صفحات مُشرقة من تاريخ القضاء في الإسلام (1)

 

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتولى أمورَ القضاء بنفسه في صدر الإسلام، وكذلك كان شأن أبي بكر الصديق رضى الله عنه أول الخلفاء الراشدين، فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافة كانت رقعة الأمَّة الإسلاميَّة قد امتدَّت واتسعت، وكانت أمور المسلمين قد تعـدَّدت وتعقَّدت وبلغ نفوذهم الشام والعراق ومصر وغيرها مسرح الأقطار والأمصار مما دعا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى التفكير في أمر القضاء بين الناس، وقد ساعده على هذا التفكير أنَّ الخليفة كان قائد الجيوش، والمشرف على الأعمال الحربيَّة، وشتى الغزوات والشؤون الإداريَّة للجيش والحكومة.

ولذلك عوَّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على فصل الولاية العامَّة عن القضاء، وخرجت فكرة الخليفة من حيِّز التفكير إلى حين التنفيذ، ومضى يُعيِّن من ينوب عنه في القضاء والفصل في المنازعات والمخاصمات بين الرعية، فولى أبا الدرداء رضي الله عنه على المدينة، وولى شُريحاً رضي الله عنه على الكوفة، وولى أبا موسى الأشعري رضي الله عنه على البصرة. 

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا النظام يتفرَّغ للأعمال الكبرى في ولايته. 

رسالة عمر بن الخطاب إلى الأشعري: 

وقد كتب عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رسالة قيَّمة توضح كيفية التقاضي في الإسلام، وتُعتبر من أروع النماذج الرفيعة في قوانين المحاكمة والقضاء، ففيها يقول عمر رضي الله عنه: (سوِّ بين الناس في وجهك وعَدْلِك ومجلسك حتى لا يطمعَ شريفٌ في حَيْفك. ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك). 

وهو يشير في هذه الفقرة إلى وجوب التسوية بين الخصمين في كل شيء. 

ومما يُروى في هذا الصدد أنَّه كان بين أُبيِّ بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما مُنازعة وخصومة في حائط، فقال: بيني وبينك زيد بن ثابت، فأتياه فضربا عليه الباب فقال: يا أمير المؤمنين ألا أرسلت إليَّ حتى آتيك؟ فقال عمر رضي الله عنه: في بيته يؤتى الحكم، فأخرج زيدٌ وِسَادة فألقاها عمرُ، وقال: هذا أول جَورك، وأبى أن يجلس عليها. 

وهكذا أبى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجلس على وسادة، وهو من أحد الخصمين حتى لا يظنَّ ظانٌّ أنَّ القاضي يُؤثِرُ أحدَ الخصمين على الآخر بل يجب أن: يُسوي بينهما فلا يرفع عظيماً، ولا يضع حَقيراً.

وطلب عمر رضي الله عنه في هذه الرسالة أن يُصْغي القاضي إلى مَقال الخصمين، وفي ذلك يقول: (فافهم إذا أدلى إليك الرجلُ بالحجَّة، فامضِ إذا فهمت، وامضِ إذا قضيت، فإنه لا يُنتفع منكم بحقٍّ لا نفاذَ له).

بعض ما تضمَّنته الرسالة العمريَّة:

طالبت الرسالة العمرية بإحضار البيِّنة حتى يَستطيع القاضي أن يحكم بمقتضاها حسب قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء، كما أشارت إلى الشهود حين ذكرت: (المسلمون عدول إلا مجلوداً في حدٍّ أو مجرَّباً عليه شهادة الزور، أو ظنينا في ولاء).

ونصحت بكظم المشاعر والعواطف، وعدم الضيق والضجر، كما وضحت موارد الشريعة الإسلاميَّة الغَرَّاء.

وصفوة القول أنَّها أرست قواعد القضاء في الإسلام لما تضمَّنته من نصائح غالية للقضاة توجههم إلى سواء السبيل، وتحول بينهم وبين اقتراف المنكر، أو الجنوح نحو الباطل والانحراف عن العدالة.

ولذلك اختار الخلفاء المسلمون القضاة أحسنَ اختيار، واتقوا في ذلك الله ما استطاعوا، ولم يُعَيِّنُوا في هذا المنصب إلا كل من وثقوا في أخلاقه وسيرته، بل إنَّهم كأنهم يَمْتحنون القضاة قبل أن يُسندوا إليهم هذه الوظيفة، واشتهر من القضاة المسلمين، القاضي (شُريح) الذي ظلَّ في منصبه نحو ستين عاماً، وطار صِيتُه في الآفاق.

واشتهر من قضاة الدولة الأمويَّة: عامر الشعبي، إذ سأل عبد الملك بن مروان عن رجل يُوليه القضاء، فقال له روح بن زنباع: (أدلك على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتِكم، ليس بالملحفِ طلباً، ولا بالمعز معروفاً، عامر الشعبي).

فولاه قضاء البصرة، وفي ذلك يقول ابن عُيينة: (ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه) وذلك لحفظه ومَكانته في الفقه، وثقته في الحديث، ورياسته في العلم كالشمس في الآفاق.

القضاء في الدولة العباسية:

واعتمدت الدولة العباسية على طائفة ممتازة من القضاة، نذكر منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، قاضي أبي العباس السفاح، وشريك قاضي أبي جعفر المنصور، وابن أبي دؤاد قاضي المعتصم والواثق.

كما نذكر منهم كذلك يحيى بن أكثم قاضي المتوكل، والقاضي إسماعيل المالكي، وكان يُقال له: مالك الأصغر، وفيه قال المعتضد لوزيره ابن وهب:

واستوصِ بالشيخين الفاضلين إسماعيل بن إسحاق القاضي، وموسى بن إسحاق الخطمي خيراً، فإنَّهما ممن إذا أراد أحدٌ بأهل الأرض سوءاً دفع عنهم بدعائهما.

واشتهر في المغرب والأندلس من القضاة أسد بن الفرات والباجي وابن العربي وابن رشد وعياض والمقري ومنذر بن سعيد وغيرهم من الثقات.

عقد امتحانات للقضاة:

وكان قاضي قضاة المتوكل يحيى بن أكثم يتولَّى امتحان من يترشَّح للقضاء بنفسه حتى لا يتعيَّن في منصب القاضي إلا من أثبتت التجارب وأثبت ماضيه أنه جدير به، وجاء في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة أنَّ يحيى ابن أكثم كان يَمتحن من يريدهم للقضاء، فقال لرجل: ما تقول في رجلين زوج كل واحد منهما الآخر أمه فولد لكل واحد من امرأته ولد، ما قرابة ما بين الولدين؟ فلم يعرفها، فقال له يحيى: كل واحد من الولدين عم الآخر لأمه.

وليس هذا الامتحان شططاً من العمل أو بدعة جديدة أتى بها المسلمون المتأخرون، إذ يروى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم امتحنَ مُعاذاً لما أراد بعثه لقضاء اليمن فقال له: (بِمَ تحكم؟ فقال: بكتاب الله والحديث الخ...

ولما أراد ابن هبيرة تولية إياس أرسل فسأله بقوله: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال: أتفرض الفرائض؟ قال: نعم. قال: أتعرفُ من أيَّام العرب شيئاً؟ قال: نعم، قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قال: أنا بها أعرف. فولاه القضاء.

وجاء في كتاب (نفح الطيب) لأبي العباس المقَّري: (كانوا في عاصمة الخلافة في الأندلس لا يقدمون أحداً للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطولَ اختباره، وتعقد له مجالس المذاكرة ويكون ذا مال في أغلب الأحوال).

وهكذا كان الامتحان عنصراً من عناصر التعيين في مناصب القضاة كما كان التعيين بالمعرفة السابقة، أي: بطول الخبرة دون تحيز أو محاباة، أو بشهادة الثقة، أي: أن يشهد له جماعة من الثقات بطول الباع في فهم كتاب الله تعالى والسنة، وغير ذلك من أمور الشرع الشريف.

[للمقالة تتمة في الجزء الثاني]

المصدر: (مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1381 - العدد 208).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين