحكم تماثل كفاءته العسكرية، وقام بمبادرات علمية لاستكشاف هذه المناطق والتعرف عليها حتى يتم استيعابها ضمن روسيا بأفضل الوسائل، فاستقدمت حكومته علماء في الطبيعة والاجتماع والإحصاء قاموا بدراسة المنطقة وسكانها وفقاً لاختصاصاتهم، بهدف إذابة هذه سكان المناطق واستيعابهم في النسيج الروسي، ومن هذه الدراسات كتاب مصور من 6 أجزاء تضمن صوراً للأعراق والديانات في تركستان ومعالمها وآثارها وصناعاتها وتجاراتها.

 

وكان فون كاوفمان يتمتع بصلاحيات مطلقة يفترض أن تذلل له الصعاب، فقد جعله القيصر نائبه المطلق في المنطقة، ولم يكن عليه الرجوع لموسكو في أي أمر، ولكنه لم ينجح في مخططه،، لأن السكان المسلمين لم تنكسر شوكتهم المعنوية بعد انكسارهم في ميدان القتال، فبقي أغلبهم ينظر للثقافة الروسية على أنها ثقافة أجنبية دخيلة.

 

وفي المقابل واجه الجنرال فون كاوفمان في الطرف الروسي عوائق كبيرة كذلك، رغم أنه بذل جهداً غير مألوف ليكسب تأييد رجالات الدولة والرأي العام الروسي، ونشر كثيراً من الأبحاث التي قام بها علماؤه لإطلاع الرأي العام الروسي عليها، ولكن كانت أنظار الحكومة القيصرية لا تتعدى أوروبا، وكان كبار رجالات القيصر لا يتوقعون، ولا يريدون، أن يضموا للإمبراطورية هؤلاء المسلمين القاطنين في هذه المناطق النائية والشاسعة والمعزولة عن روسيا الأوروبية.

 

ولذلك بقيت تركستان معزولة إلى حد كبير عن بقية روسيا، وبقي حكمها في قبضة الجيش الروسي، ولما فرضت الحكومة الروسية تغيير الحروف إلى من العربية إلى الروسية، وجعلت التعليم في المدارس باللغة الروسية، قاطع أهل تركستان هذه المدارس في أول الأمر فشاعت الأمية بينهم، وساهم في عزلتهم كذلك أن الحكومة القيصرية أعفتهم من التجنيد الإجباري في الجيش الروسي، بدافع من نزعتها الدينية الأرثوذكسية الممتزجة بالوطنية الروسية، وكذلك بسبب أن أغلب حروب القيصر آنذاك كانت مع دولة الخلافة العثمانية، وكان الزج بجنود مسلمين فيها غير مأمون العواقب خشية انضمامهم للطرف المسلم.

 

واتجهت روسيا كذلك شرقاً للسيطرة على المنطقة الواقعة بين بحر آرال وبين بحر قزوين وكذلك خراسان الإيرانية، وقام الجنرال الروسي ميخائيل سكوبيليف بحملة عسكرية اتصفت بالقسوة والوحشية وسفك فيها كثيراً من الدماء البريئة، ووصلت إلى مدينة عشق أباد على بعد 30 كيلومتراً من الحدود الإيرانية.

 

ولم تكن هذه السياسات الاستعمارية للدولة القيصرية الروسية من نصيب المسلمين فقط، بل كان للشعوب غير المسلمة، كالأكرانيين مثلا، نصيبهم الأقل من الكبت والاضطهاد، وكذلك لم يقتصر التوسع الاستعماري الروسي على البلاد المسلمة، بل تطلعت روسيا للاستيلاء على منشوريا، ولما وقعت ثورة البوكسر في الصين في سنة 1900، وانشغلت دولتها برد التدخل الأوروبي العسكري، انتهزت روسيا ذلك وحركت قواتها إلى منشوريا، وأزعج ذلك اليابان التي كان تعتبر منشوريا ضمن دائرة نفوذها، وسعت اليابان للتفاهم مع روسيا، وعرضت أن تترك لها منشوريا مقابل كوريا التي كانت اليابان تعتبرها في دائرة نفوذها وتتطلع لاحتلالها، ولكن القيصر لم يقبل المقايضة لاختلاف آراء مستشاريه حولها، فتوترت الأجواء بين البلدين، وخشيت بريطانيا أن تصبح روسيا في موقع مهيمن على الحكومة الصينية فتضر بمصالحها في الصين، فتحالفت في سنة 1902 مع اليابان التي هاجمت في أول سنة 1904 ميناء بورت آرثر الروسي، ونشبت حرب برية وبحرية طاحنة يين البلدين انجلت عن هزيمة مذلة لروسيا.

 

وبعد هذه الهزيمة قامت في روسيا ثورة قوامها العمال والمزارعين مطالبين ببعض الحقوق، وعلى إثرها أعلن القيصر نيقولا الثاني في سنة 1324=1905 إنشاء مجلس للنواب تنتخبه الولايات الروسية، ويسمى الدوما، وعلى إثر ذلك تجمع المسلمون من أنحاء روسيا، وأعلنوا إنشاء حزب سياسي أسموه حزب الاتفاق الإسلامي، وشاركوا في الانتخابات، وأوصلوا منهم 24 نائباً إلى الدوما الأولى التي ما لبث القيصر أن حلها بعد شهرين، وجرت انتخابات الدوما الثاني في سنة 1325=1907 وشارك فيها المسلمون كذلك وأوصلوا 36 نائباً إلى الدوما الثانية.

 

وفي نفس الفترة ازدهرت تركستان اقتصادياً بفضل زراعة القطن، وقامت فيها مصانع للنسيج كانت تزود قسماً كبيراً من احتياجات روسيا، وقام أثرياء تركستان بتمويل حركة واسعة للنهوض بالتعليم الذي يجمع بين الإسلام والعلوم العصرية، وأقاموا عدداً كبيراً من المدارس للذكور والإناث في أرجائها.

 

ولم تدم الدوما الثانية سوى 3 أشهر، إذ  ما لبث القيصر أن حلها، وقامت الحكومة الروسية بسن قانون جديد للانتخابات التي أجريت بعد 6 أشهر، ولم ينجح فيها أحد من المسلمين في الوصول للدوما الثالثة، وأدى ذلك لخيبة أمل كبيرة في أوساط الزعماء التركستانيين، وهاجر كثير منهم إلى تركيا بإغراء من حكومة تركيا الفتاة التي كانت تتبنى سياسة القومية التركية، وتطمح لضم تركستان تحت نفوذها.

 

وبعد ذلك ببضع سنوات قامت الحكومة القيصرية بمحاولة شاملة لتحويل تركستان إلى منطقة روسية، فجلبت إليها أعداداً ضخمة من الروس والأُكرانيين ومنحتهم الأراضي الخصبة المروية، وأدى ذلك إلى انتفاضة المسلمين في تركستان في سنة 1916، والتي لم تطالب بالانفصال عن روسيا، بل طالبت بوقف الهجرة والاعتراف بحقوق المسلمين في التعليم الإسلامي والاحتكام للشريعة، وسحقت الحكومة القيصرية الانتفاضة بكل قسوة، وقررت تجنيد المسلمين في الجيش الروسي، وزاد هذا في النقمة عليها.

 

وبعد الانقلاب الشيوعي في سنة 1917 ووعوده في الحرية لكل شعوب روسيا، عقد مسلمو تركستان مؤتمراً عاماً في خُجند وأعلنوا فيه حكومة محلية برئاسة مصطفى شوكايف، ولكن الحكومة لم تدم سوى بضعة شهور، فقد أخمدتها قوات الجيش الأحمر المرسلة من طشقند، وأدى هذا إلى اندلاع ثورة في تركستان في سنة 1337=1919 دعيت ثورة البصمه جي.

 

وقام بالثورة مجموعات من المسلمين الملتزمين، وانضم إليهم أنور باشا أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي، الذي لجأ إلى روسيا بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وكان مجافياً لرفيق الأمس مصطفى كمال أتاتورك الذي صار الحاكم المطلق في تركيا، واتجه أنور باشا خلسة إلى تركستان، وقاد ثورتها بتنظيم عسكري ناجح فاستولى على مناطق كثيرة منها، وأصبحت تركستان قاب قوسين من الخروج من الربقة البلشفية، ودعاه الشيوعيون للصلح والتفاوض، فأبى إلا الاستقلال الذي تتطلع إليه جماهير تركستان.

 

وكان الشيوعيون يعانون من نقص القوات المؤيدة لهم بين التركستانيين، فلما أدركوا ألا تفاهم مع أنور باشا بدأوا في جلب العساكر إلى المنطقة من السلافيين والأوروبيين، ومع نجاح أنور باشا الظاهري إلا أنه عانى من أن صفوف الثوار كانت خليطاً من المخلصين والخارجين على القانون، وأن زعماء الثورة لم يفتأوا متشاكسين متنافرين متنافسين متحاربين، وبسبب ذلك كله استطاع الروس القضاء على الثورة واستشهد أنور باشا في يوم عيد الأضحى من سنة 1340=4/8/1922، وألغى الجيش الأحمر خانية خيوة وإمارة بخارى، وصادر باسم التأميم الشيوعي الممتلكات والأراضي.

 

وبعد تشكيل الاتحاد السوفياتي في سنة 1341=1922، قررت الحكومة الشيوعية التخفيف من المشاعر الإسلامية في تركستان بواسطة تقسيمها إلى عدة جمهوريات على أساس عرقي يحكمها شيوعيون من أبنائها، وقامت حكومتا لينين وبعده ستالين بإحصاء القوميات والأعراق الموجودة في تركستان، وقسمت المنطقة وفقاً لذلك، وهكذا خرجت إلى الوجود خمس جمهوريات سوفياتية هي: أُزبكستان وتركمنستان وقرغيزستان وطاجكستان وكازخستان، وألغى السوفيات رسمياً اسم تركستان في سنة 1924.

 

وتعرضت هذه الجمهوريات لأذى شديد في حملات التطهير التي قام بها الشيوعيون في سنوات 1930 والتي هدفت لتحويلها إلى مناطق روسية السكان والثقافة، وعلى سبيل المثال تعرضت أزبكستان في أثناء الحرب العالمية الثانية لهجرة واسعة النطاق نظمتها الحكومة السوفياتية ونقلت إليها مئات الألوف من الروس والبولنديين واليهود من الموظفين والمثقفين والمفكرين وبثتهم في أنحاء البلاد، وفرضت على أزبكستان عزلة شديدة فلا يدخلها من ليس مقيماً فيها إلا بتصريح، ولم يتنفس سكان هذه المناطق الصعداء إلا بعد موت الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين في سنة 1953، حيث تراخت قبضة الاضطهاد بعض الشيء واستطاع الأزبكيون إحياء بعض بقايا مؤسساتهم الثقافية.

 

وبعد انحلال الاتحاد السوفياتي أعلنت هذه الجمهوريات استقلالها، ولكن شعوبها لم تنل حرياتها، فقد بقي الحكم فيها تحت وطأة مستبدين فاسدين كمموا الأفواه وتلاعبوا بالانتخابات، وأهدروا ثروات البلاد.

 

ونقف هنا لنستعرض باختصار تاريخ هذه البلاد في صدر الإسلام فنقول: فتح المسلمون تركستان في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس، الذي فتح مرو في سنة 32، وفي أيام عبد الملك بن مروان تابع الفتح قتيبة بن مسلم الباهلي ففتح بيكند وبخارى وسمرقند ثم اتجه شرقاً وفتح كشغر، وبني أول مسجد في بخارى سنة 94.

 

ولتركستان علاقة وئيقة ووشيجة قوية مع بقية العالم الإسلامي، فقد قدمت فرغانة وأشروسنة جنوداً أشداء وقواداً عظماء قاتلوا مع الخليفة العباسي المعتصم أحسن قتال، ومن قرغيز انطلق السلاجقة الذين نصروا الإسلام وكسروا الدولة البيزنطية فتوقفت عن التفكير بغزو المناطق المسلمة، وكان ملوك تركستان مسلمين حسني الإسلام، يشكلون منطقة عازلة بين الصين وبين المسلمين، ومنهم الملك طغان خان التركي، المتوفى سنة 408، وكانت عاصمته بلاساغون، في شمال قرغيزستان اليوم، والذي قصدته جيوش قبائل الخطا من شمال الصين في جموع ما سُمع بمثلها، وكان مريضا فقال: اللهم عافني لأغزوهم، ثم توفني إن شئت. فعوفي، وجمع عساكره وساق عليهم فهاجمهم ليلاً وهزمهم هزيمة منكرة، ورجع بغنائم لا تحصى، فتوفاه الله عقيب وصوله.

 

وحكم السلاجقة المنطقة عدة قرون، وفي سنة 470 جعل السلطان ملكشاه واليا على خوارزم مولى له اسمه نوشتكين، وبقيت سلالة نوشتكين تحكم خوارزم في ظل السلاجقة حتى سنة 535 عندما وقعت معركة قطوان بين ملك الخطا يلوداشي، ويسميه المؤرخون العرب كو خان، وبين السلطان السلجوقي سنجر، والتي هُزِم فيها السلاجقة هزيمة ما عرفوا مثلها من قبل، ودان ملوك المنطقة بعدها بالولاء للخطا، وبعد وفاة سنجر في سنة 552 زالت دولة بني سلجوق، وصعد نجم الدولة الخوارزمية التي بلغت أوجها في عهد خوارزم شاه علاء الدين محمد بن علاء الدين تِكش، والذي حكم من سنة 596 إلى سنة 617، وامتدت دولته من حدود الهند إلى الأناضول، بل وسار سنة 614 إلى بغداد بغرض احتلالها والتحكم بالخليفة العباسي، قبل أن تمنعه الثلوج من متابعة مسيره، وهاجم خوارزم شاه المناطق الشرقية للدولة الأيوبية والسلجوقية، والواقعة اليوم في جنوب شرقي تركيا، وبذلك ساهم في إضعافها أمام الصليبيين ومن بعد ذلك أمام المغول.

 

وسرعان ما أفل نجم الدولة الخوارزمية، فقد كان علاء الدين محمد سفاكاً للدماء مبيراً للقرى، مكاراً لا أمان ولا عهد له، تعاون مع ملوك تركستان لطرد الخطا منها، ثم انقلب عليهم وقضى على ممالكهم ليستأثر بتركستان، فأخلى البلاد ممن كان يدافع عنها، وخلخل اقتصادها وضعضع بنيانها، ثم أساء التعامل مع إمبراطور الصين في قضية قافلة تجارية صينية نُهبت في أراضيه، فجلب عليه في سنة 616 الغزو المغولي بقيادة جنكيز خان، الذي وجد بلاده فريسة سهلة، ودمر المغول كثيراً من معالم تركستان الحضارية ومقومات اقتصادها، فلم تقم لها بعد ذلك قائمة لسنين طويلة.

 

وكان ياقوت الحموي مقيماً في خوارزم في تركستان، وتركها عند هجوم المغول عليها سنة 616، ويقول عن هذه الحقبة في معجم البلدان عند حديثه عن أسفيجَاب: حتى أتت على تلك النواحي حوادث الدهر وصروف الزمان أولاً من خوارزم شاه محمد بن تكش، فإنه لما ملك ما وراء النهر أباد مُلك الخانية، وكانوا جماعة قد حفظ كل واحد منهم طرفه، فلما لم يُبقِ منهم أحداً عَجَزَ عن حِفظِ تلك البلاد لسعة مملكتها، فخرّب بيده أكثر تلك الثغور وأنهبها عساكرَه فَجَلاَ أهلُها عنها، وفارقوها بأجياد مُلتفتة، وأعناق إليها مائلة منعطفة، فبقيت تلك الجنان خاويةً على عروشها، تُبكي العيون، وتُشجي القلوبَ، منهدمة القصور، متعطلة المنازل والدور... ثم تبع ذلك حوادث في سنة 616 التي لم يجر منذ قامت السموات والأرض مثلُها، وهو وُرُودُ التتر خذلهم الله من أرض الصين، فأهلكوا من بقي هنالك متماسكاً فيمن أهلكوا من غيرهم، فلم يبق من تلك الجنان المنضرة، والقصور المشرفة، غير حيطان مهدومة، وآثار من أمم معدومة، وقد كان أهل تلك البلاد أهل دين مَتين، وصلاح مُبين، ونسك وعبادة، والإسلام فيهم غَض المَجنى، حُلو المعنَى، يحفظون حدوده، ويلتزمون شروطه، لم تظهر فيهم بِدعةٌ استحقوا بها العذاب والجلاء، ولكن يفعل الله بعباده ما يشاء، ويحكم ما يريد.

 

قال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن ممالك تركستان: وهي ممالك طائرة السمعة، طائلة البقعة، أسرة ملوك، وأفق علماء، ودارة أكابر، ومقعد ألوية وبنود، ومجرى سوابق وجنود، كانت بها سلطنة الخانية، وآل سامان، وبني سبكتكين، والغورية، ومن أفقها بزغت شمس آل سلجوق، وامتدت في الإشراق والشروق.

 

وبعد الغزو المغولي ظهرت في المنطقة الدولة التيمورية المسلمة التي أسسها تيمور لنك، والمولود في كِش جنوب سمرقند سنة 736، والذي استولى على سمرقند سنة 762، وبسط سلطانه على المناطق الواقعة بين الهند وبين المشرق العربي، وعلى كل تركستان وروسيا التي كانت إمارة تدعى إمارة موسكو ، وقد زار ابن بطوطة تركستان في حوالي سنة 745 وأثنى على سلطانها علاء الدين طَرْمَشِيرين وتدينه، وضرب المثل بمحافظته على صلاتي العشاء والصبح في الجماعة.

 

وبعد موت تيمور لنك سنة 808، اختلف الأمراء على العرش، فبدأت إمارات دولته في الانفصال، وفي سنة 940=1533 تولى عرش إمارة موسكو الطفل إيفان الرابع، المولود سنة 937=1530، والذي استقل بالحكم سنة 953=1547متخذاً لقب القيصر، وهو أول حاكم روسي تلقب بذلك، وبدأ في شن الحروب للاستيلاء على أنقاض الدولة التيمورية، وكانت حروباً دموية مدمرة سُمى من أجلها بالرهيب، واستولى إيفان الرهيب على قازان سنة 960=1552 وعلى أستراخان سنة 963=1555، ثم كانت المرحلة الثانية ما سبق ذكره.

 

وكانت تركستان إحدى قواعد المعرفة والعلم في العالم الإسلامي، أخرجت علماء في مختلف العلوم والفنون، وكانت منطقة الشاش مقر العلماء، وهي اليوم طشقند، ومنها أبو بكر القفال الشاشي، محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، المولود سنة 291 والمتوفى سنة 365، من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء، وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده.

 

ومن فاراب في فرغانة خرج أبو نصر الفارابي، محمد بن محمد بن طرخان، المولود سنة 260 والمتوفى بدمشق سنة 339، والذي كان ماهراً في العلوم الفلسفية حتى سمي حكيم الأمة وفيلسوف الإسلام، ومن طَراز في جنوب كازخستان اليوم، خرج الإمام المحدث أبو عمرو الطَرَازي، سعيد بن القاسم، والمتوفى سنة 362، ومنها هاجر بعد الحكم الشيوعي الأستاذ مبشر محمد الطرازي المولود بطراز سنة 1314=1886 والمتوفى بالقاهرة سنة 1397=1977، والذي ترتبط حياته بمعالم الكفاح التركستاني ضد الروس والشيوعيين، والذي اضطر للهجرة إلى أفغانستان وعمل مع الملك محمد نادر شاه مستشاراً للشؤون الإسلامية ثم هاجر إلى مصر وتوفي فيها.

 

هذا حديثنا عن تركستان، أما الحديث عن تركستان الشرقية، التي ضمتها الصين إليها، فلنا معها حديث آخر إن شاء الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين