الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه -3-

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ...

فقد ذكرت في الحلقة السابقة أن السلطان مراد الثاني بعد أن بسط لابنه محمد بساط الأمن وخلصه من العدو الخارجي الذي تربص به أعاده إلى السلطنة مرة أخرى ، وأعاد إليه الوزراء الذين يساعدونه في حكمه ، ثم رجع مرة أخرى إلى عزلته في مغنيسيا ..

 وكم كان يتمنى أن يقضي باقي عمره بعيدا عن لهو الحياة ومباهج الحكم وشهوته ، وأن ينقطع لعبادة ربه دون منغص ، ولكن بعد شهور جاءته الأنباء بأن بعض جنود الانكشارية حاولوا استغلال ضعف سطوة الصبي محمد ، وأعلنوا التمرد عليه ، زاعمين أن زنة الأقجة العثمانية قد نقصت في عهده ؛ مما تسبب في نقص القيمة الشرائية للرواتب التي يأخذونها ، وازدروا به وعصوه ، ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة ، فاضطر السلطان مراد إلى ترك عزلته مرة أخرى ، ورجع إليهم في أوائل سنة 1445 م وأخمد فتنتهم ، وأدّب رؤساء الفتنة ومثيري الشغب منهم ..

وليُنسي الناس وقْع ما حدث وليستفيد من طاقة الجند الانكشارية بعد أن تبين له أنهم ـ كأي جند ـ إن لم يفرّغوا طاقتهم في الخير فرغوها في الشر ، وعاثوا بها فسادا في الأرض ، خرج بهم إلى بلاد اليونان لمواصلة الفتوحات والجهاد في سبيل الله ، ففتح  مدينة كورنته .. وأرضاهم من الغنائم التي غنمها في فتحه ..

وأراد العودة إلى خلوته ولكن لم تتح له الفرصة مرة أخرى ، فقد جاءته الاستخبارات بأن "هونياد" الذي عفا عنه من قبل ، ووهب له حياته  يسعى لتجهيز حملة صليبية جديدة ضده ، وأن هذه الحملة اشترك فيها مائة ألف جندي من المجر وألمانيا وبولونيا وصقلية، ونابولي، وتألف الجيش من 38 كتيبة ، معظمها لا تعرف لغة الأخرى. وأن هذا الجيش الجرار تقدم حتى صحراء كوسوفا ، فأسرع على الفور بإعداد عدته والتقى بجيشه به يوم  (18 من شعبان 852 هـ = 17 من أكتوبر 1448م) واستمر القتال 3 أيام ، وفي اليوم الثالث نجح السلطان مراد في محاصرة العدو الذي أنهكه التعب وضربات القوات العثمانية المتتالية، وأغلق أمامه طريق العودة.

وعجز "هونياد" عن المقاومة حتى إذا حل الظلام تمكن من الهرب مرة أخرى ، تاركا خلفه 17 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الأسرى ، وأعاد هذا النصر ذكرى انتصار السلطان مراد الأول على "لازار" ملك الصرب في هذا المكان سنة (791 هـ = 1389م) أي قبل 59 عاما من النصر الثاني، كما قضى على آمال الأوربيين في إخراج العثمانيين من بلاد البلقان لعصور طويلة .

أما الصبي محمد فلم يترك هملا خلال تلك الفترة  ، وإنما أرسله أبوه إلى مغنيسيا ليدير من هناك منطقة الأنضول ، ليكتسب الخبرات والمهارات ، وليعرف الجند أن تركه للسلطنة لم يكن إلا ليقوم بمهمة أخرى كلفه بها أبوه .

والمهم أنه رأى بعينيه كيف تصرف أبوه مع ملوك أوربا الذين حاولوا أن يهددوا سلطانه ، وكيف أوقع بهم هزائم قاسية ، وكيف أنه لم يكن يتهاون في الخروج إليهم بمجرد أن يحس بتحركاتهم ، وإنما كان يفاجئهم قبل أن يفاجئوه ، ورأى كيف كان حزمه مع مثيري الشغب من الانكشارية ، وكل ذلك طُبع في ذهنه ليستفيد به عند الحاجة ..  

وتوالت عليه الأشهر والأعوام في مغنيسيا وهو يزداد كل ساعة خبرة ومهارة ومقدرة وبسالة وإقداما ، وفوق كل ذلك كانت تتابع على مسامعه الأحاديث من شيوخه عن أمجاد السابقين تارة ، وعن ثواب الجهاد ونشر الإسلام أخرى ، وعن بشرى النبي صلى الله عليه وسلم لمن يفتح القسطنطينية وروما تارة ثالثة ، وعن كيد الكافرين لإطفاء نور الله سبحانه وتعالى تارة رابعة .

يسمع كل ذلك فيتوقد حماسة ، ويتمنى لو أتيحت له الفرصة فيحقق من المجد مثل ما حققه من سبقه ، وأن يكون في مصاف الصحابة الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يجاهد المعاندين من أعداء الله وأعداء الإسلام بكل ما يملك ، وأن يبذل من أجل إسلامه كل غال ورخيص ، وأن يظفر ببشرى النبي صلى الله عليه وسلم التي طالما سعى للظفر بها من سبقه من أمراء المسلمين على مدى ثمانية قرون ..

وأكثر من ذلك أن يهيمن على العالم كله فيسيره وفق ما يريد الله سبحانه وتعالى ، فيحل الأمن والسلام في الأرض ، وتخلو من الشحناء والبغضاء ، ومثيري الفتن تحت ستار المسيحية والخلاص ؛ وغدا يردد في أقواله : إن العالم ينبغي أن يكون إمبراطورية واحدة ، تحكم بإمبراطور واحد ، وبقانون واحد ..

ويتمنى أن يفعل كل ذلك فيسعد البشر جميعا ، دون أن يجبر أحدا على اعتناق فكر معين ، وإنما يمنحهم الفرصة فقط ليتعرفوا على الله دون ضغوط من أحد . 

وظل على تلك الحالة حتى حانت وفاة أبيه مراد الثاني في الأول من المحرم، الموافق لـ3 فبراير سنة  856 هـ ، وخلفه على السلطنة بصفة رسمية ، وكان عمره إذ ذاك حوالي 21 عاما .

 وكان حين وفاة أبيه في " أمغنيسيا " فجاءته الأنباء بوفاته ، وأن الوزير الأعظم  " خليل باشا جاندارلي" سيتولى إدارة شؤون الدولة إلى حين وصوله ، وأنه أظهر للجند أن السلطان حي يرزق، حتى لا يضطربوا  عليه إذا علموا بوفاة السلطان .  

وعلى وجه السرعة جهز نفسه ، وسار بحاشيته من مغنيسيا حتى وصل إلى أدرنة في أيام معدودة ، وهناك وجد الوزراء والعلماء وكبراء القوم في انتظاره فعزوه في وفاة أبيه أولا ، ثم أعلنوا مبايعتهم  له بالسلطنة ثانيا ..

 وأمر بعد ذلك بتجهيز جثمان أبيه ليشيعه إلى بورصة ، ثم ركب وسائر رجال دولته في رفقة الجنازة ، كالعادة المتبعة في تشييع الملوك والسلاطين ، وهنالك في بورصة وضغ الأب ليدفن مع أجداده العثمانيين حسب وصيته التي طلب فيها :" أن يدفن في بورصة ، وألا يبنى على قبره شيء ، وأن يعمل أماكن بالقرب من القبر يجلس فيها الحفاظ لقراءة القرآن الكريم ، وأن يدفن يوم الجمعة .

وبعد جلوس السلطان محمد الفاتح على العرش تنافس الحكام والملوك ( مسلمين وغير مسلمين ) في بعث الوفود لتهنئته بتولي الحكم ، وتقديم الهدايا له ، وكيف لا يفعلون ذلك وهو أعظم ملك في عصره في الشرق والغرب .

ملك صغير في السن بالنسبة لغيره من الملوك على مر التاريخ ، ولكنه كان يمتلك من المقومات ما لا يمتلكه كثير من العظماء ، حتى وصفه أحد البنادقة الذين زاروه ( وهو الرحالة لنغاستو ) بقوله : شاب حسن البشرة ، عظيم الجثة ، فوق المتوسط في الطول ، قوي الذراعين ، يثير مظهره الهيبة أكثر من الاحترام ، قليل الضحك ، متتبع المعرفة ، وموهوب بالأفكار الملكية الحرة ، مصمم في أهدافه ، جريء في جميع الأمور ... يسمع كل يوم تواريخ الرومان وغيرهم .. ومدونات البابوات والأباطرة وملوك فرنسا والأمراء اللومبادريين ..

إنه يتكلم ثلاث لغات : التركية واليونانية والسلافية ، ويبحث بكل دقة عن المعلومات عن أوضاع إيطاليا .. وكرسي البابا والإمبراطور ، وكم ممالك هنا في أوربا ، وعنده خريطة لها ، ويظهر عليها دولها وأقاليمها ، لا يُعجب ولا يبتهج بأي شيء كإعجابه وابتهاجه بدراسة أوضاع العالم وعلم الحرب ، باحث فطن للأمور ، يلتهب رغبة في الحكم .. هذا هو الرجل الذي يجب علينا معشر المسيحيين أن نواجهه .. إنه شديد المراقبة والحذر ، قادر على تحمل المشقة والبرد والحرارة والعطش والجوع .. يقول : إن الزمن تغير الآن ، يجب أن يسير من الشرق إلى الغرب بعد أن سار الغربيون فيما سلف إلى الشرق ، أي يجب أن يغزو الشرقيون الغرب بعد أن كان الغرب هو الذي يغزوهم ..    

 ونذكر ممن أرسلوا وفوداً إلى السلطان لتهنئته الإمبراطور البيزنطي "كوستانتينوس بالأولوغوس" وإمبراطور "طرابزون"  الرومي "يؤانس كومنينوس الرابع" والنائب على المملكة المجرية  "يانكو هونياد" والملك الصربي "برانكوفيج" وحكومات" الأفلاق" "وراكوزا/دوبروفنيك" و"جنوى" وإمارة "مدللي" الجنوية؛ وأمراء "المورة" وفرسان "رودوس" والجاليات الجنوية في "ساقز" و"غلطة"  إضافة إلى ملوك المسلمين في مصر والشام والعراق والهند .

وبعض هؤلاء كانت الحرب سجالا بينهم وبين دولته ، ولكن الحرب شيء ، وتبادل المنافع والتهاني شيء آخر ..

وجاءه نقباء الجند يسألونه منحة لهم بمناسبة اعتلائه كرس السلطنة فأمر بصرف قدر من المال لكل جندي من جنوده ..

وبعد ذلك جمع وزراءه ومستشاريه وكثيرا من العلماء ، وبدأ يتباحث معهم في أمور الدولة ، والأسلوب الأمثل لإدارتها ، وكيفية النهوض بها وتوسعة رقعتها ، ودفع الأخطار التي تهددها في الخارج والداخل .

وتمخض الاجتماع عن ثلاث محاور :

ـ المحور الأول حماية حدود الدولة وتوسيع رقعتها ، وذلك عن طريق التصدي للمتآمرين عليها والمتحالفين ضدها ، ومواصلة الجهاد في سبيل الله لفتح الطريق أمام الإسلام في بلاد أوربا ؛ حتى يعم أرجاءها ، ومساعدة الشعوب التي ترغب في الانضمام تحت لوائه على التحرر من نير حكامها الظالمين .

ـ المحور الثاني النهوض بالدولة من الداخل لتكون في مصاف الأمم عن طريق الاهتمام بالعمران وإصلاح الطرق ، والإكثار من المرافق العامة ، وإقامة المستشفيات ، والإكثار من المنشئات والمشاريع الزراعية والصناعية ، والتجارية ، ونشر العلم عن طريق إنشاء المدارس والمعاهد والمراصد الفلكية والمعامل والمكتبات العلمية ، وتشجيع العلماء في شتى البلاد على الوفود إليه لتعمير تلك المدارس ، والاهتمام بمؤسسات الجيش وتطوير نظام القتال به ، وتطوير الأسلحة بطريقة تضمن لجيشه أن يكون الأقوى بين جيوش العالم ..

ـ المحور الثالث توثيق العلاقات مع العالم الخارجي ، وخاصة الدول الإسلامية لتبادل المنافع .  

ونظر محمد الفاتح بعد أن صار السلطان الفعلي للبلاد فوجد مملكته شاسعة الأرجاء ، ولم يبق بآسيا الصغرى خارجا عن سلطانه إلا جزء من بلاد القرمان ومدينة سينوب ومملكة طرابزون الرومية ، وأما ( الإمبراطورية البيزنطية ) فصارت قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها فقط ..

فبدأ حكمه بمسالمة أمراء تلك الممالك ، وأيد المعاهدة التي أبرمها أبوه من قبل مع قسطنطين ، وليؤكد له أن العلاقة بينهما ستقوم على تبادل المنافع دون أن يفكر كل منهما في إلحاق الضرر بالآخر أرسل ابن أخيه أورخان وبعض طلبة العلم ليدرسوا بعض العلوم التي لا تتوفر في بلاده ، وانصرف لبسط سلطانه على الإمارات الإسلامية في آسيا الغربية ؛ التي استغل أمراؤها خبر وفاة أبيه وأعلنوا الاستقلال عن الدول العثمانية ، وعملوا على إشعال الثورات في بلاد الأناضول .

ولكن قسطنطين الذي أمضى له المعاهدة التي عقدها معه أبوه ، وحافظ له على بنودها وشروطها ، ولم يرض أن يكون الناقض لها ،  استغل فرصة انشغاله بتوطئة أمور دولته بالأنضول وغيابه عن عاصمته وأرسل يهدد الوزير " خليل باشا " الذي استخلفه السلطان محمد الفاتح عند خروجه ، وقال : إنه إذا لم يضاعف المعاش الذي يدفع لرعاية ابن أخي محمد ( أورخان ) فإن بيزنطة ستجعله مطالباً بالسلطنة العثمانية ، بعد أن يوفر له الجنود اللازمة لتحقيق ذلك .

وقد حسب أن السلطان محمد ما دام مشغولا بتتبع الأمراء الخارجين عليه بالأنضول فلابد أن يخضع لطلبه خشية من أن يحرض ابن أخيه عليه .

فما كان من الوزير خليل باشا إلا أن بعث برسالته إلى السلطان محمد في الأناضول لينظر فيها ، ويرى رأيه ، قرأ السلطان الرسالة وعلم ما فيها ، فسوّى أموره على وجه السرعة مع أمراء المسلمين بالأناضول ، وعقد مع ملوك البندقية وولاشيا والبوسنة وهنغاريا معاهدات سلم وتبادل تجاري وتعاون ، وعاد من فوره إلى أدرنة .

وذلك بعد أن أدرك أن قسطنطين لن يعبأ بالمعاهدات التي تعقد مع المسلمين ، وأنه كدأب من سلفه لا يرضى بالمعاهدات إلا حين الضعف ، وأنه يتحين الفرصة للتأليب عليه كما فعل من قبل مع أبيه ..

وأيقن أيضا أن دولته المسلمة التي أقامها أجداده بأوربا لن تستقر أمورها إلا إذا تخلصت من خطر أباطرة القسطنطينية ؛ لأن هؤلاء الأباطرة الذين رءوا في أنفسهم حامين للنصرانية في أوربا لن يرضوا على الإطلاق بوجود الإسلام بها ، مهما أبدى لهم المسلمون من ود ، ومهما حرصوا على مسالمتهم .. فاستشار رجال دولته في هذا الأمر فأشاروا عليه بضرورة التخلص من حكم الأباطرة بالقسطنطينية تماما إن أراد لدولته الإسلامية أن تعمر بأوربا ..

هؤلاء الأباطرة الذين أضحوا يكيدون للدولة العثمانية ـ بعد أن عجزوا عن محاربتها ـ بتأليب الدول النصرانية عليها حينا ، وبإغراء أمراء قرمان في الأناضول بالثورة على الحكم العثماني حينا آخر ، كما أنهم كانوا يتصلون سرا أو علنا ببعض أفراد البيت العثماني لتحريضهم على الخروج على السلطان الشرعي للبلاد ومنازعته على الحكم ، وإمدادهم بالعدة والعتاد  ..

كما أن فتح القسطنطينية سيساعد على ضم جزئي الدولة الشمالي والجنوبي بعد أن صارت الدولة البيزنطية هي الحاجز الوحيد الذي يفصل بينهما .

فأخذ بنصح هؤلاء ومشورتهم كما سنرى فيما بعد إن شاء الله تعالى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين