حدث في الثالث عشر من جمادى الأولى وفاة العالم الصالح الوزير ابن هبيرة

 

في الثالث عشر من جمادى الأولى من سنة 560 توفي في بغداد، عن 61 سنة، العالم الصالح والوزير العظيم الذي سطَّر صفحة عطرة من سيرة الوزراء في التاريخ الإسلامي.

 

ولد الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هُبيرة الشيباني الدُوري، ثم البغدادي، في ربيع الآخر سنة 499 بالدُور، وهي قرية من أعمال الدجيل تبعد عن بغداد 5 فراسخ، لأسرة فقيرة كانت تعمل في الزراعة كما يبدو من ثنايا ما ذكره هو عن نشأته، ودخل بغداد شابا يطلب العلم فقرأ القرآن بالروايات على جماعة، وسمع الحديث الكثير من محدثيها، وقرأ الفقه على الإمام الفقيه الحنبلي أبي بكر الدينوري، أحمد بن محمد بن أحمد المتوفى سنة 533، وقرأه كذلك على الإمام أبي الحسين بن الفراء، محمد بن محمد المتوفى سنة 526، وهو ابن شيخ المذهب أبي يعلى رحمه الله تعالى، وقرأ الأدب على شيخ اللغة والأدب في عصره أبي منصور بن الجواليقي، موهوب بن أحمد المولود سنة 466 والمتوفى سنة 540.

 

وتمرس الوزير ابن هبيرة بترويض النفس منذ حداثته على يد أبي عبد الله محمد بن يحيى الزَبيدي النحوي الواعظ الزاهد، المتوفى سنة 555، ودرس عليه النحو وأخذ عنه التأله والعبادة، وانتفع بصحبته، حتى إن الزبيدي كان يركب جملا ويعتم بفوطة، ويلويها تحت حنكه، وعليه جبة صوف، وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد ابن هبيرة، وهو أيضا معتم بفوطة من قطن، قد لواها تحت حنكه، وعليه قميص قطن خام، قصير الكم والذيل، وكلما وصل الزبيدي موضعا أشار ابن هبيرة بمسبحته، وناس برفيع صوته: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

 

وبقي ابن هبيرة يعمل بهذه السنة حتى بعد أن تولى الوزارة، فقد اجتاز بسوق بغداد - وهو الوزير - فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.

 

وكان ابن هبيرة رحمه الله في أول أمره فقيرا، فالتحق بديوان الخِدم السلطانية، وتولى أعمالا متعددة، ثم تولى الإشراف على ديوان المخزن السلطاني، ولذلك قصة يرويها الوزير، قال: كان سبب ولايتي المخزن أنني ضاق ما بيدي حتى فقدت القوت أياما، فأشار عليَّ بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله عنه، فأسأل الله تعالى عنده، فإن الدعاء عنده مستجاب، قال: فأتيت قبر معروف فصليت عنده ودعوت، ثم خرجت لأقصد البلد، يعني بغداد، فاجتزت بقطفتا - محلة من محال بغداد - فرأيت مسجدا مهجورا فدخلت لأصلي فيه ركعتين، وإذا بمريض ملقى على حصيرة، فقعدت عند رأسه وقلت: ما تشتهي؟ فقال: سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك فرهنت عنده مئزري على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك، فأكل من السفرجلة، ثم قال: أغلق باب المسجد، فأغلقته، فتنحى عن الحصيرة وقال: احفر ها هنا، فحفرت وإذا بكوز، فقال: خذ هذا فأنت أحق به، فقلت: أما لك وارث؟ فقال: لا، وإنما كان لي أخ وعهدي به بعيد وبلغني أنه مات، ونحن من الرصافة. قال: وبينما هو يحدثني إذ قضى نحبه، فغسلته وكفنته ودفنته، ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمسمئة دينار وأتيت إلى دجلة لأعبرها، وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة، فقال: معي معي. فنزلت معه، وإذا به من أكثر الناس شبها بذلك الرجل، فقلت: من أين أنت؟ فقال: من الرصافة، ولي بنات، وأنا صعلوك، قلت: فما لك أحد؟ قال: لا، كان لي أخ ولي عنه زمان ما أدري ما فعل الله به، فقلت: ابسط حجرك، فبسطه فصببت المال فيه، فبهت، فحدثته الحديث، فسألني أن آخذ نصفه فقلت: لا والله ولا حبة، ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها إشراف المخزن، ثم تدرجت إلى الوزارة.

 

وفي سنة 542 نقل الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله ابن هبيرة إلى كتابة ديوان الزمام، وظهرت للمقتفي كفاءته وشهامته، وأمانته ونصحه، وقيامه في مهام الملك.

 

وكان المقتفي لأمر الله، محمد بن أحمد، المولود سنة 489 والمتوفى سنة 555، من أعاظم الخلفاء العباسيين، تولى الخلافة والسلاجقة قابضون على أزِمَّة الأمور، فجمع مالا وافرا وهيأ قوة وسلاحاً وأعاد للخلافة هيبتها وبسط سلطانها، ولما توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي سنة 546، استقل بأعمال الدولة، وانفرد بإدارة شؤون الملك عن السلاجقة، وكانت هذه أول مرة يستقل فيها الخليفة بالحكم حقيقة منذ أن تحكم المماليك بالخلفاء في عهد المستنصر إلى أيامه، مع استثناء الخليفة المعتضد، وكان المقتفي حازماً مقداما، يباشر الحروب بنفسه، فتمكن من الخلافة، وحكم على عسكره وأصحابه، وكان يقظا كثير العناية بأخبار البلاد، يبذل الأموال العظيمة على الأرصاد والعيون فلا يكاد يفوته شيء مما يحدث في مملكته وغيرها.

 

وفي سنة 542 أساء مسعود بلال قائد حامية بغداد السلجوقية الأدب مع الخليفة المقتفي في بغداد، ونهب بعض أمراء السلاجقة الأطراف، وتعدوا على الأملاك، فكتب وزير الخليفة وهو إذ ذاك قوام الدين أبو القاسم علي بن صدقة رسالة من الخليفة إلى السلطان مسعود يطلب منه الإنكار على مسعود بلال وأن يؤخذ على يده، وتكررت المطالبات دون أن يقوم السلطان بعمل حاسم، فلما تقلد ابن هبيرة كتابة ديوان الزمام سأل الخليفةَ السماح له بمكاتبة السلطان مسعود بالقضية فوقع إليه الخليفة: قد كان الوزير كتب في ذلك عدة كتب فلم يجيبوه. فكرر ابن هبيرة السؤال إلى أن أذن له الخليفة، فكتب من إنشائه رسالة طويلة، دعا فيها للسلطان مسعود، وأذكره ما كان أسلافه يعاملون الخلفاء به من حسن الطاعة والتأدب معهم والذب عنهم ممن يفتات عليهم، وشكا من مسعود بلال، وأنه كاتب في ذلك عدة دفعات وما جاءه جواب، وأطال القول في ذلك، فما مضى على هذا إلا قليل حتى عاد الجواب بالاعتذار والذم لمسعود والإنكار لما فعله، فاستبشر المقتفي بإشارة ابن هبيرة، وعظم سروره بذلك وحسن موقعه من قلبه، ولم يزل عنده مكينا حتى استوزره.

 

وفي سنة 544 استدعى الخليفة المقتفي ابن هبيرة إلى دار الخلافة، وقلده الوزارة، وخلع عليه وخرج من عنده في أبهة عظيمة، ومشى أرباب الدولة وأعيانها وأصحاب المناصب كلهم بين يديه، وهو راكب إلى الإيوان في الديوان، وحضر هذه المراسم القراء والشعراء، وكان يوما مشهودا. وقُرىء عهده، وكان تقليداً عظيما، بولغ فيه بمدحه والثناء عليه إلى الغاية، وخوطب فيه بالوزير العالم العادل، عون الدين، جلال الإسلام، صفي الإمام، شرف الأنام، معز الدولة، مجير الملة، عماد الأمة، مصطفى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء، ظهير أمير المؤمنين.

 

وأنشد الشعراء في هذا اليوم قصائد في مدح الوزير والابتهاج بوزارته، منها ما قاله أبو الفتح بن الأديب، محمد بن محمد بن قُرْطُف النعماني المتوفى سنة 560، من قصيدة طويلة:

 

إذا قلت: ليث فهو أمضى عزيمة ... وإن قلت: غيث فهو أندى وأجود

من القوم ما أبقوا سوى حسن ذكرهم ... وما عمروه بالجميل وشيدوا

وصية موروث إلى خير وارث ... إذا سيد منهم خلا قام سيد

سيحييهم يحيى وما غاب غائب ... إليه أحاديث المكارم تسند

مناقب تحصى دونها عدد الحصى ... بها يُغبط الحرُّ الكريم ويحسد

ليهن أميرَ المؤمنين اعتضادُه ... برأيك والآراء تهدي وترشد

هو المقتفي أمر الإله وإنه ... ليصدر عن أمر الإله ويورد

تمنى وزيرا صالحا يكتفي به ... وأفكاره في مثله تتردد

دعا زكرياءُ النبيُ كما دعا ... إمامُ الهدى، والأمر بالأمر يعضد

فخُصَّ بيحيى بعدما خص بعده ... بيحيى أمير المؤمنين محمد

 

ولأن المدح يليق بخصاله الحميدة ونفسه الشريفة، مدح الشعراء ابن هبيرة فأكثروا، حتى لم يبق أحد من كبار شعراء زمانه إلا وله فيه مدائح، وانقطع بعضهم إليه وأوقفوا شعرهم عليه، وكان الشريف أحمد بن محمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي يجمعها له وقال: جمعت من مدائحه ما يزيد على مئتي ألف بيت، كل سنة في مجلد، فلما بيعت كتبه بعد موته اشتراها الشريف فأخذها منه بعض أعدائه وحساده فغسلها!

 

وكان الوزير قبل وزارته يلقب جلال الدين، فقال: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله تعالى سمى هارون وزيرا، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض: أبو بكر وعمر، وجاء عنه أنه قال: إن الله اختارني، واختار لي أصحابا، فجعلهم وزراء وأنصارا. ولا يصلح أن يقال عني: أني سيد هؤلاء السادة.

 

وكان هذا الإحساس بالقواعد الشرعية والحرص على الالتزام بها في القلب والعمل، ديدن الوزير منذ صغره، حدث الفقيه أبو حامد أحمد بن محمد بن عيسى الحنبلي قال: حدثني الوزير ابن هبيرة قال: كان بيني وبين بعض مشايخ القرى معاملة مضيت من أجلها من الدُور إلى قريته فلم أجده، فقعدت لانتظارهم حتى هجم الليل، فصعدت إلى سطحه للنوم، فسمعت قوما يسفهون بالهجر من الكلام، فسألت عنهم، فأُخبرت أنهم يعصرون بالنهار الخمر ويسفهون في الليل، فقلت: والله لا بِتُّ بها، فقيل: ولم؟ فقلت: أخاف أن ينزل بهم عذاب وسخط فأكون معهم، فإن لم يكن خسفا حقيقيا كان خسفا معنويا، مما يدخل على القلب من القساوة والفتور عن ذكر الله تعالى بسماع هذا الكلام، ومضيت ذلك الوقت إلى الدور.

 

قال الوزير: فلما عدت أنا والمقتفي لأمر الله من حصار قلعة تكريت مررنا بتلك القرية، فسألني المقتفي عنها، فقلت: هذه الناحية لوكلاء الخليفة، أجلَّه الله تعالى. فقال: لأن تكون لك، إذ هي في جوارك أصلح من أن تكون لنا، فتقدم إلى عمالك بالتصرف فيها. فذكرت له حينئذ حالتي بها، وقلت له: فمن بركة ذلك الفعل رزقت القرب منك يا أمير المؤمنين، وتملك الناحية من غير طلب مني لها.

 

وكان من عادات ذلك الزمان أن يخلع الخلفاء على رجال الدولة الخلع الحريرية الموشاة بعلامة السلطان، ولكنه رحمه الله كان يأبى لبس ذلك اتباعاً للشرع الحنيف، أرسل إليه المقتفي مرة بخلعة حرير على يد خادم وفرّاش، فقال: أنا والله ما ألبس هذه! فخرج الخادم فأخبر المقتفي، فقال المقتفي: قد والله قلتُ: إنه ما يلبس. وأعاد إليه الخادم بدَست من ثياب الخليفة، قال ابن هبيرة: فقلت حينئذ لنفسي: يا يحيى كيف رأيت طاعة الله تعالى لو كنت قد لبستها كيف كنت تكون في نفس أمير المؤمنين. وكيف كانت تكون منزلتك عنده؟

 

وفي سنة 544 هاجم بغداد منافسو السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي فتصدى لهم الوزير ريثما وصل مسعود، فانسحبوا وقام الوزير بلقاء السلطان دون أن يدخله بغداد، وفي سنة 546 عاد السلطان مسعود إلى بغداد وخرج الوزير ابن هبيرة وأرباب الدولة إلى استقباله ودخل بغداد في حفاوة وتكريم، وما لبث أن توفي بعدها بشهور، ولوفاته قصة يرويها الوزير ابن هبيرة الذي كان صاحب أنفاس طاهرة ودعوات مستجابة، ذكر هو أنه لما استطال السلطان مسعود وأصحابه وأفسدوا، تدارس الأمر مع الخليفة وعزما على قتاله، قال: ثم إني فكرت في ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته لقوة شوكته، فدخلت على المقتفى، فقلت: إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى، وصِدق الاعتماد عليه. فبادَرَ إلى تصديقي في ذلك، وقال: ليس إلا هذا، ثم كتبت إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا على رِعْل وذَكْوان شهرا، وينبغي أن ندعو نحن شهرا. فأجابني بالأمر بذلك.

 

قال الوزير: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود لتمام الشهر، لم يزد يوما ولم ينقص يوما، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم.

 

وبعد وفاة السلطان مسعود بدأ الخليفة في بسط سلطانه على المناطق القريبة من بغداد فأرسل وزيره ابن هبيرة على رأس جيش كبير فاستولى على الحلة والكوفة وواسط ثم عاد إلى بغداد بعد 25 يوماً، وفي سنة 549 هاجم بعض أمراء السلاجقة مدينة واسط ونهبها وخربها، فسير الخليفة الوزير بن هبيرة على رأس جيش هزمهم وغنم منهم شيئاً كثيراً، ولما عاد الوزير إلى بغداد أنعم عليه الخليفة بلقب سلطان العراق ملك الجيوش.

 

وفي أواخر سنة 551 حاصر بغداد السلطان السلجوقي محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه، وسبب ذلك أنه كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يُخطَب له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك، فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق، وحاصر بغداد قرابة ثلاثة أشهر دون أن يستطيع اقتحامها، فقد رتب الخليفة ووزيره ابن هبيرة الدفاع عنها ترتيباً جيداً، واستطاعا تجنيد العامة في القتال فصدوا الجيش المهاجم، وانسحب السلطان محمد بعد أن بلغه أن بعض أقاربه يدبر للاستيلاء على ملكه، وذلك بتحريض من الوزير ابن هبيرة.

 

وتوفي المقتفي لأمر الله سنة 555، وبويع ولده يوسف الذي تلقب بالمستنجد بالله، فدخل عليه الوزير ابن هبيرة وبايعه وأقره على وزارته وأكرمه، وكان خائفا منه أن يعزله فلم يعزله ولم يتعرض له، ولم يزل مستمرا في وزارته إلى حين وفاته.

 

وكانت قد جرت لابن هبيرة حادثة مع يوسف في حياة والده، فقد أرسل الابن إلى الوزير رسالة مختومة طالباً أن لا يطلع عليها الخليفة، فقال الوزير للرسول: ارجع إليه وقل له: إن كان فيه ما تكره أن يعلم به أمير المؤمنين، فلن أفتحه لأني سأُعرِّفه ما فيه، وإن لم تكن تكره إطلاعه عليه فافتحه، ثم أعطه الرسول. فمضى ولم يعد، وحصل في نفس الولد من ذلك شيء.

 

ولما توفي المقتفي لأمر الله وصار ابنه يوسف الخليفة، أمر بحضور الوزير لمبايعته، وخشي الوزير أن يناله مكروه منه لما سبق، فلما قابل الخليفة الجديد قال له بعد أن بايعه: يكفي العبد في صدقه ونصحه أنه ما حابى مولانا في أبيه نصحا لأمير المؤمنين، فقال: صدقت، أنت الوزير، فقال: إلى متى؟ فأجابه الخليفة: إلى الموت.

 

وإلى جانب منصب الوزارة بقي ابن هبيرة يقود الجيوش، وفي سنة 556 تمردت قبيلة خفاجة ونهبت أطراف الحلة والكوفة، فتوجه إليها الوزير على رأس جيش فهربت منه وطلبت العفو فأجابها إلى ذلك، وأُعجِب المستنجد بوزيره وكفاءته وتقواه، وذكر أحد خواص خدم الخليفة قال: سمعت المستنجد بالله أمير المؤمنين ينشد وزيره عون الدين أبا المظفر بن هبيرة، في أثناء مفاوضة جرت بينهما في كلام يرجع إلى تقرير قواعد الدين، والنظر في مصالح الإسلام والمسلمين، فأُعجِب الخليفة به، فأنشده الخليفة - يمدحه - أربعة أبيات، الأخيرين منهما لنفسه، والأولين لابن حيوس، وهي:

 

صفت نعمتان خصّتاك وعمَّتا ... فذكرهما حتى القيامة يذكر

وُجُودك والدنيا إليك فقيرة ... وَجُودك والمعروف في الناس ينكر

فلو رام يا يحيى مكانَك جعفرٌ ... ويحيى لكُفّا عنه يحيى وجعفر

ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا ... المظفر إلا كنت أنت المظفر

 

ولما استتب أمر الخلافة العباسية إزاء السلاجقة، توجه الوزير إلى مواجهة خطر الصليبيين في بلاد الشام ومصر، حيث أصبحت مصر فريسة جاهزة لهم لضعف الخليفة الفاطمي وتلاعب أمرائه به وتنازعهم على الأسلاب، فكتب الوزير ابن هبيرة إلى السلطان نور الدين محمود بن زنكي في دمشق يستحثه على انتزاع مصر من يد الفاطميين وضمها تحت جناح الخلافة العباسية، وتحقق ذلك في سنة 559 في خلافة المستنجد بالله، وعمل أبو الفضائل بن تركان حاجب الوزير ابن هبيرة قصيدة يهنىء بها الوزير بفتح مصر، ويذكر أن ذلك كان بسبب سعيه وبركة رأيه.

 

ولما ولي ابن هبيرة الوزارة بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع أهل السنة به غاية الارتفاع، وعبر عن سروره بما وفقه الله إليه حين قال وهو في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه منها العلم وأهله.

 

ومن نباهة الوزير واستيعابه لقوله تعالى في سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أنه قال  لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.

 

وكان الوزير شديد التواضع، رافضا للكبر، شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء، خاطب أحد الفقراء فقال له: أنت أخي، والمسلمون كلهم إخوة. وكان إذا مُدَّ سماط الوزير فأكثر من يحضره الفقراء والعميان، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي وما لي غيره، والله ما أقدر على ثمن مداس، وما بين إلا أن أمشي حافيا وأصلي. فقام الوزير من مجلسه، ولبس مداسه وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه، وقال له: البس هذا وأبصره على قدر رجلك، فلبسه، وقال: نعم، لا إله إلا الله كأنه مداسي. ومضى الضرير، ورجع الوزير إلى مجلسه، وهو يقول مداعباً: سلِمتُ منه أن يقول: أنت سرقته.

 

كان الوزير ابن هبيرة يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، فيقول: نزلت يوما إلى دجلة، وليس معي رغيف أدخل به الحمام. ومع فاقته في السابق كان سخياً مبسوط الكف، لا تنتهي السنة إلا وعليه ديون، لكثرة ما يبذل في وجوه الخير، وقال: ما وجبت علي زكاة قط. فقال في ذلك بعض الشعراء:

 

يقولون: يحيى لا زكاة لماله ... وكيف يزكي المال من هو باذله؟

إذا دارَ حَولٌ لا يُرى في بيوته ... من المال إلا ذكرُه وفضائله

 

وكان الوزير ابن هبيرة محدِّثاً، استقدم إلى بغداد كثيراً من المحدِّثين من بلدان مختلفة، وروى عن الوزير كثير من المحدثين والعلماء وممن يلوذ به، ومنهم أيوب بن شادي والد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان له مجلس يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر، وجرت في مجلسه العلمي حادثة تبين عن فضله وورعه وتقواه، وجرت الحادثة مع أبي محمد عبد الله بن محمد الأشيري، المتوفى ببقاع بعلبك سنة 561، وهو عالم من علماء المالكية في المغرب، كان في دمشق، فطلبه الوزير من نور الدين محمود بن زنكي، لما صنف كتاب الإفصاح وجمع أهل المذاهب لأجله، ولما وصل بغداد أنزله بدارٍ وأنعم عليه وأجرى له الجرايات الحسنة وأكثر مذاكرته ومجالسته.

 

وحدث مرة في مجلس الوزير أن ذُكِرَت رواية للإمام أحمد تفرد بها عن الثلاثة، وادعى أبو محمد الأشيري أن ذلك ليس بصحيح وأنها تروى عن مالك، ولم يوافقه على ذلك أحد، وأحضر الوزير كتب مفردات أحمد فكانت فيها، كل هذا والمالكي مقيم على دعواه، فخرج الوزير عن طوره وقال له: بهيمةٌ أنت؟! أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتبَ المصنفة، وأنت تنازع؟! وتفرق المجلس.

 

فمضى الأشيري ولم يعد إِلى مجلس الوزير، فأرسل إليه حاجبه فلم يحضر، فرد الحاجب وقال له: إن لم يجئ بعثت إليه ولديّ الإثنين، فحضر المجلس واجتمع الخلق للسماع، وأخذ قارئ الوزير ابنُ شافع في القراءة، فمنعه الوزير وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جرى في مسألة أمس على ما يليق به عن العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة، وها أنا فليقل لي كما قلت له فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم.

 

فضُجَّ المجلس بالبكاء، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير، وأبى الوزير ذلك وقال: القصاصَ، القصاصَ، فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا، إذا أبى القصاص، فالفداء، فقال الوزير: له حكمه، فقال الأشيري: نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟! فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتئات عليك، فقال: عليَّ بقية دَين منذ كنت بالشام، فقال الوزير: يُعطى مئة دينار لإبراء ذمته، ومئة دينار لإبراء ذمتي، فأحضرت له، فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي.

 

وكانت مبرات الوزير ابن هبيرة على العلماء والصالحين كثيرة متواصلة، ونذكر مثالاً على من ناله إحسانه وإكرامه أبا حامد محمد بن عبد الرحمن الأندلسي، المتوفى في بغداد في حدود سنة 558، فقد ألف في سنة 556 كتاباً أسماه المُغرِب عن بعض عجائب المغرب، وقال في مقدمته: ورأيت أن أجعله برسم خزانة مولانا الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة، وأن أذكر إحسانه فإني لما وصلت إلى بغداد سنة 516 أنزلني أحسن دوره فأقمت ضيفه أربع سنين، ولما رجعت إليها سنة 555 أنزلني بأحسن مقامه وأكرمني على عادته.

 

وبنى الوزير ابن هبيرة في سنة 557 مدرسة للحنابلة في بغداد عند باب البصرة، ورتب فيها مدرسا وفقيها، ودفن فيها رحمه الله تعالى.

 

صنف الوزير ابن هبيرة كتاباً في شرح صحيحي البخاري ومسلم أسماه الإفصاح عن معاني الصحاح، في 19 مجلدا، وهذا الكتاب صنفه في ولايته الوزارة، واعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب، وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث إنه أنفق على ذلك 113000 دينار، وقرئ عليه في مجلس عام جامع لأئمة أهل الإسلام، ثم إنه رتب لحفظ هذا الكتاب من المتعلمين 1800 طالب، وجعل لهم 140 معيدا لتحفيظهم وتفقيههم، بحيث لم يبق مسجد ولا مدرسة إلا ويلقي فيهما درس منه، وكتبت نسخة لخزانة الخليفة المستنجد، وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها، واستنسخوا لهم به نسخا، ونقلوها إليهم، حتى السلطان نور الدين الشهيد، واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم، يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء، وقد طبع في زماننا أكثر من طبعة.

 

وكتاب الإفصاح فيه فوائد جليلة فريدة، واختيارات فقهية متميزة ضمن مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو مرتب على أبواب الفقه ويذكر فيه الوزير ابتداء ما أجمعت عليه المذاهب الأربعة، ثم يتناول ما اختلفت فيه، ولما بلغ ابن هبيرة رحمه الله في كتابه إلى الحديث الشريف: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. شرَحَ الحديث، وتكلم على معنى الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أخذ الناس هذه القطعة من الكتاب، وجعلوها مجلدة مفردة، وسموها بكتاب الإفصاح: وهي قطعة منه.

 

وكان من معاصري الوزير ابن هبيرة الإمام النحوي ابن الخشاب، عبد الله بن أحمد، المولود سنة 492 والمتوفى سنة 567، ولما صنف الوزير ابن هبيرة في النحو كتابه الذي أسماه المقتصَد، عرضه على أئمة الأدب في عصره، وأشار إلى ابن الخشاب بالكلام عليه، فشرحه في أربع مجلدات، وبالغ في الثناء عليه، واختصر الوزير كذلك كتاب إصلاح المنطق لابن السِّكِيت، وكان ابن الخشاب يستحسنه ويعظمه، وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط، ولا تحسب أيها القارئ الكريم أن ذاك كان مجاملة من عالم كبير لوزير خطير، فقد كان ابن الخشاب متبذلاً في معيشته، ليس له طمع في الدنيا، لم يتزوج ولم يتسرى، وكان يتعمم بالعمامة، وتبقى مدة حتى تسوَدَّ وتتقطع من الوسخ.

 

وصنف ابن هبيرة كتاب العبادات الخمس على مذهب الإمام أحمد، وحدث به بحضرة العلماء من أئمة المذاهب.

 

وكان من معاصري الوزير الإمام أبو الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي المولود سنة 508 والمتوفى سنة 597، وزوَّج ابنه أبا القاسم بابنة الوزير في سنة 571، وقد انتفع ابن الجوزي كثيراً من دروس الوزير وجمع في كتاب أسماه المقتبس من الفوائد العونية، ذكر فيه كثيراً من الفوائد التي سمعها من الوزير ابن هبيرة، والعونية هنا نسبة إلى لقب الوزير: عون الدين، وأشار فيه إلى مقامه في العلوم، وانتقى من زبد كلامه في الإفصاح على الحديث كتابا سماه محض المحض.

 

وللوزير رحمه الله تعالى كلام حسن وفوائد مستحسنة واستنباطات دقيقة من كلام الله ورسوله، وقد نقل عنه ابن الجوزي شيئاً صالحاً منها، أورد بعضه ها هنا:

 

قال رحمه الله في الآية 10 من سورة البقرة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: المريض يجد الطُعوم على خلاف ما هي عليه، فيرى الحامض حلوا، والحلو مرا، وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلا، والباطل حقا.

 

وقال رحمه الله في الآيات 151-153 من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

 

هذه الآيات محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع، إنما قال في الآية الأولى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وفي الثانية: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وفي الثالثة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، لأن كل آية يليق بها ذلك، فإنه قال في الأولى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، والعقل يشهد أن الخالق لا شريك له، ويدعو العقل إلى بر الوالدين، وينهى عن قتل الولد وإتيان الفواحش، لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فكذلك هو ينبغي أن يجتنبها، وكذلك قتل النفس، فلما كانت هذه الأمور تليق بالعقل، قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ولما قال في الآية الثانية: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} بمعنى اذكر لو هلكت فصار ولدك يتيما، واذكر عند ورثتك، لو كنت الموروث له، واذكر كيف تحب العدل لك في القول، فاعدل في حق غيرك، وكما لا تؤثر أن يخان عهدك فلا تخن، فناسبت هذه الأشياء التذكر، فقال {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال في الثالثة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} فناسب ذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

 

وقال الوزير ابن هبيرة في قوله تعالى في الآية 51 من سورة التوبة: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: إنما لم يقل: ما كتب علينا، لأنه أمر يتعلق بالمؤمن، ولا يصيب المؤمن شيء إلا وهو له، إن كان خيراً فهو له في العاجل، وإن كان شراً فهو ثواب له في الآجل.

 

وقال في قوله تعالى في الآية 15 من سورة طه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}: المعنى إني قد أظهرتها حين أعلمتُ بكونها، لكن قاربتُ أن أخفيها بتكذيب المشرك بها، وغفلة المؤمن عنها، فالمشرك لا يصدق كونها، والمؤمن يهمل الاستعداد لها.

 

وقال في قوله تعالى في الآية 19 من سورة النمل: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}: هذا من تمام بر الوالدين؛ كأنَّ هذا الولد خاف أن يكون والداه قصرا في شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصرا.

 

وقال ابن هبيرة رحمه الله في قوله تعالى في الآية 80 من سورة القصص:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}: إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم، ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم.

 

وقال رحمه الله في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت وشر ما لم أعمل)، وكيف يستعيذ مما لم يعمل، قال رحمه الله: له معنيان، أحدهما: أن الإنسان يبلغه أن الرجل قد عمل الشر فيرضى به، أو يتمنى أن يعمل مثله، فهذا شر ما لم يَعمل، والثاني: أن الرجل قد لا يشرب الخمر، فيُعجَب بنفسه كيف لا يشرب، فيكون العَجب بترك الذنب شرَّ ما لم يعمل.

 

وأعطى الوزير خلاصة تجربته في التعلم فقال: يحصل العلم بثلاثة أشياء، أحدها: العمل به، فإن من كلَّف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو. ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع تعلم، والثاني: التعليم، فإنه إذا علَّم الناسَ كان أدعى إلى تعليمه، الثالث: التصنيف، فإنه يخرجه إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غور ذلك العلم الذي صنف فيه.

 

ومن حكمته قوله: احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات.

 

وإن الإنسان ليعجب كيف تمكن الوزير من أن يقوم بالبحث والدراسة والتأليف والتعقيب، وقد يتبادر للذهن أنه أهمل أمور الوزارة أو تركها لغيره، ولكنه ذكر عَرَضاً أن منهجه كان ألا يهمل قضية رُفعت إليه، دخل عليه يوما نقيب نقباء الطالبين الطاهر بن أحمد بن علي الحسيني فسلم عليه وخدمه، وسأله رفع رقعة له إلى الخليفة المستنجد، وأن يتكلم له عند عرضها ولا يهملها، فتبسم وقال: والله ما أهملت لأحد رقعة قط ولا حاجةً حضرني ذكرُها.

 

وما تحقق هذا الإنجاز الكبير للوزير ابن هبيرة إلا بنية صادقة وبركة ربانية وهمة عالية، إذ لم تخل أيامه ومجالسه من مناظرة، ولا عمرت إلا بمذاكرة ومحاضرة، أو بصلاة وصيام، أو بتصنيف وجمع وتأليف، ولا غرابة فهو الذي يقول:

 

والوقت أنفس ما عنيتَ بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع

 

وإلى جانب علمه وفقهه، كان الوزير رحمه الله تعالى أديبا بارعا، فصيحا مفوها، ينشئ الرسائل والكتب إلى الخلفاء والملوك بأفصح عبارة وأجزل لفظ، وله شعر كثير حسن في الزهد وغيره، منه قوله:

 

يا أيها الناس إني ناصح لكم ... فعُوا كلامي فإني ذو تجاريب

لا تلهيَنَّكم الدنيا بزهرتها ... فما تدوم على حسن ولا طيب

 

ومما يذكر من شعر الوزير رحمه الله:

 

تمسك بتقوى الله فالمرء لا يَبقى ... وكلُّ امرىء ما قدَّمت يدُه يلقى

ولا تظلِمَنَّ الناس ما في يديهمُ ... ولا تذكُرنْ إفكا ولا تحسُدَنْ خَلقا

 

ولا تقرَبن فعل الحرام فإنّما ... لذاذته تفنى وأنت به تشقى

 

تعوَّد فِعال الخير جمعا فكلُّما ... تعوده الإنسان صار له خُلقا

 

ومن الأدباء الذين برزوا في حاشية الوزير ابن هبيرة؛ العماد الأصبهاني، محمد بن حامد، المولود بأصبهان سنة 519، والمتوفى بدمشق سنة 597، وصاحب الكتاب الممتع خريدة القصر وجريدة العصر، الذي حوى تراجم أدباء عصره، قدم بغداد شاباً وانتظم في سلك طلبة المدرسة النظامية، واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه، اعتقل العماد ثم أفرج عنه، فانتقل إلى دمشق وخدم في الدولة تحت نور الدين ثم صلاح الدين، وقد ذكر العماد الأصبهاني في الخريدة الوزير ابن هبيرة وأثنى عليه، وبيَّن جوانب من شخصيته الأدبية.

 

توفي الوزير ابن هبيرة في الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 560، ويقول ابن الجوزي الذي غسَّله إنه مات مسموماً على يد طبيب كان يخدمه، ولكن الرواية الأوثق أنه أصيب بالتهاب الرئة فثار به البلغم، ثم خرج مع الخليفة المستنجد للصيد، فسُقى مُسهلا لأجل البلغم، فاستأذن الخليفة في الدخول إلى بغداد للتداوي، فأذن له، فدخل إلى بغداد يوم الجمعة سادس جمادى الأولى راكبا متحاملا إلى المقصورة لصلاة الجمعة فصلى بها وعاد إلى داره، وحضر الناس عنده يوم السبت، فلما كان وقت صلاة الصبح يوم الأحد عاوده البلغم، فوقع مغشيا عليه، فصرخت جواريه، فأفاق فسكتهن.

 

وبلغ الخبر ولده عز الدين أبا عبد الله محمدا، وكان ينوب عنه في الوزارة، فبادر إليه، فلما دخل عليه قال له:  إن أستاذ الدار عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله، المعروف بابن المسلمة، قد بعث جماعة ليستعلم ما هذا الصياح؟ فتبسم الوزير على ما هو عليه من تلك الحال، وأنشد متمثلا:

 

وكم شامت بي عند موتي جاهلٍ ... بظلم يسل السيف بعد وفاتي

ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الضر بعدي؛ مات قبل مماتي

 

ووقع ما توقعه الوزير، فإن ابن المسلمة آذى ورثة ابن هبيرة أذى شديداً، فلما تولى الوزارة بعده أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي، لم يترك من الأذى شيئاً إلا وألحقه بابن المسلمة.

 

ثم تناول الوزير ابن هبيرة مشروبا فاستفرغ به، ثم استدعى بماء فتوضأ للصلاة وصلى قاعدا فسجد فأبطأ عن القعود من السجود فحركوه فإذا هو ميت، فطولع به الخليفة المستنجد فأمر بدفنه، وحملت جنازته يوم الأحد إلى جامع القصر، وصلى عليه، ثم حمل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصرة، فدفن بها، وغلقت يومئذ أسواق بغداد، وخرج جمع لم نره لمخلوق قط في الأسواق وعلى السطوح وشاطىء دجلة، وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر، ويظهره من العدل.

 

ورثاه جماعة من شعرائه منهم نصر بن منصور النميري المتوفى سنة 588، قال:

 

ما مُتَّ وحدك يوم مت، وإنما مات الأنامْ

حياك رقراق النسيم وجاد مثواك الغمام

يأبى لك الإحسان أن أنساك والشيّم الكر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين