البحث عن

 

برغم أن كذب إخوة يوسف على أبيهم يعقوب كانت أماراته واضحة جلية ، وبرغم شكوك الأب المسبقة ، إلا أنه مال إلى تصديق كذبهم أو التظاهر بذلك أو التعايش مع هذه الكذبة ، فمحاولة الهروب من واقع قساوة وجحود هؤلاء الأبناء أخف وطأة على نفس الأب من مرارة استكمال مشوار الحياة مع مأساة عزيز مفقود وجحود من باقي الأبناء مشهود .

ليس "يعقوب" وحده ، بل كلنا هذا الإنسان: أحلامنا وآمالنا وعواطفنا تطغى على عقولنا ؛بل على أبصارنا وأسماعنا التي تسمع وترى واقعاً نرغب في الهروب منه وتكذيبه .!

أكاد أشك في نفسي لأني

‏‎أكاد أشك فيك وأنت مني

...

يكذب فيك كل الناس قلبي

‏‎وتسمع فيك كل الناس أذني

وكم طافت علي ظلال شك

‏‎أقضت مضجعي واستعبدتني

كأني طاف بي ركب الليالي

‏‎يحدث عنك في الدنيا وعني

على أني أغالط فيك سمعي

‏‎وتبصر فيك غير الشك عيني

وما أنا بالمصدق فيك قولا

‏‎ولكني شقيت بحسن ظني

قد يهرب الإنسان من واقع أليم : إما لفرط عاطفته وإحساسه وحماسه ، وإما لفرط سلبيته وهروبه من مسئولية المواجهة .

وأياً كان الدافع ، فإن استمرار الهروب من مرارة الواقع يؤدي إلى عواقب غير محمودة .

تقول الأسطورة : إن رجلاً قوياً لم يكن يؤثر فيه حتى ضربات السيوف ، فكشف رجل حكيم عن سر قوة هذا الرجل بأنه يثبت قدميه في الأرض جيداً عند النزال ، فأرشدهم أن يحتالوا عليه ليرتفع عن الأرض قليلاً ، ففعلوا ، وبمجرد أن ارتفعت قدماه عن الأرض قليلاً طعنوه فأصابوا منه مقتلاً .

الأسطورة توجه رسالة إلى نقطة من نقاط الضعف الإنساني وهي التحليق بعيداً عن أرض الواقع ومعطياته .

هذا الشعور قد يسيطر على الفرد ، وقد تنتقل عدواه إلى شعور جمعي لجماعات من الناس تجمعهم أحلام وطموحات وعواطف متشابهة ، تدفعهم لعدم التصديق أو حسن التقدير لمخاطر ومحاذير وعقبات الواقع .

فجموع الشعوب التي خرجت إلى الشوارع لتسقط الديكتاتوريات العتيدة ، وبعد أن نجحوا في إزالة رأس الطغيان ، جمحت عواطفهم وارتفع سقف طموحهم وآمالهم ، وحلقوا بعيداً عن الواقع ، وتصوروا أن منظومة الفساد والطغيان ستتلاشى وتذوب أو تنوب إلى الله وتتوب .!

وصدقت كلمات "أوباما" وغيره مدحا في الشعوب ، ظناً بأن رأس الأفعى التي تقتات على امتصاص خيرات بلادنا ستغير جلدها .!

الواقع يقول إن موجة مقاومة استقلال شعوبنا ونيل حريتها موجة عاتية ، والانطلاق من هذا الواقع ليس دعوة للالتصاق بالأرض والتخلي عن التطلع للسماء والتعلق بالآمال والأحلام .

بل هي دعوة للتوازن بين الحلم والواقع والإمكانات والتحديات ومواطن الضعف ومواطن القوة .

ومجابهة الخصوم بقاعدة "كعب أخيل" تلك الأسطورة التي تصف "أخيل" بأن أمه كانت تمسكه من كعبه وتغمسه في نهر "ستيكس" الذي يمنح القوة ، وحين صار مثالاً للقوة التي لا تُقْهَر وعجز الخصوم عن مواجهته ، نصحهم حكيم بعدم جدوى مواجهته بالقوة وجها لوجه في معارك غير متكافئة ، بل التماس نقطة ضعفه المحددة في (كَعْبِه) الذي لم ينل حظه من سائل القوة .

وهكذا ينبغي على الشعوب التي ضحت لتنال حريتها ومنيت بردة في تحقيق حلمها أن تعيد حساباتها وتستعد للجولة القادمة وتُثَبّت أقدامها على الأرض مختزنة تجربة الجولة السابقة مدركة عدم جدوى مجابهة "أخيل" بطرق تقليدية ، والبحث عن "كعب أخيل" .

ومع تثبيت الأقدام في الأرض سنظل نستنشق ريح يوسف والتعلق بأمل : ( ...عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ? إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .)

والحلم بالنهاية السعيدة : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ? فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ .)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين