مقاصد الإسلام-1-

 

1- لنترك المنحرفين في غَيِّهم يعمهون، وقد سكتوا عن الكلام في الإسلام بعد أن رُدَّ كيدهم في نحورهم، وبعد أن رأوا أنَّ السبيل للهدم غير مُعبَّد، وأنَّ الجوَّ الذي ظنوه يلائمهم، ويمكن أن تعيش جراثيمهم، وينبت فيه زرعهم الخبيث، قد تغيَّر عليهم، وأصبح ذا شمس مُضيئة تبدِّد ما أشاعوه من ظلمات، وما نشروه من انحرافات، وتبيِّن للناس أنَّ الدعامة الأولى لكل بناء اجتماعي دين يهدي ويرشد، ويجمع الشمل تحت ظلِّ هداية الرحمن، وأنَّ كل نظام مهما أحكم عِقْدُه لا يقوم إلا على أساس من الدين، وأنَّ كل من يحاول أن يجعل أساس النظام مُناقضة الدين، ومُصادمة أحكامه، يَبني نظامَه على شَفير هارٍ، ولذلك أسكتت الأصوات اللاغطة، وأخذ السبيل على الذين لا حريجة للدين في صدورهم، وكانوا قد حسبوها فرصة فانتهزوها، وبرْقاً خاطفاً ساروا في ضَوئه، ولكنهم كانوا كإخوانهم المنافقين في الماضي الذين كادوا للإسلام في أول ظهور نوره! وقد قال الله تعالى فيهم: [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ(19) يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20) ]. {البقرة}. 

2 – لنترك هؤلاء ولنتجه لبيان حقائق الإسلام، وإذا كنا قد وعدنا ببيان الزكاة والحاجة إليها في هذا العصر، فإننا سنتعرَّض لها في ضمن كلامنا في (مقاصد الإسلام)، وعلم الله تعالى أنَّنا ما كنا نريد الجدل، ولا نبتغيه، ولكن الذين ابتغوا الفتنة وأوضعوا خلالَ أهلِ الإيمان، وجعلوا الإسلام هدفاً مقصوداً، وراشوا سهامهم المسمومة وصوَّبُوها إليه، هم الذين أوجبوا علينا أن نتقدَّم لهم، وإن كان الإسلام أمنع من أن ينالوا منه، وإنَّ السهام تتحطَّم عنده من غير أن تخدش شيئاً منه! 

ومهما يرد المنحرفون والكافرون أن يَنالوا منه، فإنَّ أعمالهم وأقوالهم ردٌّ عليهم، وسهامهم عائدة إلى صدورهم بسمومها: [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ(32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ(33)]. {التوبة}..

وما كان لنا أن نترك الباطل يتكلم ويهاجم، ونلتزم الصمت العميق أو الظاهر، فإنَّ هذا ليس من ديننا، ولا من آدابه، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] {البقرة:194}. وليس الاعتداء علينا في هذا المقام ما يكون على أشخاصنا، وإن كانوا قد اعتدوا عليها، بل إنَّ الاعتداء على ديننا هو أبلغ الاعتداء علينا، وهو الذي لا تأخذنا فيه هوادة، لأنَّنا نعلم أنَّ هذا الدين غذاء الأرواح ونور القلوب، وهو الذي نعتصم به، وإذا كان غيرنا يقول مَدفوعاً بالهوى وعَرَض الدنيا، فنحن نقول مَدْفوعين بالإيمان الصادق، ولا نرجو إلا ما عند الله تعالى، ولا نطلب غير رضاه، والدنيا بحذافيرها لا نراها شيئاً مذكوراً إذا كنا نرجو ما عند الله سبحانه، وهو نِعْم المولى ونعم النصير.

تلك تقدمة نقدمها ننهي بها الجدال إلا إذا ظَهرت دواعيه، فقد وَضَعْنا سلاح الحق في مكان غير بعيد، وإنا سنشهره ما دام في قدرتنا أن نقول كلمة الحق التي نحتسبها عند الله تعالى، وإنَّ الله تعالى هو وحدَه الذي يَهبُنا القدرة فهو الذي يَمنحها وهو الذي يَمنعها، وهو العزيز الحكيم، ولنتَّجه من بعد ذلك إلى بيان مَقَاصد الإسلام.

3 – إنَّ مقاصدَ الإسلام هي تنظيم هذه الحياة، لتكون السعادة المطلقة في الآخرة، وإنَّ سعادة الدنيا غاية مقصودة في أحكامه، ولذا قال سبحانه: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ] {النساء:134}، فقد قال تعالى في ذلك: [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ] {القصص:77} 

ولكن ما سعادة الدنيا التي هي من مطلوبات هذا الدين؟ وما سعادة الآخرة التي هي الغاية والمطلب الأسمى والأبقى؟ إنَّ السعادة في الدنيا هي السعادة التي تختصُّ بالإنسان، وهي التي تتفق مع سُموِّه وعُلوِّه، وعلمه الذي أودعه الله تعالى إياه بأصل الخلق والتكوين والاستعداد. فقد أودع الله تعالى آدم أبا البشر علماً كبيراً، وبه بيَّن الله سبحانه وتعالى فضله على الملائكة إذ قال سبحانه: [وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)]. {البقرة}..

ولابد أن تكون سعادة الإنسان في هذه الدنيا من نوع سعادة الحيوان، بل إنَّ سعادته تكون مُلائمة لما اختصَّ به من رفعة، وما اتَّسم به من كمال، وإن كان لابدَّ من مُلاحظة معنى الحيوانيَّة بجوار المعنى الإنساني أو السمو الإنساني، فلابد أن تكون سعادة الإنسان في هذه الدنيا قائمة على السمو مع إمداد الجسم الحيواني بحاجاته من المطعم والملبس والمأوى، أو كما يقول الماديون اليوم: الغذاء والكساء والمسكن، ولا يمكن أن تكون سعادة للإنسان من غير ملاحظة الجانبين، الجانب الإنساني، والجانب الحيواني، على أنَّه يُلاحَظ أنَّ الجانب الحيواني خادم للجانب الإنساني، فالجسم خادم للروح لأنَّه غلاف لها، وهذا معنى الإنسان ومفهومه ولبه، وإذا كان المناطقة يعرِّفون الإنسان بأنَّه (حيوان ناطق)، أي: عاقل ومُدرك وسَامٍ، فالحيوانيَّة ليست هي الميزة التي تميَّز بها، إنَّما الإدراك والسمو هو الخاصَّة التي اختصَّ بها، والحيوانيَّة خادم لها.

4 – إنَّ هذا هو فيصل التفرقة بين الماديين والمتدينين، فالماديون يفهمون الحياة الإنسانيَّة على أنَّها استخدام المادَّة لينعم الإنسان بأكبر قسط منها، ويمكن كل إنسان منها في الجملة، من غير نظر إلى المعنى الإنساني. 

وعلى هذا نرى الناس الآن في الشرق والغرب: ففي الغرب مادَّة توزع، ويظنُّون أنَّ السعادة الإنسانيَّة في أن يَنال الإنسان أكبر قسط من حظوظ الدنيا، وتتفاوت السعادة عندهم بتفاوت التمكُّن من المادة. 

وفي الشرق لا يَنظرون إلا إلى المادة أيضاً، والسعادة عندهم أن توزع الحظوظ بالتساوي أو بقدر قريب من التساوي، أو بما يمكن التساوي فيه، ويحسبون أنَّ القوى الإنسانيَّة وإن تفاوتت يجب أن تكون النتائج مُتساوية.

والمذهبان يَعتبران المادة هي بناء السعادة، ولا سعادة في سواها، ولا غاية غيرها، إن هي إلا الحياة عندهم! هذا مذهب الماديين، أما المتديِّنون فإنَّهم يرون أنَّ سعاة الإنسان في روحه ونفسه، والمادة خادم للروح، وما الحياة الماديَّة بكل أنواعها إلا سبل للحياة المعنويَّة، ليستقيم أمرها، وإنَّ سلامة النفس والاعتقاد، واطمئنان القلوب والإيمان، والسيطرة على قوى الشر ومنعها من أن تتحكَّم، هي الغاية الأولى في هذه الحياة.

وإنَّ الإسلام قد اتجه في هذه الحياة إلى أن تكون السعادة هي في المعاني الروحيَّة، من غير نسيان للبناء الجسدي، فهو الهيكل والبناء، والروح هي المعنى، ولا حياة لروح إنساني على الأرض من غير بناء جسدي سليم، ولكن عدَّ الإسلام انحدار الإنسان في أن ينظر إلى المتع الجسديَّة على أنَّها الغاية والنهاية، ولذا قال سبحانه في شأن الذين غلبت عليهم المادَّة: [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] {الحجر:3}.

ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة].

وإنَّ صلاح الإنسان في هذه الحياة هو صلاح القلوب، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة].

5 - ولأنَّ غاية الإسلام في السعادة هي الناحية المعنوية، من غير إهمال للجسد وحاجاته، اتجه في أول أمره إلى النفس يُنمِّي قُواها، ويوجِّهها إلى السموِّ، فدعاها إلى عبادة الله تعالى وحدَه، والاتجاه إلى إرضائه وحدَه، لا تخضع لسواه، ولا تعتمد على غيره تعالى، ولا تطمئنّ إلا إليه، ولا يمتلئ القلب بغير ذكر ه، كما وصف سبحانه وتعالى المؤمنين إذ قال: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] {الرعد:28}.

وإنَّ المؤمن إذا اعتمد عليه سبحانه وحدَه هان في تقديره كل شيء إلا أن يأمر الله تعالى به، فلا شيء في الوجود يكون له قدر إلا إذا رضي الله عنه، ثم صار المؤمن من بعد لا يحب شيئاً إلا إذا قصد بمحبته طلب ما عند الله سبحانه.

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم، حتى يحب المرءَ لا يحبُّه إلا لله) [أخرجه أحمد وغيره]، وفي حديث آخر: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس]. ويقول الله سبحانه: [قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {التوبة:24}.

وهنا نجد التجرُّد من أغلال المادَّة في إخلاص القلوب، واطمئنان النفوس، فعلى المؤمن في اتجاهه إلى الله تعالى أن يتجرَّد من كل الأسباب التي تربطه بالمادَّة من أموال وتجارة، وآباء وأبناء وإخوان وعشيرة، وليس معنى التجرُّد إهمالها، بل المعنى أن يجعلها سبيلاً لرضا الله تعالى، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) [أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما].

وما كانت الصلاة في مَغْزَاها ومعناها ومَرْماها إلا لتزكية القلوب وإرهاف الضمائر، والإشعار الدائم بذكر الله تعالى، وإنَّ العبد كما صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم يقترب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل من العبادات، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.

6 – وإنَّ المؤمن إذا وصل إذا هذه الحال من السعادة النفسية أصبح يعيش للحق جلَّت قدرته، ويطلب مرضاته في كل عمل يعمله، وكل مقصد يقصده، وطلب رضا الله تعالى في الاتجاه إلى سبيله المستقيم، وإنَّ سبيل الله تعالى تَقتضي أن يكون المؤمنُ مجاهداً دائماً.

وجهاده في ثلاث نواحٍ، كلها توصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى:

وأول هذه النواحي: جهاد النفس، وهو ألا يتركها للشهوات والمادة تتحكم فيها، وأن يجعل المادة وشهواتها مطيَّة ذلولاً، يتحكَّم فيها ويُوجِّهها نحو الخير، ويجعل هواه فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما يدعو إليه الله سبحانه وتعالى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) [رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنَّة] أي: أنَّ المؤمن الصادق حقاً، المذعن لله تعالى صدقاً، هو الذي يخضع أهواءَه وشهواتِه، ويوجهها نحو مرضاة الله تعالى، لا نحو الاعتداء وانتهاك حُرُماتِ الله سبحانه وتعالى. 

وإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمَّى ذلك الجهاد الأكبر؛ لأنَّه السبيل إلى كل جهاد بعده، فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من بعض غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) [قال العراقي: رواه البيهقي من حديث جابر، وهذا إسناد فيه ضعف] وإنَّ كل جهاد من بعد هو ثمرة لهذا الجهاد؛ لأنَّ الصبر في ميدان القتال لا يكون إلا من نفس استولت على شهواتها، وغلَّبت مَرْضاة الله تعالى على أهوائها، إذ الصبر يكون أولاً في قدع النفس عن شهواتها، ولا جهاد من غير صبر، ولا جهاد لمن أركِسَ في مَراتِعِ الهوى والشهوة.

الناحية الثانية من الجهاد: رفع الظلم الواقع، ومنع الظلم المتوقَّع، والنطق بالحق في موطن يَتقاضى النطق به، فإنَّ من أشرف الجهاد كلمة الحق، ولو ذهبت النفس فداءها، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ضعف]. 

وكلمة الحق في مَوطنها نورٌ يُستضاء به، وهدى يهتدى به، وشفاء للنفوس في وقت آلامها، ودواء لأسقام القلوب عند اعتلالها، وإنَّها لعذبة، وإن تَبِعَها عذاب، ولا يزال الناس بخير ما دام فيهم من يَنطق بالحق، ويَفتديه، ومن يردُّ الباطل ولا يَرتضيه، وإنَّ الجهاد في هذا أول ثمرات الجهاد الأول، فإنَّه يَقتضي الصبر أولاً، ويقتضي استحضارَ جلالِ اللهِ تعالى وعظمته ثانياً، ويقتضي الاستهانة بكل شيء في سبيل الحق الذي يَطلبه، ومَرْضاة الله تعالى التي يَستهدفها، وإنَّه كلما عظم جلال الله تعالى في قلبه هان أمر الناس فيه، وعظمت محبة الله تعالى في نفسه، ولذلك اقترنت محبَّة الله تعالى في القرآن الكريم بكلمة الحق لا يخشى فيها لومة لائم، كائناً من كان، ولذا قال سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54}.

الناحية الثالثة من نواحي الجهاد: حمل السيف للدفاع عن الحق، وفي سبيل الحق، ولا شك أنَّ هذا النوع من الجهاد هو ثمرة للنوع الأول منه، وهو الغصن العالي في دوحة الجهاد العظيمة، وأعلى الأغصان أظهرها وإن كان غذاؤه من جذع الشجرة ونماؤه منها.

7 – وقد يقول قائل: إنَّك عددت الجهاد من أول أنواع السعادة، مع أنَّه في ذاته جهد ومشقَّة! وكيف تكون المشقَّة سعادة؟ وكيف تكون آلام النفس هي سرورها؟ 

ونحن قد قرَّرنا أنَّ السعادة التي يطلبها الإسلام هي سعادة الروح، وليست سعادة الجسم، وإنَّ سعادة الروح في التغلُّب على الأهواء، وفي استحضار عَظَمة الله تعالى، والنطق بالحق حيثما كان الأمر، وفي الجهاد في الحق، ولأن يكون الإنسان قَريباً من ربِّه راضياً مَرْضياً، ولو في تعب جثماني، خير من أن يكون في راحة مُستمرَّة يأكل ويتمتَّع، فيعيش ليأكل، ويأكل ليعيش، فإنَّ تلك راحة تشبه سكون الماء الراكد، تسكنه الجراثيم والحشرات، وتأوي قواقع الأمراض الخبيثة.

إنَّ سعادة الإسلام تتجه أولاً إلى أن يكون الإنسان عاملاً يتحمَّل التبعات، صابراً في الشدائد والمكاره، مُتَّقياً لربه، محسناً في عمله، يردِّد: [إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 12، السنة 15، 1381هـ، 1962م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين