منهج سيد قطب في الرد على الانحرافات الفكرية

 

قال الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه " خصائص التصور الإسلامي" في فصل " كلمة في المنهج":

 

 ( وكلمة أخرى فى المنهج الذى نتوخاه فى هذا البحث أيضا" ..

 

      إننا لا نستحضر أمامنا انحرافا معينا من انحرافات الفكر الإسلامى ، أو الواقع الإسلامى، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله. بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلى لنا فيما نبذله من جهد فى تقرير"خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" .. إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور- فى ذاتها - كما جاء بها القرآن الكريم، كاملة شاملة، متوازنة متناسقة تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق هذه الفطرة وتوازنها .

 

      ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق فى دفعه، وصياغة حقائق التصور الإسلامى للرد عليه .. منهج شديد الخطر ، وله معقباته فى إنشاء انحراف جديد فى التصور الإسلام لدفع انحراف قديم .. والانحراف انحراف على كل حال ! ! !

 

      ونحن نجد نماذج من هذا الخطر فى البحوث التى تكتب بقصد الدفاع عن الإسلام فى وجه المهاجمين له، الطاعنين فيه، من المستشرقين والملحدين قديما وحديثا، كما نجد نماذج منه في البحوث التي تكتب للرد على انحراف معين ، فى بيئة معينة ، فى زمان معين !

 

      يتعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلا أن يتهم الإسلام بأنه دين السيف، وأنه انتشر بحد السيف .. فيقوم منا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا "الاتهام"! وبينما هم مشتطون فى حماسة "الدفاع" يسقطون قيمة "الجهاد" فى الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته، بأنها كانت لمجرد "الدفاع" ! - بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق ! - وينسون أن للإسلام-  بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية - حقه الأصيل فى أن يقيم "نظامه" الخاص فى الأرض ، لتستمتع البشرية كلها بخيرات هذا "النظام" .. ويستمتع كل فرد - فى داخل هذا النظام - بحرية العقيدة التى يختارها ، حيث "لا إكراه فى الدين" من ناحية العقيدة .. أما إقامة "النظام الإسلامى" ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقونها، فتقتضى الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحرارا فى عقائدهم الخاصة فى نطاقه. ولا يتم ذلك إلا بإقامة سلطان خير، وقانون خير، ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر فى الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد فى الأرض !

 

      وليس هذا إلا نموذجا" واحدا" من التشويه للتصور الإسلامى، فى حماسه الدفاع عنه ضد هجوم ماكر، على جانب من جوانبه !

 

      أما البحوث التى كتبت للرد على انحراف معين، فأنشأت هى بدورها انحرافا ، فأقرب ما نتمثل به فى هذا الخصوص ، توجيهات الأستاذ الإمام الشيخ "محمد عبده" ومحاضرات "إقبال" فى موضوع "تحديد الفكر الدينى فى الإسلام".

 

      لقد واجه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، بيئة فكرية جامدة ، أغلقت باب "الاجتهاد" وأنكرت على "العقل" دوره فى فهم شريعة الله واستنباط الأحكام منها، واكتفت بالكتب التى ألفها المتأخرون فى عصور الجمود العقلى وهي - فى الوقت ذاته - تعتمد على الخرافات والتصورات الدينية العامية! كما واجه فترة كان " العقل" فيها يعبد فى أوربا ويتخذه أهلها إلها ، وخاصة بعد الفتوحات العلمية التى حصل فيها العلم على انتصارات عظيمة ،وبعد فترة كذلك من سيادة الفلسفة العقلية التى تؤله العقل ! وذلك مع هجوم من المستشرقين على التصور الإسلامي، وعقيدة القضاء والقدر فيه، وتعطيل العقل البشرى والجهد البشرى عن الإيجابية فى الحياة بسبب هذه العقيدة .. الخ .

 

 فلما أراد أن يواجه هذه البيئة الخاصة، بإثبات قيمة "العقل" تجاه "النص" . وإحياء فكرة"الاجتهاد" ومحاربة الخرافة والجهل والعامية فى "الفكر الإسلامى" . . ثم إثبات أن الإسلام جعل للعقل قيمته وعمله فى الدين والحياة ، وليس - كما يزعم "الإفرنج" أنه قضى على المسلمين "بالجبر" المطلق وفقدان "الاختيار" .. لما أراد أن يواجه الجمود العقلى فى الشرق، والفتنة بالعقل فى الغرب، جعل "العقل" البشري ندا للوحي فى هداية الإنسان ، ولم يقف به عند أن يكون جهازا - من أجهزة - فى الكائن البشرى ، يتلقى الوحى ، ومنع أن يقع خلاف ما بين مفهوم العقل وما يجئ به الوحى . ولم يقف بالعقل عند أن يدرك ما يدركه، ويسلم بما هو فوق إدراكه، بما أنه - هو والكينونة الإنسانية بجملتها - غير كلي ولا مطلق ، ومحدود بحدود الزمان والمكان ، بينما الوحى يتناول حقائق مطلقة فى بعض الأحيان كحقيقة الألوهية ، وكيفية تعلق الإرادة الإلهية بخلق الحوادث .. وليس على العقل إلا التسليم بهذه الكليات المطلقة، التى لا سبيل له إلى إدراكها !…وساق حجة تبدو منطقية، ولكنها من فعل الرغبة فى تقويم ذلك الانحراف البيئي الخاص الذى يحتقر العقل ويهمل دوره .. 

 

قال رحمه الله فى رسالة التوحيد:

 

      " فالوحى بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله .. والعقل الإنسانى أثر أيضا من أثار الله فى الوجود ، وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض ، ولا يعارض بعضها بعضا " .

 

      وهذا صحيح فى عمومه .. ولكن يبقى أن الوحي والعقل ليسا نِدَّين . فأحدهما أكبر من الآخر وأشمل. وأحدهما جاء ليكون هو الأصل الذى يرجع إليها الآخر.

 

      والميزان الذى يختبر الآخر عنده مقرراته ومفهوماته وتصوراته ، ويصحح به اختلالاته وانحرافاته . فبينهما - ولا شك - توافق وانسجام، ولكن على هذا الأساس. لا على أساس أنهما ندان متعادلان، وكفو أحدهما تماما للآخر ! فضلا على أن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له فى دنيا الواقع، وإنما هو "مثال" !

 

      وقد تأثر تفسير الأستاذ الإمام لجزء "عم" بهذه النظرة تأثرا واضحا . وتفسير تلميذه المرحوم الشيخ رشيد رضا وتفسير تلميذه الشيخ المغربي لجزء "تبارك" حتى صرح مرات بوجوب تأويل النص ليوافق مفهوم العقل ! وهو مبدأ خطر. 

 

فإطلاق كلمة "العقل" يرد الأمر إلى شئ غير واقعي ! - كما قلنا - فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان .. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآن إلى "مقرراته" . وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة ، فإننا ننتهي إلى فوضى !

 

      وقد نشأ هذا كله من الاستغراق فى مواجهة انحراف معين .. ولو أخذ الأمر - فى ذاته - لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط ، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك وعرف للوحي مجاله . وحفظت النسبة بينهما فى مكانها الصحيح ..

 

      إن "العقل" ليس منفيا ولا مطرودا ولا مهملا فى مجال التلقى عن الوحى، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله، ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص محكمًا، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم ، وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح ، ويقيم منهجه على أساسه .

 

      ولقد واجه "إقبال" فى العالم الشرقى بيئة فكرية "تائهة" ! فى غيبوبة "إشراقات" التصوف "العجمى" كما يسميه ! .. فراعه هذا "الفناء" الذى لا وجود فيه للذاتية الإنسانية . كما راعته "السلبية" التى لا عمل معها للإنسان ولا أثر فى هذه الأرض - وليس هذا هو الإسلام بطبيعة الحال - كما واجه من ناحية التفكير الحسي فى المذهب الوضعي ، ومذهب التجريبيين في العالم الغربي ، كذلك واجه ما أعلنه نيتشه فى "هكذا قال زرادشت" عن مولد الإنسان الأعلى "السوبرمتان" وموت الإله ! وذلك فى تخبطات الصرع التي كتبها نيتشه وسماها بعضهم "فلسفة" !

 

      وأراد أن ينفض عن "الفكر الإسلامى" وعن "الحياة الإسلامية" ذلك الضياع والفناء والسلبية ، كما أراد أن يثبت للفكر الإسلام واقعية "التجربة" التى يعتمد عليها المذهب التجريبى ثم المذهب الوضعى !

 

      ولكن النتيجة كانت جموحا فى إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلا تأباه طبيعتها، كما تأباه طبيعة التصور الإسلامى؛ لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة  ولا حتى القيامة ، فالتجربة والنمو فى الذات الإنسانية مستمران أيضا - عند إقبال - بعد الجنة والنار . مع أن التصور الإسلامى حاسم فى أن الدنيا دار ابتلاء وعمل ، وأن الآخرة دار حساب وجزاء ، وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا فى هذه الدار ، كما أنه لا مجال لعمل جديد فى الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء .. لكن هذا الغلو إنما جاء من الرغبة الجارفة فى إثبات "وجود" الذاتية ، واستمرارها، أو الـ"أنا" كما استعار إقبال اصطلاحات هيجل الفلسفية .

 

      ومن ناحية أخرى اضطر إلى إعطاء اصطلاح "التجربة" مدلولا أوسع مما هو فى "الفكر الغربى" وفى تاريخ هذا الفكر؛ لكى يمد مجاله إلى "التجربة الروحية" التى يزاولها المسلم، ويتذوق بها الحقيقة الكبرى "فالتجربة" بمعناها الاصطلاحي الفلسفي الغربي، لا يمكن أن تشمل الجانب الروحي أصلا! لأنها نشأت ابتداء لنبذ كل وسائل المعرفة التى لا تعتمد على التجربة الحسية .

 

      ومحاولة استعارة الاصطلاح الغربى، هى التى قادت إلى هذه المحاولة  التى يتضح فيها الشد والجذب والجفاف أيضا، حتى مع شاعرية إقبال الحية المتحركة الرفافة !

 

      ولست أبتغي أن أنقص من قدر تلك الجهود العظيمة المثمرة فى إحياء الفكر الإسلامي وإنهاضه التى بذلها الأستاذ الإمام وتلاميذه، والتى بذلها إقبال .. رحمهم الله رحمة واسعة .. وإنما فقط التنبيه إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ هى انحرافا آخر، وأن الأولى فى منهج البحث الإسلامي، هو عرض حقائق التصور الإسلامي فى تكاملها الشامل، وفي تناسقها الهادئ، وَوَفْق طبيعتها الخاصة وأسلوبها الخاص .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين