تفسير سورة الضحى (2)

 

[أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى] {الضُّحى:6} 

هذا تذكير إلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه أحاطه برعايته من أول نشأته صلى الله عليه وسلم، فكيف يتركه أو يُبغضه بعد بعثته، وقد نشأ محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يتيماً؛ لأنَّ والده عبد الله بعد أن تزوَّج بأمه آمنة بنت وهب وحملت به خرج في تجارة إلى الشام، فلما وصل إلى المدينة وبها أخواله من بني النجار أدركته مَنِيَّتُه ودفن بها، وابنه محمد صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه.

وقد كفله جدُّه عبد المطلب، وهو الذي بُشِّر بولادته، وهو الذي سمَّاه محمداً، وقد ألقى الله تعالى في قلبه محبته، وزاده حباً له أنَّه ماتت أمه آمنة أيضاً، وهو في السادسة من عمره صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّه كان من عادة آمنة أن تذهب كل سنة لزيارة قبر زوجها عبد الله بالمدينة ومعها طفلها محمد وجدُّه عبد المطلب، ففي مرة من تلك الزيارات مَرِضت في الطريق وهي عائدة وماتت، ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، وكأنَّ الله تعالى أراد لأبوي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْبقاه إلى المدينة. 

قال ابن هشام في سيرته: (كان يُوضع لعبد المطلب فراش في ظلِّ الكعبة، وكان بنوه يجلسون حولَ فراشه حتى يخرج إليه ولا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، فكان محمد صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير يأتي ويجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فوالله إنَّ له لشأناً! ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهرَه بيده، ويسرُّه ما يراه يَصنع، ولهذا لما حضره الموت وسنُّ محمد صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات، أوصى به إلى عمِّه أبي طالب، وقد قام أبو طالب بوصية أبيه خير قيام، وكفل محمداً في صغره، ودافع عنه بعد بعثته، واحتمل الأذى والمكاره في سبيل الذود عنه.

هذا الحب الذي ألقاه في قلب عبد المطلب لمحمد، وخلفه فيه أبو طالب، وفي قلب مُرضعته حليمة، وهذا الصدق والأمانة وحسن الرأي التي أدَّب الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم في صغره وحبَّبته إلى قومه، هو إيواء الله تعالى لهذا اليتيم. 

فالمعنى: ألم تكن على تلك الحال من اليُتْم فآواك، أي: هيَّأ لك ما تأوي إليه وتسكن إليه من عطف جَدِّك وعَمِّك ومُرْضعتك وحب قومك لك؟ فالقلوب التي ملأها الله تعالى بحبِّ محمد صلى الله عليه وسلم هي المأوى الذي عوَّضه الله بها عن يُتْمه، وهي التي وَقَتْه من مهانة اليتم ومذلته.

[وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى] {الضُّحى:7} 

وهذا تذكير إلهي بنعمة ثانية أنعم الله بها على رسوله، وذلك أنَّ محمداً كما قدَّمنا كان في حيرة شديدة من أمر قومه ووثنيَّتِهم ومظالمهم، وكان يزيد حيرته أنه لا يرضى عما يراه ولا يهتدي إلى ما يرضيه. 

وقد بلغت حيرته أقصاها لما بلغ الأربعين وكمل عقله، وكانت خلوته في غار حراء من نتائج وحشته وحيرته، وقد أنعم الله تعالى عليه بأن أبدله بهذه الحيرة هُدى، وجاءه الحق وهو في غار حراء، والحيرة أول خطوة إلى الهدى، والشكُّ أول خطوة إلى العلم واليقين. 

فالمعنى ووجدك ضالاً، أي: حائراً لا تهتدي إلى الحق الذي تصلح به بيئتك وترضي به قلبك، فهداك بالوحي إلى ما فيه الإصلاح والرضا والخير كله. وقول بعض المفسرين إنَّه مَرَّة ضلَّ في بعض شعاب مكَّة فردَّه بعض أهلها إلى عبد المطلب، أو ضلَّ حين جاءت به حليمة بعد فطامه، أو ضلَّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، وأنَّ هذا هو المراد من الآية – قول بعيد من سِياق الآية؛ لأنَّ السياق في التذكير بنعم جليلة ذات شأن خطير ونتائج عظيمة، فالضلال في الآية هو حيرة العقل وقلق النفس، والهدى هو الحق الذي جاء به الوحي، وهذا الهدى هو النعمة الكبرى الجديرة بالذكرى.

[وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى] {الضُّحى:8} 

وهذا تذكير إلهي بنعمة ثالثة، وذلك أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم كان فقيراً في المال، لأنَّ أباه لم يترك له ما يُغنيه، فأغناه الله تعالى بأن سخَّر له من اتجر معه، وربح في تجارته، وسَخَّر له خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فتزوَّج بها واتجر بمالها، ويَسَّر له سبل الرزق فلم يمد يدَه إلى أحد، ولم يَطمع في مال أحد، ولهذا لقَّبوه الأمين، وأودعوه ودائعهم، وكان فقيراً في العلم لأنَّه كان أُمِّيَّاً ما يتلو كتاباً ولا يخطُّه بيمينه، فأغناه الله تعالى بالعلم وبما آتاه من الحكمة، فكما أغناه الله سبحانه بالمال أغناه بالعلم والوحي، فأفاض على المسلمين من بحر علمه الخير الكثير، وقد قال له سبحانه:[ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] {النساء:113}. 

والاستفهام في الآيات الثلاث للتقرير.

والمعنى: لقد وجدك يتيماً فآواك، وضالاً فهداك، وفقيراً فأغناك.

[فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ] {الضُّحى:9} 

لما ذكَّر الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بأنَّه كان يَتيماً فآواه، قال له: فأما اليتيم فلا تقهر، أي: لا تذله ولا تهنه لأنك كنت يتيماً وشعرت بحاجة اليتيم إلى العطف والتكريم، وشعرت بمقدار نعمة الله عليك إذ آواك ووقاك من هوان اليتم وذل اليتيم، ولا يُقدِّر نعمة العافية إلا من مَرِض، ولا يقدر نعمة الراحة إلا من تعب، فما أجدرك أن تشكر نعمة الله سبحانه عليك بأن لا تقهر يتيماً ولا تذله، وما أجدر كل إنسان بأن لا يقهر يتيماً ولا يذله، لأنَّ كل إنسان عرضة لأن يكون له يتيم.

[وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ] {الضُّحى:10} 

ولما ذكَّر الله رسوله بأنَّه كان ضالاً فهداه، قال له: وأما السائل فلا تنهر، أي: لا تزجره ولا تصده، لأنَّك كنت حائراً وتسأل قلبك ومن تأنس فيه الهدى عما يخفِّف عنك عذاب الحيرة، ويرشدك إلى دواء مرضك النفسي، وقد هداك الله تعالى بالوحي إليك وهدايتك الصراط المستقيم، فما أجدر من شعر بألم الحيرة ومرارة التساؤل عن الهدى، وشعر بنعمة الله تعالى عليه إذ أذهب حيرته وأجاب سؤله وهداه، أن يشكر نعمة الله عليه، بأن لا يزجر سائلاً عن خير، بل يُرشده ويهديه ويفسح له صدره، ويبذل جهده في هدايته وإزالة حيرته، فالمراد بالسائل: المستهدي السائل عن طريق الهدى، والمراد بعدم نَهْرِه عدم زجره وصَدِّه، وليس المراد بالسائل الفقير الذي يسأل الناس الصدقة، وليس المراد بعدم نهره التصدُّق عليه؛ لأنَّ هذا لا يقابل قوله سبحانه: [وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى] {الضُّحى:7}. فالمقام مقام استهداء وهداية، لا مقام استجداء وتصدُّق.

[وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] {الضُّحى:11} 

نعمةُ الله على الإنسان تعمُّ كلَّ ما أنعم به عليه من مال وعلم وجاه وقوة وغير ذلك من النعم، والتحدث بالنعمة، المراد التصرُّف فيها بما شرعه الله تعالى، وبما يحقق حكمته من الإنعام بها، فمن أنعم الله عليه بمال فالتحدث بنعمة الله عليه أن يصرفه في حاجاته، وأن يعين بالفضل منه ذوي الحاجات، ومن أنعم الله عليه بعلم فالتحدُّث بنعمة الله عليه أن يُعلم الجهَّال علمه، وأن يُرشد إلى الحق من استرشده.

وأما الغني الذي يَكْنِزُ مالَه ولا ينفقُ منه في سبيل الله، فهذا لم يَشْكر نعمة الله عليه، والعالم الذي لا يُفيد الناس بعلمه فهذا لم يشكر نعمة الله تعالى عليه.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان فقيراً فأغناه الله، فهو يُقدِّر نعمة معونة الغني للفقير، وكان لا يعلم فعلَّمه الله، فهو يقدر نفع العالِم لغير العالم، وبهذا تكون هذه الآية عامة، تقابل قوله سبحانه: [وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى] {الضُّحى:8}، وتلفت كلَّ ذي نعمة إلى أن يوجه نعمة الله عليه الوجهة التي تحققُ حكمةَ الله في الإنعام بها.

والغني البخيل أو المسرف ماله فيما لا يرضاه الله، غير مُتحدِّث بنعمة الله تعالى، والعالم الذي لا يَنفع الناس بعلمه أو الذي يَستخدم عِلمه في الجدل بالباطل وترويج الأهواء غير متحدث بعلمه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يحبُّ أن يَرى أثرَ نِعْمتِه على عبده) [أخرجه الترمذي، وحسَّنه، والحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، المجلد الثاني، ربيع أول 1368 يناير 1949

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين