الشؤم سوء الخلق

 

روى الإمامُ أحمدُ في مُسنده عن عائشةَ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليُمْنُ حُسنُ الخلُقِ، والشُّؤْمُ سوءُ الخُلُق).

المعنى: 

التفاؤل والتيمُّن هو سنَّة الحياة، والتشاؤم نشوزها، والتفاؤل سُنة الحياة لأنَّه سنة العمل وسنة الفطرة التي يَدين بها الوجدان قبل أن تَدين بها الأذهان.

فكل منا إنَّما دخل هذه الحياة وهو أضعف ما يكون حَولاً وحيلة، دخلها عارياً سَاهياً قليلَ الأدوات محتاجاً إلى كل عون في الطعام واللباس والمأوى والوقاية، وكل علامة من علامات هذا الضعف البالغ هي في الوقت نفسه علامة من علامات الثقة بالله تعالى والاعتماد على سُننه في الوجود، وهي صورة من صور التفاؤل الأصيل الذي يمتزج بطبائع الأشياء.

ففي التفاؤل ارتياح واستبشار، وفوز وظفر، وهو عنوان الاتكال على الله تعالى وحسن الظنِّ به، وهو يَبعث في النفس نشاطاً، وفي الروح قوة، وفي العزم شِدَّة.

أما الشؤم والتشاؤم فإنَّه يَبعث في النفس الإحجام واليأس من الظفر، ويدعو إلى التخاذل والإيحاء بالفشل، فتضعف الروح المعنويَّة، ويسوء الظنُّ بالعناية الإلهيَّة.

لأنَّ من عَارضت المقادير إرادتَه، وصدَّه القضاءُ عن طِلْبَتِه وكان من المتشائمين جعل التشاؤم عذرَ خَيبته، وغفل عن قضاء الله عزَّ وجلَّ ومشيئته، ففي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنَّا أناس يتطيَّرون – أي: يتشاءمون – قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذلك شيءٌ يجده أحدُكم في نفسه فلا يصدَّنكم).

فأخبر صلوات الله عليه أن تأذِّي الإنسان وتشاؤمه إنَّما هو في نفسه وعقيدته، فوهمه وخوفه هو الذي يَصدُّه عن الفعل ويجلب له الشر، فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكَّل على الله تعالى قطع هواجس التشاؤم قبل استقرارها، وحال دون خواطره قبل استمكانها.

فالشؤمُ في الحقيقة هو معصية الله، واليُمْنُ والتفاؤل هو طاعة الله تعالى وتقواه، والشؤم الذي يهلك من قاربه هي المعاصي فمن قاربها وخالطها وأصرَّ عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي.

والعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره فإنَّه لا يُؤمَنُ أن يَنزل عليه عذاب فيعمَّ الناس، خصوصاً من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه مُتعيِّن، فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس عموماً، وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعيَّن البعد عنها والهرب منها خشية نزول العذاب، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما مرَّ على ديار ثمود بالحِجْر: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين خشيةَ أن يُصيبكم ما أصابهم).

ولما تاب الذي قَتَلَ مائة نفس من بني إسرائيل وسأل العالِمَ هل له من توبة؟ قال له: نعم. فأمره أن يَنتقل من قرية السوء إلى القرية الصالحة فأدركه الموت بينهما، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إليهم أن قِيسوا بينهما فإلى أيهما كان أقرب فألحقوه بها، فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر فغفر له.

على أنَّ للمرض ولا شك أسباباً وللتلف أسباباً، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره.

وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره، وبأيام دون أيام كيوم الأربعاء والثلاثاء فغير صحيح، وإنَّما الزمان كله خلقُ الله تعالى وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مُبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله تعالى فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللَّحْيَين، يعني: اللسان.

يقول (توماس أرنولد) في رسالة له عنوانها: (العقيدة الإسلامية) ما ترجمته: (إننا نجد الإسلام كما عرف عنه في كل تاريخه بأنَّه دين أخلاقي يُشدِّد على أتباعه في التمسك بالواجبات الأخلاقيَّة، ويفرض عليهم أن يَدينوا بالحقيقة الثابتة من أنَّ الله هو المتصرف في كل شيء، وأن كل عمل لعباده إنَّما هو طوع مشيئته وإرادته، وهذا مما يَغرس في نفوسهم التبجيل وتكريم النفس مما يظهر أثره في سلوكهم الخارجيّ، وكذلك في أوقات المحنة والآلام نرى بهذه العقيدة أثرها في الكفِّ عن الشكوى وتمجيد خلق التسليم والرضا الذي هو من سمات حياة المؤمن، فإذا مَسَّه ضر أو نزلَ به نصب كان تحت تأثير هذه العقيدة أكثر احتمالاً حين يذكر أنَّ هذا من رَبٍّ كتبَ على نفسه الرحمة رؤوف بعباده رحيم).

لذلك كان من التعاليم الإسلاميَّة التي يجب أن يَتَمسَّك بها كل تقي ويتثقف بها كل مؤمن أن يثق في العدل الإلهي، وأنَّ كل ما يحدث له من المصائب إنما هو مقسوم له فيجب أن يقابله بالصبر والتسليم إذ هو من قبل الحكيم الخبير، وهو خير ولا شك مهما خَفِيت حكمته، وغابت عنَّا أسرار أفعاله، قال تعالى: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}.

فالتشاؤم كلُّه سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل كله حسن ظن بالله سبحانه وأمل في عدله ولطفه، والمؤمن مأمور بحسنِ الظنِّ بالله تعالى في كل حال، والتوكل عليه في الغدو والآصال قال تعالى: [وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87}. روح الله: أي رحمته.

وأما ما لاكته بعض الصحف في هذه الأيام من نحس يوم الجمعة وشؤمه فهو مخالف لما جاء في السنَّة من فضل ذلك اليوم.

ففي المسند والسنن من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ قالوا: يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد بليت؟ قال: إنَّ الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه الحاكم وابن حِبَّان في صحيحهما.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ في يوم الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسأل الله تعالى خيراً إلا أعطاهما إياه). 

وقد اختلف العلماء في هذه الساعة وأرجح الأقوال أنَّها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة.

وحجَّة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى أنَّ عبد الله بنَ عُمرَ رضي الله عنهما قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئاً؟ قال: نعم، سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 4، السنة 13، 1378 الموافق 1959).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين