أسباب الداء -2-

 

شق الإسلام طريقه إلى آفاق العالم في وجه مقاومات عديدة متصلة، كانت قوى الشر والجهل تتشبث بها في كل مكان.. ولولا الصلاحية الذاتية للإسلام، ولولا تجاوبه مع نداء الفطرة واتجاهات العقل لانهزم في أكثر من ميدان، وأصبح حديثاً يروى لا حقيقة قائمة!! 

ولنضرب المثل من "مصر" التي نعيش فيها ويحتمى الإسلام بصدور بنيها. ولقد شرحنا في موضع آخر كيف انتشر الإسلام بها، كانت مصر مستعمرة رومانية، وشاء الله أن تعتنق النصرانية على غير هوى من الرومان الذين كانوا وثنيين. 

وحاول المستعمرون بكل وسائل البطش فتنة المصريين عن دينهم، وسال الدم غزيراً في المدائن والقرى، ومع ذلك كله تكسرت أمواج القوة أمام صلابة المعتقد، وبقي المصريون على دينهم الذي ارتضوه. ثم اعتنق الرومان النصرانية على مذهب في الإيمان لم يعرفه المصريون، وحاول الرومان مرة أخرى أن يشدوا المصريين إلى وجهتهم، وبدأ عصر آخر من الاضطهاد، وفي تلك الأثناء دخل العرب مصر يحملون تعاليم الإسلام. فماذا حدث؟ إن الفاتح المشتبك مع الرومان عرض الإسلام على الناس عرضاً نظرياً عابراً، ولم يحاول إحراجهم ليسلموا، كل ما طلبه عون مالي تافه ليستطيع الاستمرار في مقاتلة الرومان مع إراحة الجماهير النصرانية من أعباء هذا القتال! 

وهنا يقرر التاريخ حقائق ذات بال! إن الشعب الذي بذل دمه ضد الرومان دفاعاً عن ديانته التقليدية أخذ يتحول رويداً إلى الإسلام! 

ويستحيل على عاقل أن يرد ذلك إلى التخفف من عبء مالي، إلا إذا كان الإنسان يستسهل بذل الروح ويستصعب دفع قروش! والغريب أن أحد الولاة السفهاء هاله أن أعدادا كثيفة من المصريين دخلت في الإسلام وأن الضريبة المفروضة نقصت، واضطربت بذلك موارد الخزانة. فماذا صنع هذا الوالي الأحمق؟ استبقى الجزية على من يسلم من النصارى! ومع ذلك بقي المصريون يدخلون في دين الله أفواجاً، ويدفعون المال المطلوب. 

حتى جاء عمر بن عبد العزيز فكتب إلى حاكم مصر يقول له: ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم  بعث هادياً ولم يبعث جابياً، ضع الجزية عمن أسلم، فاستراح المسلمون الجدد من الظلم النازل بهم، أو الفتنة التي تصدهم عن سبيل الله. 

وظاهر من هذا السياق التاريخي الحاسم أن المصريين آثروا الإسلام عن حب، وأن إعجابهم به هو الذي دفعهم إليه، وأنهم قاوموا بعض العرب السفهاء الذين عرقلوا خطاهم وهم يحفون إلى اعتناق الإسلام!! 

إن هذا المنظر الغريب لم يكن حكراً على وادى النيل، فقد شرق الإسلام وغرب، وطوى السهول والجبال، والطاقة الفذة التي يندفع بها هي صلاحيته الذاتية أولاً ثم أهل الفداء والعبادة من الفقهاء والدعاة والقراء والتجار، وقليل من الحكام الطيبين. 

لم تكن أجهزة الحكم مشغولة بنشر الدين أو مهتمة باستغلال سلطتها في إكراه الناس عليه.. كان الحاكم المسلم أشبه بتاجر يفخر بنفاسة ما عنده من سلع فهو لا يحسن العرض ولا الإغراء ولا استجلاب (الزبائن).

 حاجة الناس إلى الأجود ستضطرهم إلى الزحام على بابه. 

على حين كانت هناك سلع مغشوشة قيض القدر لها سماسرة مهرة يسحرون بها الأعين ويستدرجون السذج. 

ومضت القرون والإسلام بما له وما عليه ينطلق هنا وهناك ويشتبك مع القوى المناوئة في حرب سجال، ثم تكاثرت الفتوق والخيانات في الجانب الإسلامي، وطلع القرن الرابع عشر على أمة أنهكتها العلل، ودين ليس له رجال، فانفرط العقد كله، وتفرق المسلمون شذر مذر، واستنسر بأرضهم البغاث، وحكمتهم شراذم دخيلة من الملحدين، واليهود، والنصارى، الذين لا تصح لهم صلة بالسماء. 

ما الوضع في نهاية القرن الرابع عشر؟ استمكن أعداء الإسلام في خناقه، فتم لهم تمزيق جماعته الكبرى أشلاء منثورة على صعيد القارات الخمس، وانشغل كل شلو بنفسه فما يدري عن صنوه شيئاً، ثم قامت كيانات مستقلة للمسلمين، افتقدت روح الإسلام الحقيقية، واجهت تركة ثقيلة من التخلف ومضاعفات النزف الاستعماري لثرواتها، ولم تستطع هذه الكيانات أن تحفظ كرامة الإنسان المسلم في داخلها، ولا أن تعترف له بأيسر حقوقه في الشورى والمشاركة في الحكم. 

يزيد تعداد المسلمين في العالم أجمع على ألف مليون نفس. وقد ذكر الشيخ محمد المنتصر الكتاني في محاضرة له بمكة المكرمة، تستقي معلوماتها من هيئة الأمم المتحدة أن المسلمين 27 مليونا من الأنفس، ثلثهم يعيشون (أقليات) في سلطات حكومات شيوعية ووثنية ونصرانية والباقون يحيون في دول مستقلة بلغت 40 دولة. 

وقبل أن نتحدث عن أحوال الثلث والثلثين في إلماعات عاجلة نذكر أن هناك حرب إحصاءات مزورة يشنها أعداء الإسلام على أمته السكرى كي يزيدوها بلبلة وحيرة. 

إن السنغال يقطنها أكثر من 95% من المسلمين، وحكومتها نصرانية. 

وهناك أعداد مكذوبة عن نصارى غانا وجنوب السودان توهم أنهم أغلب السكان وهم في الحق بين 5ا%، و20% ولا يقل المسلمون عنهم عدداً.

ومع ذلك فقد صنع الاستعمار العالمي عشرات الدول النصرانية في قارة إفريقيا وغيرها ليكتم أنفاس المسلمين داخل سجونها المعتمة.

وقد أشاع موارنة لبنان أنهم كثرة السكان مع أنهم لا يبلغون 20% من تعداد البلد الذي يراد تنصيره بالخديعة طوراً وبالسلاح أطوراً، ليكون بعد تهويد فلسطين قلعة أخرى لضرب الإسلام ورده إلى الصحراء كما يقولون..!!

إن المسلمين لا يقلون عن ألف مليون، وإن كانت حرب الإحصاءات تبرز غير ذلك.

ولست متحمساً لإثبات ما أقول، فلو كان المسلمون ضعف أعدادهم الصحيحة ما أغناهم ذلك شيئاً بعدما أثبتت التجارب أن القلة العاملة خير من الكثرة العاطلة.

بيد أني أريد فحسب لفت النظر إلى صنوف المؤامرات التي تُبيت لهذا الدين ولأتباعه المقهورين في كل قطر.

والجهود تبذل الآن بإصرار وقوة لصرف المسلمين عن دينهم، وتجهيلهم في تراثه وقيمه ويومه وغده.

وبديه أنها أدنى إلى النجاح وسط الأقليات المرهقة المغلوبة على أمرها ويتم صرف المسلمين عن دينهم بوسائل لا عبقرية فيها.. 

وأتساءل هل التفرقة العنصرية التي شكا منها المسلمون كانت موضع تحقيق؟ هل سرقة حقوقهم المدنية والعسكرية أغضبت أحدا؟ أم المقصود أن الأرض الإسلامية المترامية الأطراف يسرح فيها الصليبيون ويحتازون لأنفسهم ما يريدون دون أن ينبس أحد ببنت شفة...؟ 

في هذه العجالة لا أريد أن أسجل خسائر المسلمين وهزائمهم على مدى قرون من الزمان مثلاً، كلا، إنني أريد تسجيل ما علق بذهني من آلام هذه الأمة خلال عام. 

ولم أتعرض لما ذاع وشاع من مآسيهم في الفلبين، حيث القتلى ألوف، ولا إلى ما استخفت أنباؤه من مذابح المجاهدين في بعض البلاد العربية. 

لقد أردت فقط إبراز الانهيار السياسي للدولة الإسلامية الغاربة، والآثار المخزية لهذا الانهيار الذي يصحبنا ونحن نستقبل قرناً جديداً. 

كان المسلمون في القرون الأولى عشر معشار عددهم الآن، بَيْد أنهم كانوا أعز جانباً وأحمى أنفاً.

 وليس صعباً أن تقوم لهم دولة كبرى تلم شملهم وتأسو جراحهم، فإن المسلمين يقاربون (الصين) في التعداد، وقد قامت للصين دولة كبرى، واعتبرت اللغة الصينية من اللغات الخمس التي كتبت بها مواثيق الأمم المتحدة. 

على أني لا أرى ذلك الحل الأوحد أو الأمثل.. 

فإن نظام الخلافة يجب أن يدرس بدقة من خلال التعاليم الإسلامية والتطبيقات التاريخية على سواء. 

إن الخلفاء على مدى القرون الأربعة عشر كانوا من بنى أمية والعباس وعثمان. 

ولم يقل أحد إن الله سبحانه وتعالى خص هذه الأسر بالعبقرية والتقى، وجعل نفراً منها يحتكرون قيادة المسلمين أجمعين جيلاً بعد جيل. 

إن من هؤلاء الخلفاء من اقترف في جنب الله المناكر، ولو جرد من أردية السلطة وقدم إلى قضاء عادل لأمر بضرب عنقه.. 

وقد تنبأ صاحب الرسالة الخاتمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض.. 

ومن حق الأمة التي تأذت رسالتها وتردت سيادتها أن تعيد النظر مرة ومرة في الأسلوب الذي تحكم به جماعتها وتبلغ به دعوتها..!! 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الفساد السياسي بتصرف

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين