تفسير سورة الفيل

 

في السنة التي وُلد فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم محمَّد بن عبد الله، وهي سنة 571 من ميلاد رسول الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وقعت بمكة واقعة الفيل، وكان لهذه الواقعة شأن ببلاد العرب كلها، إذ تجلَّت فيها آية من آيات عناية الله ببيته المحرَّم، وردّ كيد من أرادوا به السوء، وتجلَّت فيها مكانة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والتجاؤه إلى ربِّ البيت، وإيمانه بنصرته.

وتفصيل هذه الواقعة: أنَّ مملكة الحبشة لما استولت على بلاد اليمن في القرن السادس من الميلاد، تولَّى حكم اليمن من قبل نجاشي الحبشة حاكم اسمه أبرهة الأشرم، وكان حبشياً يَدين بالنصرانية التي تَدين بها الحبشة، فبنى بمدينة صنعاء عاصمة اليمن كنيسةً بالغَ في تفخيمها وتجميلها، وعمل على أن يولي العرب وجوههم إليها ويحجُّوها بدل الكعبة.

ولما لم تنجح جهوده السلميَّة في الوصول إلى هذه الغاية، عزم على أن يحقق غايته بوسيلة جهنميَّة وهي أن يهدم الكعبة ليخلو الجوُّ لكنيسة صنعاء.

ففي سنة 571 من الميلاد، جهَّز جيشاً من الحبشان، وهيَّأ له وسائل التخريب والتدمير، وخرج على رأس هذا الجيش ومعه فيلة كانوا يَستعينون بها على الفتك بالناس، وإلقاء الرعب في قلوبهم.

وسار هذا القائد بجيشه وفيلته قاصداً مكة، ولم يلقَ في طريقه إليها مُقاومة ذات شأن، وحتى وصل إلى موضع قريب من مكة بطريق الطائف اسمه المُغَلَّس فعسكر في هذا الموضع، وأرسل إلى مكة رسولاً يحمل إلى سيدِ قريش رسالة قال له فيها: (إني لم آتِ لحربكم، وإنَّما جئتُ لهدم البيت، فإن لم تَعرِضُوا دونَه فلا حاجة لي بدمائكم)، وكان سيد قريش يومئذ عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج عبد المطلب للقاء أبرهة، وفاوضه في أن يُقدِّم له العرب ما يُرضيه من المال ويرجع عن هدم البيت فأبى، وعاد عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم بأنَّ المفاوضة مع أبرهة لم تصلْ إلى نتيجة، وأنَّ أبرهة مُصمِّم على هدم البيت؛ وأنَّ جيشه قوي لا قِبل لنا بحربه، وفزع إلى الله في أن يحفظ بيته، وأن يدافع عنه، وأشار على قريش أن يتحرَّزوا في شَعَف الجبال خوفاً من مَعرَّة الجيش، وبعد أن وقف هو ورجال قريش أمام الكعبة يَستودعونها الله ويسألونه نصرتها ووقايتها لحقوا بمن سبقوهم إلى شعف الجبال يَنتظرون ما الله فاعلٌ ببيته المحرَّم.

ولما أصبح الصباح وتهيَّأ أبرهة وجيشه لدخول مكة، إذا جماعات من الطير حلقَّت فوق المعسكر، وتساقطت من أرجلها ومناقيرها قطع صغيرة من طين مُتحجِّر في حَجْم العدسة، وإذا بهذه القطع المتساقطة تنشر الحميَّات والأمراض في الجيش والفيلة، فتمنع الفيلة عن السير، ويصبح الجيش من الضعف والهزال كقشر أُكل ما فيه من لُبٍّ، وبهذا الوباء الذي تفشَّى في الجيش ارتدَّ خاسراً مهزوماً، وحفظ الله البيت الحرام، ووقى قريشاً من السوء والمعرَّة.

هذا الطارئ الذي هدَّ قوَّة الجيش وأصابهم بالضعف والهزال، وحَبَس الفيلة عن المسير، كان حديث العرب كافَّة، وكان آية من آيات عناية الله تعالى بالكعبة، وكان بُرهاناً على أنَّ قوة الله تعالى فوق كل قوَّة، وأنَّه سبحانه يدبر للضعيف مالا يخطر ببال القويِّ.

وبعد هذا الحادث بأيام فوجئت مكة بحادث آخر كان له شأن أشد خطراً من شأن الحادث الأول: هذا الحادث الآخر هو ولادة آمنة بنت وهب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

فحادث الفيل لفت إلى مكة أنظار العرب، وحادث ولادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لفت إلى مكة أنظار العالم كله، وحادث الفيل كان أثره وقاية الكعبة من الهدم والتخريب، وحادث ولادة محمد صلى الله عليه وسلم كان أثره تطهير الكعبة من الأوثان والأصنام، وجعلها لعبادة الله وحدَه، وحادث الفيل ابتدأ لقريش ذعراً وخوفاً وانتهى سلاماً وأمناً، وحادث ولادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ لقريش وللعرب قاطبة سروراً وبشراً وانتهى لهم عِزَّة و مجداً، وحادث الفيل كان بطله عبد المطلب من هاشم، وهو الذي كفل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعد ولادته.

فلا ريب في أن حادث الفيل كان إرهاصاً وتمهيداً، وإيذاناً بحادث خطير قريب الوقوع بمكة، ولله حكمة بَالغة في أن تكون واقعة الفيل بمكَّة، وولادة محمد بن عبد الله بمكة في عام واحد، والأولى تقع قبل الثانية بأيام.

ولهذا لما اشتدَّ أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، وأسرفوا في العدوان عليه وعلى من استجاب لدعوته، ونال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك حزن بالغ، ذكَّره الله تعالى بحادثة الفيل في سورة مكية، عدد آياتها خمس، اسمها سورة الفيل، وفيها تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبرهان على أنَّ الله سبحانه يحق الحق وينصر الضعيف، ويبطل الباطل ويهزم القوي، وإرشاد الضعيف إلى أن لا ييأس من ضعفه، وإرشاد القوي إلى أن لا يغترَّ بقوته، فالله تعالى من ورائهم محيط.

قال الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ] {الفيل:1}.

هذا الاستفهام للتقرير والتذكير بحادث وقع، مثل الاستفهام في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ] {الفجر:6}. وفي قوله تعالى: [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] {الشرح:1}. وفي قوله جلَّ شأنه على لسان فرعون لرسول الله موسى صلى الله عليه وسلم: [قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ] {الشعراء:18}. 

والمعنى: لقد رأيت كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وكيف ردَّ كيدهم، وأحبط سعيهم، فلا تحزن مما يُدبِّره لك قومك وما يكيدونك به، فإنَّ كيدهم في ضلال، وعاقبتهم عاقبة أصحاب الفيل، وعاقبة كل من أراد سوءاً بالحق ودعاته.

وربَّ قائل: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَ ما فعل الله جلَّ وعلا بأصحاب الفيل؛ لأنَّ الحادث وقع قبل ولادته، فكيف قال الله تعالى له: ألم تر؟

والجواب: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما شاهد هذا الحادث ولا رآه، ولكن هذا الحادث لما وقع اشتهر أمرُه وتواتر نقله، وتناقلته الأجيال، فنشأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَسمع به من كل عربي، ويُصغي إلى تفصيله من كل قُرَشي، فكان هذا الحادث منه بمنزلة المرئي له، المشاهد المحسوس، ولهذا قال الله له: ألم تر، ويقال مثل هذا في كل ما جاء على شاكلته.

وأصحاب الفيل: هم جيش أبرهة، وليس في الآية دلالة على أنَّه كان معهم في حملتهم فيل واحد أو عدد من الفيلة؛ لأنَّ المراد أصحاب هذا النوع من الحيوان الذين عُرفوا باستخدامه في مختلف الأغراض التي يُستخدم فيها.

[أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ] {الفيل:2} وهذا الاستفهام أيضاً للتقرير: وفي هذه الآية تبيين لما فعلَ الله تعالى بهم.

والمعنى: لقد جعل الله تعالى كيدهم في تضليل، والكيد معناه: التدبير كالمكر، وكل منهما يطلق على التدبير السيء، وعلى التدبير الحسن، والقرينة هي التي تعين المراد، قال تعالى: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا] {الطًّارق:15-16}، وقال جَلَّ ثناؤه: [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ] {آل عمران:54}. 

وقد كان كيد أصحاب الفيل تدبيراً سيئاً، لأنَّهم أرادوا به هدم الكعبة وصرف الناس عنها، وقد حاق المكر السيء بأهله، وجعل كيدَهم وتدبيرَهم في تضييع، فكأنهم دبَّروا السوء لأنفسهم لا لغيرهم، وبذلوا الجهود واحتملوا المشقَّات لينالهم الضعف وتفتك بهم الأمراض، فلا حصلوا غايتهم، ولا استبقوا قوَّتهم، وهذا أشدُّ تضييع للكيد والتدبير، قال الله تعالى: [وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ] {غافر:25}.

[وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ(5) ]. {الفيل}.

هذا مزيد تفصيل لما فعل ربك بأصحاب الفيل، وللآية الإلهيَّة التي جعلت كيدهم في تضليل.

وأبابيل: أي: جماعات وأسراب، والسجيل: الطين، والعصف: القشر الذي يخلق مع الحب حفاظاً لما فيه من اللب، كالتبن للقمح، والغلاف للذرة. قال الله تعالى: [وَالحَبُّ ذُو العَصْفِ] {الرَّحمن:12}. 

والمعنى: أنَّ الله سبحانه ردّاً لكيد أصحاب الفيل، أطلق عليهم أسراباً وجماعات من الطير رمتهم بالحصى المتساقط من أفواهها وأرجلها، فجعلتهم في انحلال واضمحلال لا خير فيهم، ولا غناء لهم، كقشر أُكِلَ لبُّه فصار لا غناء فيه.

ولم تبيِّن الآية الكريمة نوعَ الطير الذي رمى أصحاب الفيل بالحجارة، ولا وصف الحجارة التي رميت، وفهمُ الآية والمقصود منها لا يتوقَّف على هذا التفصيل، فالآية صريحة في أنَّ أسراباً من الطير أطلقها الله على هؤلاء الباغين فأضعفت قُواهم وأبطلت كيدهم، وردَّتهم خاسرين.

ولكن المفسرين تعرَّضوا لبيان نوع الطير وحجم الحجارة وأثرها في الجيش، بعد أن اتفقوا على أنَّها أسراب من الطير جاءت من قِبَل البحر، وأنَّها ليست نجديَّة ولا تهاميَّة، اختلفوا فمن قائل: هي طَير حجم الطائر منها حجم الرجل، وأنَّ الحجر منها ما أصاب أحداً إلا قتله، ومن قائل: إنها طير من نوعِ الغِرْبان والحِدَأة والجراد والنحل والذباب، وأنَّ الحجارة كانت في حجم العدسة، وأنَّ الأثر الذي نتج من هذه الحجارة في الجيش أنها نشرت فيهم الحصبة والجدري، فنهكت قواهم وفتكت بهم، وهذا القول الثاني تُرجِّحه الآية الكريمة؛ لأنه لو كانت الحجارة على ما وصفت في القول الأول، لقال الله سبحانه: تَرميهم بحجارة من سجيل فأبادتهم، ولكنَّه سبحانه قال: ترميهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كقشر مأكول لُبُّه، أي: جعلتهم منهوكي القوى ضعافاً مِراضاً هُزالاً، وهذا يرجح أنَّ الحجارة ما قتلتهم ولا أبادتهم، ولكنها نشرت فيهم أنواعاً من الأمراض الفتَّاكة النَّاهكة.

قال عكرمة: كان من أصابه الحجر جَدَرَه، وقال يعقوب بن عتبة: أول ما رُئِيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.

فالله سبحانه دافع عن بيته الحرام بجيش من الجراثيم الفتَّاكة التي انتشرت في الجيش من هذه الحجارة التي تساقطت من أسراب الطير الوافدة من قِبَل البحر حيث المستنقعات وحصاها الملوَّث بالجراثيم.

والتاريخ يحدثنا عن جيوش كَثيرة انهزمت بالملاريا التي نشرها البعوض في منطقة من المناطق، أو بالحمَّى التي تفشَّت فيهم، أو الوباء الذي نزل بهم، وكل هذه جنودٌ إلهيَّة يُرسلها الله تعالى على الباغين الذين يُريدُ إهلاكَهم وردَّ كيدهم، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما ربك بظلام للعبيد.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام: العدد السابع، السنة الأول ربيع الأول 1367 يناير 1948).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين