بعضكم لبعض فتنة

 

يقول مولانا جل في علاه  في سورة الفرقان :

{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }الفرقان20.

يا سبحان الله أنكون فتنة لبعضنا البعض ونحن لا نشعر؟ ...ويغدو الواحد منا مصدر ألم وسبب صداع دون أن يقصد ...كيف ؟ ومتى؟ وأين؟ تتساءل أدوات الشرط والاستفهام جميعها ...

        ولندع الحديث لأهل الاختصاص ، ولنفسح الطريق للخبراء بكلام الله فننظر ما هم قائلون؟.

قالوا رحمهم الله : أي ابتلينا البعض منكم بما عليه البعض الآخر من نعمة أو بلاء  ...فالغني مبتلى بالفقير أيساعده أم لا ، والفقير مبتلى بالغني إذا رآه أيصبر على فقره وضيق ذات يده ... والسليم مبتلى بالمريض أيشكر نعمة الله على الصحة والعافية ... والمريض مبتلى بالسليم أيرضى بقضاء الله وقدره أم لا ...والآمن في بلده وداره مبتلى بنعمة الأمن أيحافظ عليها أم يسعى في تضييعها ... والخائف مبتلى بالآمن ... وذا النعمة مبتلى بنعمته ... وصاحب البلوى ببلواه ...وهكذا... {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الأعراف168

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم 

فأنت مبتلى في كل أحوالك إيجاباً وسلباً ...وإن الله ناظر ذلك منك  ومراقب تصرفاتك ومطلع على خطراتك وسريرتك ...فإن أنت صبرت ... وإن أنت شكرت .. وإن انت تحملت ثقل ما أنت فيه ولم تفتن به كنت ناجحاً في الاختبار متفوقاً في الامتحان...

أحبتي في الله : 

كما ذكرنا آنفاً فإن صور ابتلاء الخلق بالخلق عديدة فالفقير مبتلى بحال الغني ممتحن هل يقول : يا رب لم لم تغنني...لم لم تعطني ما أعطيت فلاناً ...وحيث لا إيمان فإنه ربما يسخط على ربه فيقع في باب من أبواب الغضب الإلهي ... ويلج باب الفتنة ... ويكون بذلك الغني فتنة للفقير، كما افتتن قوم قارون به حين خرج عليهم في زينته...

وتلك الحالة نراها اليوم في مجتمعاتنا رئي عين ، ونلمسها لمساً حقيقياً ...أن تدعو الفتنة بالغني الفقير الى الاعتراض الشفهي، وربما تطور إلى سعي دؤوب ليرقى الى صف الغني بوجه مشروع وغير مشروع ...

    أتصبرون ؟ .... في هذا إرشاد رباني حكيم ... الصبر ... فالصبر يقي من كل آثار تلك الفتنة ...فتنة عدم الرضا بالواقع ...فتنة الرغبة بما لم يعط ...فتنة الضجر مما نحن فيه ...فالصغير ود لو كان كبيراً،  والكبير يرغب لو رجع صغيراً وشاباً، والفقير ود لو اغتنى ، والغني ود لو استراح ولو سلب المال جله .. 

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا

وخالٍ يشتهي عملا .. وذو عملٍ به ضَجِرا

ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا

وذو الأولاد مهمومٌ .. وطالبهم قد انفطرا

ومن فقد الجمال شكي .. وقد يشكو الذي بُهِرا

ويشقى المرء منهزما .. ولا يرتاح منتصرا

ويبغى المجد في لهفٍ .. فإن يظفر به فترا

شُكاةٌ مالها حَكَمٌ .. سوى الخصمين إن حضرا

ومن صور فتنة الناس بعضهم ببعض أن يفتن الإنسان بمحبيه ويغتر بكثرتهم ..ومتى كانت الكثرة نافعة؟.. ومتى أغنت الوفرة أصحابها...المسلمون اليوم كثيرون قرابة المليارين ويزيد،  لكن أين هم ...غثاء ...

عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.

ما أَكثَرَ الناسَ لا بَل ما أَقَلَّهُمُ      اللَهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُل فَنَدا

إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها      عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَدا

يعجب المرء اليوم بكثرة متابعيه في توتير وأصدقائه في الفيسبوك ...وفي لحظة من اللحظات قد يداخله من ذلك زهو عجيب ... عندني خمسة آلاف صديق ... عدا الذين هم في قائمة الانتظار ... ويفاخر بهم الناس ... وتتعالى نفسه ... فتورده المهالك ... 

قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: "يا أمر المؤمنين؛ لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها".

أعرفها بضعفها ... أعرفها بفقرها ... وأن هؤلاء لا يغنون عنك من الله ... وما هم بنافعيك...لا في الدنيا ولا في الآخرة .. آخر حد لهم عندما توسد في قبرك ، قال عليه الصلاة والسلام : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى مَعَهُ عَمَلُهُ "، أما الأهل ... أما الأتباع ... أما الجماهير المسبحة بحمدك ... الممجدة لاسمك ... أما المطبلون ... أما المزمرون ... أما القائلون : بالروح بالدم نفديك يا فلان ...فلن ينفعوك فتيلاً ... إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).

{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }إبراهيم21.

أحبتي في الله : ومن صور افتتان الخلق بالخلق أن تفتن بظالم يسلط عليك، فيؤذيك في نفسك ، ويسلبك راحتك، ويقلقك في ليلك ونهارك، ويشاركك في طعامك وشرابك ، ويكون هاجسك أينما ذهبت وحيثما حللت ، ولا حيلة لديك ولا حلاً ولا مصرفاً ولا مخرجاً ، فهو فتنة تدعو إلى الحيرة ... وحيرة تورث ضياعاً ... والضياع قاتل في كثير من الأوقات . 

لذا كان من دعاء المؤمنين {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }الممتحنة5 ، ومن دعاء قوم موسى {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }يونس85، ومن دعاء بعض السلف لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين.

ومن صور افتتان الخلق بالخلق أن تفتتن بجار سيء لا يقيم للجيرة وزناً ولا اعتباراً ... ولا يرعى لك حرمة ولا مقداراً ... يضيق عليك رحب بيتك ... ويحاربك في أهلك وخاصة نفسك ... إذا ما خرجت من بيتك وقع نظرك عليه؛ فضاقت نفسك ، وإن دخلت دارك لم تأمن بوائقه ... وإذا ما غبت عن بيتك لم تأمنه على مالك وأهل بيتك ... فأعظم بها من فتنة ... وأكبر به داعية هم وسبب قلق ...

كان لرجل من السلف جار سوء ، لا يكف عن أذاه ، ولا يتورع عن إلحاق الضرر به وبعائلته ... فباع داره رغم روعته وجمالها ... وفرط فيها مع غلائها وموقعها الرائع ... فلامه أهله وأصدقاؤه ... فأجابهم شعراً : 

يلومونني أن بعت بالرُّخص منزلي ... ولم يعرفوا جاراً هناك ينغِّص

فقلت لهم كفُّوا الملام فإنّها ... بجيرانها تغلو الدِّيار وترخص

 

ألا ترى أخي المؤمن ... أن الفتن من حولنا متوزعة في كل جهة ... متناثرة في كل مكان ... فما الحل إزاء ذلك؟ ... الحل واحد : دعاء الله أن يقيك الفتنة ... ويعصمك من الوقوع في أتونها ....

فاللهم نعوذ بك من الفتن .. ما ظهر منها وما بطن .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين