صفحات مُشرقة من تاريخ القضاء في الإسلام (2)

 

شريح القاضي يحكم على الوالي:

وقد كان القضاة المسلمون يحكمون بالعدل والقسطاس المستقيم دون أن يخافوا لومةَ لائم، بل إنَّهم كانوا لا يترددون في الحكم على الخليفة نفسه إن لم يستطع إحضار البيِّنة، ومثال ذلك أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تحاكم إلى قاضيه شريح في درع له لقي نصرانياً يَبيعها، فقال له علي: هذا درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، ولما حضرا مجلسَ القضاء قال علي: اقضِ بيني وبينه يا شريح، فقال: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال علي رضي الله عنه: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان، فقال شريح: ما أرى أن تخرجَ من يده، فهل لك بَيِّنة؟ فقال علي رضي الله عنه: صدق شريح، فقال النصراني: أما أنا فأشهد أنَّ هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يختار قاضيه، وقاضيه يَقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعتك مع الجيش، وقد زللت من جملك الأورق فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: أما إذا أسلمت، فهي لك، وحمله على فرس عتيق.

عدالة القضاء في الأندلس:

وحدث ما يشبه ذلك في الأندلس على يد القاضي منذر بن سعيد البلوطي الذي تولى منصب القضاء في خلافة الناصر الأموي، وذلك أنَّه احتاج إلى شراء دار من قرطبة لحظيَّة من نسائه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة، وكانت بقرب الدارين في الربض الشرقي مُنفصلة عن دوره، ويتصل بها حمام له غلَّة واسعة، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاماً في حجر القاضي، فأرسل الخليفة من يُقوِّمها، وأرسل ناساً أمرهم بمداخلة وصيِّ الأيتام في بَيْعِها عليهم، فذكر أنَّه لا يجوز بيع هذه الدار، إلا بأمرِ القاضي منذر، فقال لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه منها الحاجة، ومنها الوهى الشديد، ومنها الغبطة، فأما الحاجة فلا حاجة بهؤلاء الأيتام إلى البيع، أما الوهى فليس فيها، وأما الغبطة فهذا مكانها فإن أعطاهم أمير المؤمنين فبها ما تستبين الغبطة أمرت وصيهم بالبيع وإلا فلا، فنقل جوابه إلى الخليفة فأظهر الزهد في شراء الدار طمعاً في أن يتوخى رغبته إليها. -الغبطة ، أي بأن يفعل أمير المؤمنين فعلاً للأيتام فيه إكرام لهم يقوم الناس بغبطة الأيتام عليه ، فإن فعل ذلك الأمير أجازه القاضي لأنه من مواضع الغبطة ، وإلا فلا. - 

وخاف القاضي أن تَنبعث منه عزيمة تَلحق الأيتام سورتها فأمر وصي الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها، ففعل وباع الأنقاض فكانت لها قيمة أكثر مما قُوِّمت به للسلطان.

فاتصل الخبر به فعزَّ عليه خرابها وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على القاضي أنَّه أمره بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي منذر وقال: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له: نعم، فقال وما دعاك إلى ذلك؟ قال: أخذت فيها بقول الله تعالى: [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] {الكهف:79}، ومقوموك لم يقوموها إلا بكذا، وبذلك تعلَّق وهمك، فقد بِعْنَا أنقاضها بأكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمام، ونظر الله تعالى للأيتام، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك، وقال: نحن أولى منك في إنفاذ الحق.

والشاهد في هذه القصة: أنَّ القاضي منذر بن سعيد البلوطي لم يتأثَّر بكلام الخليفة، بل تصرَّف في حدود الشرع الشريف دون خوف ولا وجل، ورائده في ذلك كتاب الله العزيز وسنته الكريمة، ووجه الحق لا يرضى بغيره بديلاً.

اختصاصات القاضي:

وقد استقرَّ الرأي في الشريعة الإسلاميَّة على أنَّ تولية القاضي إن كانت عامَّة شمل نظره فصل المنازعات والخصومات واستيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها، بعد الثبوت، واختيار الأوصياء على من لا يجوز تصرفه من المجانين والصغار والسفهاء، والمفلسين، والنظر في الأوقاف، وتنفيذ الوصايات، وتزويج الأيامى، وإقامة الحدود، والنظر في المصالح العامَّة من منع الضرر في الطرقات والأفنية، وإحداث ما يضر بالمارَّة من البناء وغيره، وتصفح الشهود والنواب عنه.

وقال ابن سهل في مقدمة كتاب (التبصرة): إنَّ خطة القضاء أعظم الخطط قدراً، وإليها المرجع في الجليل والحقير بلا تحديد، وإن على القاضي مدار الأحكام، وإليه النظر في جميع وجوه القضاء من القليل والكثير بلا تحديد، وقال: ويختصُّ القاضي بوجوه لا يشاركه فيها غيره من الحكام، ومن ذلك النظر في الوصايا، والأحباس، والترشيد والتحجير والتسفيه، والقسم والمواريث والنظر للأيتام، والنظر في مال الغياب، والنظر في الأنساب، وزادوا الجراحات والديات والتسجيل والإثبات.

وقال ابن الأميين القرطبي: (وللقاضي النظر في جميع الأشياء إلا في قضية الخراج، واختلف هل له قبض أموال الصدقات وصرفها في مستحقها إذا لم يحضر الناظر؟ فقيل: ذلك له، وقيل: لا).

المحتسب:

وأسندت إلى المحتسب بعد ذلك أمور النظر في مصالح الأبنية من ضررها والمضايقة في الطرقات، كما أسندت إليه ثلاثة أنواع من الدعوى، أحدها: فيما يتعلق ببخس في ثمن أو مثمن أو تطفيف ونقص في كيل أو وزن، وثانيها: فيما يتعلق بفسق أو تدليس في ثمن أو مثمن، وثالثها: فيما يتعلَّق بمطل غني في دين ثابت دون مُناكرة، ومن ذلك النفقات المقدَّرة من المجلس الشرعي على الزوجات والأقارب التي يُماطل أصحابها.

كما يتفقد المحتسب مجاري المياه العامَّة في المدينة فإن احتاجت إلى إصلاح أصلحها إن أمكن، وإلا نبَّه ذوي السلطة إلى الإصلاح، كما يأمر بتنقية الشوارع وتنظيفها، كطرح الأزبال والقمامات، وإراقة المياه التي تنشأ عنها الأوحال، وربط الدواب ونحوها والمرور بأحمال الحطب الكبيرة التي من شأنها إيذاء المارَّة وإطلاق الكلاب الضارَّة المؤذية، وإلزام أصحاب البناء المتداعي بهدمه أو إصلاحه، كما أسندت إليه أمور النظر في الأسواق كترتيب مقاعد الباعة حتى لا تقع مُضايقة أو شِجَار، واختيار الغُرَماء والأمناء فيها، واختيار القائمين على الوزن والكيل، واختيار السماسرة والدلالين وفحص المبيعات التي يدخلها الغش كالسمن والزيت واللبن والدقيق، ومُراقبة بيع الفاكهة واللحوم حتى لا يختلط الجيِّد بالرديء منها، ومنع الباعة من احتكار أو خزن ما يحتاج إليه الناس من طعام ونحو ذلك.

وللمحتسب كذلك النظر في الحمامات والمساجد والمعاهد العلمية والوقوف في مواطن الريب، وارتداء الملابس الخارجة ونحو ذلك.

أما ما خرج عن هذه الأمور من سائر الدعاوى في العقود والمعاملات والحقوق والمطالبات التي تتوقَّف على الشهود والبينات فلا دخل للمحتسب في الحكم فيها ولو كانت الدعوى في شيء يسير.

كاتب المحكمة:

وكان الخلفاء المسلمون يُدقِّقون في اختيار كاتب المحكمة، ويروي ابن عبد ربه في كتاب (العقد الفريد): أنَّه يشترط فيه أن يكون عالماً بالشروط والأحكام والفروع والناسخ والمنسوخ، والحلال والحرام والمواريث.

ولذلك امتلأت أمراء الخلفاء العباسيين وغيرهم بالتوصية في اختيار الكاتب الذي يَكتب المحاضر، ويجرد السِّجِلاّت ويوقع إعلانات الحضور.

الحاجب:

أما الحاجب فهو صاحب الباب الذي يقدم إلى القاضي أرباب الدعاوى والحاجات ويستأذن في دخولهم إليه، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: (وظيفة البوَّاب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر، ولاسيما من الأعيان لاحتمال أن يجيء مخاصماً، والحاكم يظنُّ أنَّه جاء زائراً فيُعطيه حقَّه من الإكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصماً، وإيصال الخبر للحاكم بذلك إما بالمشافهة وإما بالمكاتبة.

أعوان القاضي:

وكان للقاضي أعوان وخدمة للعدالة، والأعوان هم بمنزلة الشرطة للولي وهم حرسه وجنده الذين يَستعين بهم على جَلْب العصاة وزجر الطغاة.

أما الخدمة فهم خدَّام العدالة، ويروي ابن ميارة أنَّهم من لهم معرفة ببعض مبادئ الخصام وفصول الكلام، وهم الذين يتكلمون في المسائل المهمة ويسمون الوكلاء.

رواتب القضاة:

وكان القضاة يُمنحون رواتب سخيَّة حتى يتفرَّغوا للأحكام بعد أن يطمئنُّوا على مَعَاشهم ورزقهم. 

قال الكرابيسي من الشافعية: (لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة لا أعلم بينهم اختلافاً، وقد كَرِهَ ذلك قوم منهم مسروق، ولا أعلم أحداً حَرَّمه).

وقد اتسعت أرزاق القضاة لما ولي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وامتدت رقعة الأمة الإسلامية، وفي طبقات ابن سعد أن عمر رضي الله عنه رزق عياض بن غنم حين ولاه حمص كل يوم ديناراً وشاة واحدة.

وكان راتب القاضي في مصر ألف دينار. ففي حسن المحاضرة: ثم ولي عبد الرحمن الخولاني وجمع له القضاء والقصص وبيت المال، فكان يأخذ رزقه في السنة ألف دينار.

وفي الدولة العباسيَّة كان راتب القاضي في المدينة المنورة أربعة آلاف دينار، وجاء في كتاب القضاة للنبهاني: (وعرض أمير المؤمنين الرشيد على المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي قضاء المدينة وجائزته أربعة آلاف دينار، فامتنع، فأبى الرشيد إلا أن يلزمه فقال: والله يا أمير المؤمنين لأن يخنقني الشيطان أحب إلي من القضاء، فقال الرشيد: ما بعد هذا شيء، وأعفاه وأجازه بألفي دينار.

القاضي والإمام العادل:

والشاهد في هذه القصة أنَّ القضاة كانوا يُمنحون رواتب سخيَّة في شتى العصور الإسلاميَّة لما كان لمنصب القاضي من حُرْمة ومكانة، بل كان بعض المسلمين يتخوَّفون منه خشية أن يجوروا في أحكامهم، وهذا مما يزيد المنصب رفعةً وعلواً.

وجاء في حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها). وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون من السابقون إلى ظِلِّ الله تعالى يوم القيامة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لأنفسهم). -أخرجه أحمد في مسنده، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، وهو عبد الله، وقد تفرد به، وهو ممن لا يحتمل تفرده، وبقية رجاله ثقَات رجال الصحيح - 

وفي الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه وبدأ بالإمام العادل).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1381 - العدد 208).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين