ضرب المرأة في الإسلام: شبهة وردود

 

د.إدريس أوهنا، أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس العلمية، المغرب.

 

      بمناسبة اليوم العالمي للمرأة – اليوم الثامن من شهر مارس من كل سنة- الذي اقترب موعده، والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء. ارتأيت تخصيص هذا المقال العلمي- الذي بذلت فيه جهدا كبيرا في التفكير والتأمل والبحث- للرد على شبهة أن الإسلام أمر بضرب المرأة، وهو بذلك قد أهانها إهانة كبيرة.. ولي من وراء ذلك مقاصد أهمها:

¥ تمكين من لا يملك العدة العلمية الكافية لكشف فساد دعوى إقرار الإسلام لضرب المرأة وتعنيفها.

¥ تزكية اليقين برشد وصواب وعدل ما نعتقده من أحكام شريعة رب العالمين، حتى نتحمس أكثر للدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، على نهج الوسطية والاعتدال من غير غلو ولا تفريط.

فأقول وبالله التوفيق:

لقد كان ضرب النساء - في نشوز وفي غير نشوز- متداولا بين العرب قبل الإسلام، ولا عجب في ذلك فإن المرأة التي تدفن في التراب حية، وينظر إليها أنها كل على مواليها، لا تفك عانيا، ولا تكسب رزقا، ولا تنكأ عدوا... لا عجب أن يكون الضرب أهون ما تتلقاه في وسط ثقافي كهذا.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هل الإسلام عالج هذه الظاهرة أم أقرها وشجعها؟

خصوصا ونحن نقرأ في كتاب الله تعالى من سورة النساء: 

"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " (النساء/34)

لا شك أننا إذا فهمنا هذا النص، في سياقه الخاص ثم العام، فهما جيدا؛ بأن نفهم المراد بالأمر  بالضرب، ونفهم الضرب المراد بهذا الأمر، ونفهم موقف الإسلام منه، زال عنا كل التباس ولاح لنا وجه القسطاس في شريعة رب الناس جل وعلا.. وذلك من وجوه كثيرة، أستهلها بتسليط الضوء على معنى النشوز أولا.

أولا: تحديد مفهوم النشوز.

النشوز لغة معناه: الارتفاع والعلو، يقال: أرض ناشزة، أي: مرتفعة. ( انظر مقاييس اللغة، ولسان العرب، مادة "ن ش ز" )

والنشوز بمعناه العام للنساء والرجال في الاصطلاح الشرعي، كما يتحصل من النظر في أبرز التفاسير والمصادر الفقهية ( انظر تفسير الآيتين 24و128من سورة النساء في: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، وتفسير الطبري، وروح المعاني للألوسي، على سبيل المثال لا الحصر، ومن المصادر الفقهية: الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي، للدردير المالكي، والمغني، لابن قدامة الحنبلي، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج على مذهب الإمام الشافعي، للرملي، والدر المختار شرح تنوير الأبصار، للحصكفي الحنفي )

هو: الترفع والاستعلاء عن أداء الحقوق التي أوجبها الشرع للزوج – المراد بالزوج هنا طبعا: الزوج والزوجة معا – فالقرآن كما عالج نشوز الزوجة عالج نشوز الزوج كذلك، كل وما يناسبه،( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) قال تعالى: ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا) النساء/128. فشرع لها ما يلي:

- أن تعظه بالله وتذكره بحقوقها.

- فإن لم يستجب وسطت بينهما رجلا حكيما ينصحه ويذكره.

- وإلا رفعت أمرها إلى القاضي، وطالبت بحقوقها.

أما النشوز المتعلق بالمرأة خاصة – وهو متعلق كلامنا في هذا المقال- فمعناه: امتناع الزوجة عن أداء حقوق الزوج. ومن صوره ومظاهره المجلية لمفهومه:

? امتناع الزوجة عن المعاشرة في الفراش.

? مخالفة الزوج وعصيانه في ما أمر به أو نهى عنه، وكان من المعروف              ( المعروف: ما وافق الشرع، وما تعارفت عليه العقول السليمة) كالخروج أو السفر بغير إذنه، وإدخال بيته من يكرهه، وزيارة من منع من زيارته، وترك خدمته وتربية ولده، والامتناع عن السفر معه أو الانتقال معه إلى بيت جديد مثلا، ما لم يكن في إجابتها ضرر عليها في نفسها أو دينها، وما شابه ذلك. 

? خيانة الزوج في المال أو النفس...

ثانيا: الأمر بالضرب في الآية أمر إباحة للحاجة والضرورة، لا أمر وجوب ولا أمر ندب. 

وهذه الحاجة أو الضرورة تتمثل في دفع نشوز الزوجة وإصلاحها حفاظا على عش الزوجية وبنيان الأسرة.

وهي إباحة على خلاف الأصل الذي هو حسن المعاشرة بين الزوجين، بتعبير آخر هي بمثابة الاستثناء من القاعدة الأصلية في العلاقة الزوجية كما أرادها رب العالمين، وسنها المصطفى الأمين، المبنية على المكارمة، وعلى السكينة والمودة والرحمة، كما هو مقرر بوضوح في قوله تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " (الروم/21)، وقوله تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف)، وكما يدل عليه سياق آية النشوز نفسها من سورة النساء. 

هذا السياق البديع، بما نص عليه من لزوم التدرج في التأديب، من اللين إلى الشدة كما هو ظاهر، وإن جاء العطف فيه بالواو الدال على مطلق الجمع دون ترتيب، من شأنه أن يحول دون اللجوء إلى الضرب ولو بقيوده وضوابطه الشرعية، وهو الأصل.. يقول أبو زيد المقرئ الإدريسي: " المآل العملي لتطبيق هذا الترتيب، هو أن ينتهي إلى منع الضرب. ذلك أن الضرب بما هو سلوك اجتماعي إنما يأتي في حالة من الانفلات والغضب والعجز عن السيطرة على النفس؛ واللجوء إلى العنف المادي للانتقام وإشفاء الغليل، أما الذي يضبط نفسه لكي يعظ، والوعظ مستوى راق من الأداء الحضاري، بالكلام والإقناع بالبينة، ثم ينتقل إلى ما هو أصعب على الرجل وهو أن يهجر زوجته ليس خارج المضجع وإنما في المضجع (...) حري بالذي يتحكم في ذلك أن يمسك يده عن الضرب.

وفي الواقع الذي يمارس فيه الرجل مع زوجته الوعظ، فإن استعصت يمارس معها الهجر، لن يحتاج منطقيا إلى ممارسة الضرب لأنه إن ملك لسانه وفرجه، فمن الهين أن يملك يده".( معضلة العنف: رؤية إسلامية، المقرئ الإدريسي، ص65)

ثالثا: إن إباحة ضرب المرأة الناشز ليس مطلقا، بل مقيدا بقيود صارمة، ومشروطا بشروط لازمة، تًضَيق على هذه الوسيلة العلاجية التأديبية إلى أبعد الحدود. وذلك بأن تكون مسبوقة لزوما بالوعظ والتوجيه والنصح والإرشاد، فإن لم يُجد ذلك فالهجر داخل البيت لا خارجه وفي الفراش فقط، ثم آخر الدواء الضرب، وليس المراد به الضرب الذي فيه انتقام وقسوة وتعذيب إنما المراد به الضرب التأديبي غير المبرح، وفي غير الوجه، 

وأن لا يكون مصحوبا بالألفاظ المهينة؛ فهو أبعد ما يكون عن العنف الجسدي.. دل على ذلك أحاديث نبوية صحيحة: 

قال عليه الصلاة والسلام: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن ياتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح " ( صحيح الجامع، الرقم7880 )

وفي حديث آخر قال معاوية بن حيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" (حسنه الألباني في "آداب الزفاف" الرقم 108).

وجاء في الموسوعة الفقهية: " قال المالكية وبعض الشافعية والحنابلة: يؤدبها بضربها بالسواك ونحوه، أو بمنديل ملفوف، أو بيده، لا بسوط، ولا بعصا، ولا بخشب، لأن المقصود التأديب".

ولم يرد في ضرب المرأة بالسواك حديث، إنما ورد ذلك في بيان ابن عباس وغيرهما من أهل العلم لطبيعة الضرب غير المبرح، بما يفيد أنه ضرب لا يضر بالجسد، فلا يمكن تصنيفه ضمن العنف الجسدي.

رابعا: إباحة ضرب المرأة الناشز للضرورة بقيوده الصارمة وشروطه اللازمة لا تعني الترغيب فيه بل العكس فإن السياق العام الذي ورد فيه الضرب في القرآن والسنة سياق الأنفة منه والتنفير منه وذمه وتبغيضه وكراهيته، وأن المقصد الشرعي الأسمى هو اتخاذ جميع الوسائل الوقائية لاستئصاله وكنسه من بيوت الزوجية، شأنه في ذلك شأن الطلاق فهو وإن كان حلالا فإنه مكروه ومذموم ومبغض.

والأدلة الشرعية على أن الضرب، وإن كان غير مبرح، مكروه ومنبوذ شرعا وإن أبيح ضرورة، كثيرة ومتعددة نذكر منها: 

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: 

لا تضربوا إماء الله فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئر النساء على أزواجهن فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف بآل محمد صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم ".

وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام "لا يعمد أحدكم يجلد امرأته جلد العبد فلعله يضاجعها من آخر يومه " وفي رواية " إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه ولعله 

أن يضاجعها من يومه "

يقول ابن حجر في شرح الحديث:

"ومهما أمكن الوصول إلى الغرض - يعني انتهاء الزوجة عن النشور -  بالإيهام لا يعدل إلى الفعل لما في وقوع ذلك – يعني الضرب اليسير - من  النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية "

خامسا: الابتعاد عن الضرب و إن كان غير مبرح هو الأصل الذي ينبغي الاستمساك به.

لقد تبين من خلال سياق القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين أن اجتناب الضرب هو الأصل، و هو ما استحسنه أفاضل علماء الأمة قال التابعي الجليل عطاء رضي الله عنه:"لا يضربها و إن أمرها و نهاها فلم تطع و لكن يغضب عليها".

قال العلم المالكي الفذ القاضي أبو بكر بن العربي: "هذا من فقه عطاء فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة و وقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي في حديث عبد الله بن زمعة "إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه و لعله أن يضاجعها من يومه" ( أحكام القرآن لابن العربي 1/225 - 1/420)

و قال في تفسير آية النشوز: " وإن ترك فهو أفضل" يقصد الضرب.

أما الإمام محمد رشيد رضا ،رحمهم الله أجمعين، فقال معلقا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس أولئك بخياركم" قال: "فما أشبه هذه الرخصة بالحظر". ( حقوق النساء في الإسلام، لمحمد رشيد رضا، ص55).

 

الخلاصة

إن الخلاصة التي ترتشفها النفس و يطمئن إليها البال من خلال تتبع سياق ضرب المرأة الناشز في القران و السنة، ومن مطالعة أقوال العلماء، أن الإسلام يأنف من ضرب الزوجة، و يهدف بالأصالة ، كهدف أسمى، إلى كنس الضرب من الحياة الزوجية بيد أنه اصطدم بعرف قائم لدى العرب فعالجه معالجة حكيمة بوضع القيود الصارمة وإطلاق الإشارات الصادحة بأن الضرب و إن كان يسيرا غير مبرح غير مرغوب فيه، بل هو مذموم و مكروه و ممقوت، لا نتجرع مرارته إلا لدرء مفسدة أعظم و هي مفسدة تخريب ميثاق الزوجية و كيان الأسرة، و بعد استنفاذ جميع الوسائل غيره، ولا نحتاج إلى ذلك إلا في حالات شاذة و نادرة جدا، والشاذ كما هو معلوم يؤخذ به في مجاله الخاص و لا يعتمد أصلا يقاس عليه. فإن الأصل في العلاقة الزوجية في الإسلام أن تبنى على المكارمة      و على المودة و السكينة و الرحمة عملا بقوله تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة..."- الروم 21-

وبذلك بان وجه الحق فيما دعت الحاجة للكتابة فيه، و لله الحمد      و المنة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين