الخطاب الروحي والتنوير العقلي ...التكامل الإسلامي

 

ما الذي يجعل النفس الإنسانية تحنّ إلى حديث الروح، وتأنس برسائل تهذيب النفس، وتبحث عن مظانّ السُّقيا للظمأ العنيف، مهما تعددت معارفها وأديانها وأعراقها وتنوعت جغرافيتها؟

هناك مفهوم خاطئ منتشرٌ في بعض نواحي العالم الإسلامي، وهو أنّ منابر الروح وخطاب الوعظ غائبٌ عن الأديان المختلفة، بما فيها تلك التي اتخذت مساراً تطرف في انحرافه وخرافته، أو حتى أصرّ على ما يعتبره علمانية إلحادية، وأن البحث عن هذا البعث يخص المسلمين دون غيرهم، فما الذي يعنيه المذهب الصوفي الغربي، وماذا تعني حلقات التأديب البوذي، ورسائل الكونفوشيوسية الأخلاقية، أو الهندوسية.. وغيرها.

 ما هي مقاصد تلك الممارسات لمعالجة الضمير؟ وما وراء تطرف طقوسها حين نزيح الخرافة من المشهد المباشر؟ ولماذا يعيش علماء غربيون حالات جحود فكري للخالق في نظريات يُدَرسونها.. ثم يتقاطرون على الكنائس ويستهويهم خطاب نواب المسيح لأرواحهم؟ ويتكرر ذلك في مشاهد ومسارات عدة لتلك الجماعات والأديان، وإن كان في الحالة المسيحية قد يكون مرتبطاً بما بقي من إنجيل وإصحاحٍ صحيح.

"تحدث عزت بيغوفيتش عن ظاهرة الروح التاريخية في وجود الإنسانية في كل أدوارها، حين تتداخل مع الفنون، أو حين تغشى طبائع الخلق وحنينهم العميق لذلك النبض، الذي قد يُسقى بعسلٍ مصفّى أو ماءٍ آسنٍ أحيانا فتشرب الروح للحقيقة، وقد تُخدع به"

إن أصل هذا المبحث ليس ضمن سياق مقارنة الأديان، ولكنه إحدى دلالات الروح التي يعجز العلمُ المتطرف عن فهمها، ولقد أفاض أ. علي عزت بيغوفيتش في هذا الميدان بكثافة، حين تحدث عن ظاهرة الروح التاريخية في وجود الإنسانية في كل أدوارها، حين تتداخل مع الفنون، أو حين تغشى طبائع الخلق وحنينهم العميق لذلك النبض، الذي قد يُسقى بعسلٍ مصفّى أو ماءٍ آسنٍ أحيانا فتشرب الروح للحقيقة، وقد تُخدع به، أو تجد طمأنينة نسبية ثم تعود وتنتكس، ما لم تكُن مقترنة بعدالة الفطرة وبحكمة التأمل.

وهذه الحكمة تُهيمن على مظانّ الفلاسفة قديما وحديثا، وقد يصل إليها بعضهم ويتولى عنها آخرون، لمكابرة أو تعصب لعلمية أزلية لا يسندها العقل الكلي، ولكننا هنا نُثبت هذه القراءات الواسعة لنزعة النفس البشرية إلى الروح، ولسنا في صدد استكمال هذا المبحث فلسفياً، ولكن لنربطه بسياق الاتحاد البشري، في دوافع البحث عن خطاب الروح وتهذيب الضمير، فأين ذلك في خطاب الإسلام الكبير؟

إن هذه المقدمة تؤسس لإثبات أن ما يحتاجه المسلم المعاصر اليوم -كما احتاجه مسلم الأمس وكما احتاجته الإنسانية- هو منهج فطري، تستدعيه هذه الروح لسكينتها ولحملها على أن تنتبه من مشهد التصحر الدنيوي في مسالك المصالح الشرسة، وتبعث همة المسلم لأن يتفكر في أخلاقه وسلوكه.

وهل هي تُرضي الضمير العادل؟ وما هو سياقُ ذلك في رحلة حياته وموته؟ إلى أين يقوده الطريق وأين سيذهب؟ أليس من الموضوعية أن يتبين بين آونة وأخرى ويتحسّس قصة هذه الرحلة.. من خلَقَها فسوّاها؟ ولأنه كلما ابتعد عنها احتاج إلى القرب منها، في شقيّها المآل الكبير وتهذيب الضمير.

وغالب الخطاب الروحي الإسلامي الوعظي أو الصوفي التهذيبي هو ضمن هذا السياق، كما أن طبيعة النفس البشرية تستتبع الرقائق أكثر من تأملات العقل، ولذلك طبيعيٌ جداً أن يكون جمهور الوعّاظ أكثر من قرّاء العقل، وليس ذلك يعني بالضرورة أن ذلك الجمهور لم يع بالمطلق دلالة العقل والفكر، ولكنه آمن بيقين أساسي، ثم توجه إلى أن يستمع إلى منابر تعظه في مآله، ولن يُلزم نفسه بدلائل الفكر وما الذي تنتجه مسارات وعيه وتنويره لفهم الحياة، والاستخلاف الإنساني لعمارة الأرض.

وهنا جوابٌ مهم للسؤال المتواتر في ظل فشل الشرق الإسلامي وسقوطه أمام مشاريع توحّش غربي، أو توحّش ذاتي خلَق فيه جماعات عنفٍ شرسة أبطلت العقل واستبدلت به لغة وعظ قاسية، ثم صنعت منها دستور أحكامٍ عنيفة مصدرها ذلك الفهم المريض الذي لم يستكمل فهم إسلامه فانحرف، وكلما ازداد بغي المشاريع الاستعمارية ارتد على ذلك التفكير الوعظي الذي أقال العقل، وأسقطَ سُنن التدبر والتفكر، وشرائع العدل والحياة المطمئنة، التي من أحيى نفساً واحدة فيها فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف بمن يقتل أمة منها.. هل فهم إسلامه؟

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظُ الناس كما كان يقودهم فكرياً وسياسياً، لكنه كان يُعطي كل مسارٍ حقه وهو الموحى إليه الملهَم من ربه، فكيف بمن يُحكّم في توجهات شعوب وجماعات، وتكون لمواقفه آثار كبرى على الصراعات، وهو غائبٌ عن أساسيات الفكر"

إن هذا التوحش ليس مسؤولية كل خطاب وعظي إطلاقاً، ولا حتى سلوك المحافظة الدينية التي يتخذها الناس تعبداً لربهم، لكن المشكلة الكبرى أن هذا الوعظ حُوّل في بعض العالم الإسلامي ليكون الدين المفصّل، وصار روّاده ومنابره هم مشرّعي الحياة الفاضلة، ومصدر ومرجعية التفكير العقلي والتشريع السياسي، وعُبّئ هذا الشارع المحاصر بهذا المفهوم.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظُ الناس كما كان يقودهم فكرياً وسياسياً، لكنه كان يُعطي كل مسارٍ حقه وهو الموحى إليه الملهَم من ربه، فكيف بمن يُحكّم في توجهات شعوب وجماعات، وتكون لمواقفه آثار كبرى على الصراعات، وهو غائبٌ عن أساسيات الفكر، وإدراك مظانّ الرأي الصحيح، وقبل ذلك التنظير لفكر المسلمين المستقبلي.

إن مهمة التنوير العقلي هي تلك الورشة الفاعلة في كل أطوار الزمن، والتي فَهمت مقاصد الرسالة في الحياة الدنيا واستخلاف الإنسان، وأسست فكرها وفقا لذلك المنهج المدلل والمراجع، واستطاعت أن تعرف تجارب البشرية، كما هي قصص السُنن الكونية في العالم وفي القرآن، ودلائلها في تجارب الزمان، ووضعت قواعد الوقاية أو المخرج من مصائب السقوط والحروب الكبرى، ثم أسّست لمشهد النهضة في يقظته.

فعلى التنوير الفكري المستضيء بقواعد الإيمان الكلية تولي تحديد تلك المعالم للدولة والمجتمع، التي حين يستقر فيها ذلك العُمق الفلسفي ثم التشريع الدستوري سيتحوّل إلى تنظيمٍ سياسي واجتماعي، ومضابط قانونية تسند السلوك الأخلاقي الذي سيتبنى الدعوة له وعاظ ومرشدون روحيون.

كما أن ذلك التنظيم الفكري للمقاصد الإسلامية هو من يسعى بمسؤوليته للحفاظ على تاريخ التشريع، أي فقه الإسلام بمساراته الواسعة، لكن سمو نهضته وفكره سيشجع تلك المؤسسات الشرعية لتتنحى بعيداً عن الخرافة والإرث الخاطئ وتسعى لاستكمال مدونات الفقه، عبر التجديد الرشيد وليس التقليد المستنسِخ لأخطاء الفقهاء، ثم الدفاع عنهم وخَلْق مذاهبَ منهم وكأنهم دين ينسخ شريعة الإسلام.

"هيمنة الإنذار والتخويف للشعوب والمبالغة فيه في كل ركن من حقوق الحياة تحت ظلال السُّلطة، خلَقتا أداةً قهرية للناس يُفتنون بها باسم الدين، فيما غاب جهاد الأخلاق والعدالة السلوكي والصفاء الروحي، وبات الوعظُ المسيّس مسطرةً لتقسيم المجتمع"

أي أنه ليس صحيحاً على الإطلاق أن فتح الباب أمام الواجب الكفائي اللازم -الذي هجره خطاب الدعوة الإسلامية المعاصر طويلاً- يعني التضييق على الواعظ أو التربية الروحية، أو التقليل من مصادر الاعتناء بحفظ كتاب الله أو السُنّة والمصادر الشرعية، بل العكس، فهي مصادر التشريع الكبرى، وخطاب الروح والأخلاق والفضيلة حقٌ للناس، وإنما حماية تلك المدارس وحماية المجتمع من خطأ اجتهاداتها، التي فاقمت حروب وكوارث أهلية، أو ساعدت في استدعاء وتمكّن الاستعمار الأجنبي والتوحش الديني العسكري.

غير أن هناك بُعدين مهمين في هذا الصدد، أولهما أن قوة التنوير والخطاب العقلي الفكري تُنبه النّاس على الفارق بين خطاب الروح وخطاب التسييس المنحاز باسم وعظ الروح، فيكون منبر الرقائق مقصداً لخطابٍ سياسي، ضِمْنَ تفتت المذاهب الدينية أو صراعها مع أي قوة سياسية، وليس ذلك إقراراً لفكرة الفصل للحق الشخصي للمتدين، لمن يعتقد أن لهُ رأياً في أمرِ سياسي، كلا.

وإنما المقصود أن تكون ممارسته ومساهمته الفكرية والجدلية الحوارية وفق شروطها وميادينها الموضوعية، وليس صبّها على النّاس بناءً على صراعات حزبية أو مظانٍ شخصية.

أما البعدُ الثاني فهو تحوّل هذا الوعظ بذاته إلى برنامج تسييس منظم عبر الاستبداد، يَستخدم سوطه ضد الشعوب وحقوقها واستقلالها، ثم يقال هذا صوت الله مع الحاكم، من خالفه سُحق باسم هذا الواعظ الذي لا يفهم قواعد الفكر التي كفّر عليها، أو استباح بها حريات الناس.

كما أن هيمنة الإنذار والتخويف للشعوب والمبالغة فيه في كل ركن من حقوق الحياة تحت ظلال السُّلطة، خلَقتا أداةً قهرية للناس يُفتنون بها باسم الدين، فيما غاب جهاد الأخلاق والعدالة السلوكي والصفاء الروحي، وبات الوعظُ المسيّس مسطرةً لتقسيم المجتمع، فلا يُستغرب خروج الثورات الفكرية بين الشباب الذين لم يُتحْ لهم فهم العدالة الاجتماعية في الرسالة الإسلامية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين