تفسير سورة الضحى (1)

 

[وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى(4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)]. {الضُّحى}. 

في هذه السورة يتجلَّى فضلُ الله تعالى على عبده ورسوله محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإحاطتُه بعنايته ورعايته ومعونته وتأييده من حين نشأته إلى حين بعثته وأداء رسالته.

بدأ الله تعالى هذه السورة بأن أقسم بالضحى وبالليل إذا سجى، أنَّه ما ترك رسولَه، ولا كرهه، ولا أهمله ولا أعرضَ عنه، وبهذا ثبَّت قلبَ الرسول صلى الله عليه وسلم وزاده إيماناً بأنَّ اللهَ سبحانه معه.

ثم وعد الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بوعدين أكَّدهما: أحدهما أنَّ آخرة أمره خير له من أولاه ونهايته خير من بدايته، وثانيهما أنَّه سوف يُعطيه من خيري الدنيا والآخرة لنفسه ولأمته ولدعوته حتى يرضى، وبهذين شرح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وأعانه على احتمال المكاره والصبر على الأذى، ثقة منه بالمستقبل، وبأنَّ الله تعالى يُنجز له ما وعده.

ثم ذكَّرَ الله سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم بعدما أقسم له عليه، وما وعده به، بثلاث نعم أسبغها عليه في حياته، الأولى وهي: أنَّه وجده يتيماً فآواه، ووجده ضالاً فهداه، ووجده فقيراً فأغناه، وبهذا لفت رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعتبر ويقيس حاضره ومستقبله بماضيه، ليطمئنَّ إلى أنَّ الذي كَفِلَه ورعاه في طفولته وشبيبته وكهولته لا يُهْمله في رجولته وبعد بعثته، وبل يزيده رعاية وفضلاً، وتأييداً ونصراً.

ثم ختم الله تعالى السورة بثلاثة واجبات طالب بها رسولَه صلى الله عليه وسلم شُكراً على النعم الثلاث التي أنعم بها عليه، فطالبه أن لا يَقْهر اليتيم؛ لأنَّه كان يتيماً ويعرف حاجة اليتيم إلى العطف وقيمة البرِّ به، وأن لا ينهر السائل لأنَّه كان ضالاً حائراً ويعرف ألم الحيرة والضلال ومرارة نهر الحائر الضال، وأن يُحدِّث بنعمة الله سبحانه، فيعطي الفقير، ويعين على النوائب، و يزكي كلَّ نعمة أنعم الله عليه بها.

هذه هي جملة ما اشتملت عليه السورة الكريمة، وقبل أن أفصِّل تفسير كل آية من آياتها أذكر ظاهرة من تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته بمكة؛ لأنَّ فيها تمهيداً لفهم آيات السورة وتفسيرها:

ولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة في شهر ربيع الأول من سنة 571 للميلاد، وهي عام الفيل، ولما بلغ سن التمييز والتفكير أحسَّ بأنَّه غريب في البيئة التي يَعيش فيها، وشعر بوحشة ونفرة من أكثر ما يراه من عاداتهم وفي مجتمعاتهم، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النُّصُب ولا يحضر عيداً لأصنامهم، ولا أي احتفال بشأنهم، وكان يمقت ما يسمع به من وأد البنات وهضم حقوق الضعفاء والضعيفات، وأكل أموال الناس بالباطل.

وكلَّما كبرت سنه ونضج عقله زاد نفوراً من وثنيَّتِهم، ومقتاً لمظالمهم، وكان من هذا النفور وهذا المقت في وحشة روحيَّة وعذاب نفسي، وما كان يخفِّف عنه آلام وحشته أنَّه في بلده وبين قومه الذين قدَّروه ولقَّبوه الأمين، وأودعوه أماناتِهم، لأنَّ الوحشة الروحيَّة لا تعالجها الظواهر الماديَّة، وغربة النفس آلم من غربة الوطن، والطيب بين الخبيثين كالعاقل بين الحمقى، والرشيد بين السفهاء، كل واحد منهم غَريب يشقى بالعذاب النفسي، ولا يخفف عنه تكريم مادي.

فلما بلغ محمدٌ صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره المبارك، كانت نفسه قد بلغت من الوحشة والمقت والنفور مَبلغاً لا استقرار معه، واستولت على عقله حيرة شديدة مما يراه بين قومه، ومما يحسُّ به من نفسه، فلا هو واجد السبيل إلى نور يهدي إليه قومه، ولا هو واجد السبيل إلى الرضا بحالهم وسكون نفسه إلى ما هم عليه، لهذه الوحشة التي أهمَّت نفسَه، ولهذه الحيرة التي استولت على عقله، والتماساً للفرج من هذا الضيق، وللنور من هذه الظلمة، حُبِّب إليه الخلاء: 

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (أول ما بدئ به رسولُ الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النور، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك ثم يَرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غَار حِرَاء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بِقَارئ، قال: فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمِّلوني زَمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع).

ومع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غار حراء يرجف فؤاده ويملؤه الروع، قد شعر بأنَّ هذا الحق الذي جاءه هو النور الذي يلتمسه، وهو الهدى الذي ينشده، ولهذا لما فتر الوحي بعد هذا، كانت هذه الفترة فترة قَلَقٍ واضطراب وخوف، والقلق تصاحبه الظنون والهموم، ولهذا روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن لما فتر الوحي حزناً شديداً، فتطميناً لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة لهَمِّه وحزنه، وخوفه وقلقه، قال الله تعالى مخاطباً له: [وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) ]. {الضُّحى}..

ضحى الشمس: هو ضوؤها في شباب النهار، أي: قبيل استوائها في وسط السماء.

وقد أطلق لفظ الضحى في القرآن الكريم على ضوء الشمس في شباب النهار، كما في قوله تعالى: [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا] {الشمس:1}. وأطلق على وقت هذا الضوء كما في قوله تعالى: [قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى] {طه:59}، وكل من المعنيين يصحُّ أن يراد هنا، فالمعنى أقسم بضوء الشمس في شباب النهار، أو أقسم بوقت سطوع الشمس في شباب النهار، وكل منهما ذو شأنٍ يُقْسَم به.

وسَجْو الليل: سكونه وانقطاع الحركة فيه؛ لأنَّ الليل لظلمته تَنقطع الحركة فيه، ولهذا جعل الله تعالى الليل سكناً، فالله سبحانه أقسم بوقت الضحى وهو وقت الحركة والنشاط، وبالليل إذا سكن وهو وقت انقطاع الحركة، فكأنَّه سبحانه أقسم بالضدين، ورمز إلى الحركة والسكون.

.[مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ] أي: ما تركك. [وَمَا قَلَى] {الضُّحى:3} أي: ما كرهك، فالله سبحانه أقسم بوقت الضوء الساطع وهو وقت اليقظة والحركة، وبوقت الظلام الدامس وهو وقت النوم والسكون، أنَّه ما ترك رسوله صلى الله عليه وسلم وما كَرِهَه، فما كان فتور الوحي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أنس باتصاله به لأنَّ الله تعالى تركه أو كرهه، وإنما كان لرحمته الإلهيَّة به، ولإعداده لتلقي وحيه أتمَّ إعداد، فلله سبحانه الحكمة البالغة في أن فتر الوحي حيناً من الزمن؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة سكن قلبه، وهدأ روعه، وزاد شوقُه، واتجهتْ إلى الوحي حواسُّه، فلما تتابع الوحي بعد هذه الفترة كان قلبُه على أتمِّ استعداد له.

ومن هنا تتبين الحكمة في القسم بالضحى، وبالليل إذا سجى، فهما رمز إلى أنَّ سطوع الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه، كان بمنزلة ضحى الشمس وسطوعها في شباب النهار، وأنَّ فتور الوحي بعد ذلك كان بمنزلة سكون الليل بعد حركة النهار، ورمز إلى أنَّ من سنن الله تعالى الكونيَّة أنَّ الحركة يعقبها سكون للاستجمام واستجماع القوى.

[وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى] {الضُّحى:4} 

أي: ولآخرة أمرك ونهايته خير لك من أولاه وبدايته، وأطلق سبحانه لفظ الآخرة ولفظ الأولى، ليشمل آخرة كل أمر من أموره وأولاه، فأولى الوحي له إجمال في قوله سبحانه: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}، وآخرته تفصيل لما يقرأ وما يدعو إليه من عقيدة وخلق وحكم، وأولى دعوته سِرٌّ وقِلَّة أتباع، وأخراه فيها جَهْر وكثرة أتباع، وكلما قورن شأن من شؤون الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ بعثته بشأن من شؤونه في نهاية حياته، تبيَّن أنَّ الآخرة خير له من الأولى، و في هذه دلالة على أنَّ أولى الرسول خير، ولكن آخرته خير منه، ولا وجه لتخصيص الآخرة بالحياة الآخرة يوم القيامة، والأولى بالحياة الدنيا، بل الذي يَقتضيه المقام هو العموم.

[وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى] {الضُّحى:5}

هذا وعد ثان أشمل من الوعد الأول وأعم، فالوعد الأول بشأن نهاية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وبدايته، وهذا عامٌّ في كل شأنٍ من شؤونه، وكل منهما مؤكد بلام الابتداء التي تدلُّ على تأكيد ما بُدئت به، ولم يذكر سبحانه ما يعطيه إياه ليعم كل خير يتمناه الرسول صلى الله عليه وسلم وترضى به نفسه، فالله سبحانه زاد قلبَ الرسول صلى الله عليه وسلم اطمئناناً، وزاده بالمستقبل ثقة، بأن أكَّد له أنَّه سوف يعطيه من كل ما تتطلَّع إليه نفسه لدينه ولدعته ولأمته حتى يرضى، وقد أنجز الله تعالى وعده فنصر المسلمين في مواطن كثيرة، ورفع راية الإسلام على نواحٍ عديدة، وأعلى كلمة التوحيد، وأنزل على رسوله في يوم عرفة عام حجة الوداع [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}.

[للمقالة تتمة في الجزء الثاني]

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، المجلد الثاني، ربيع أول 1368 يناير 1949).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين