قضاء الحوائج... رتبة نبوية علية

 

الإنسان مدني بطبعه كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته الاجتماعية الشهيرة ، وهو يعني بذلك أنه محتاج إلى الناس ما بقي ، ومفتقر إلى التعامل معهم ما عاش بينهم ، فيكونون معينين له عند الحاجة ، وهو كذلك يعينهم إن احتاجوه . 

وعلى هذا لا غنى للإنسان عن أخيه الإنسان أياً كان ، زوجة أو زوجاً ... أخاً أو أختاً ... قريباً أو غريباً ... صديقاً أو غير صديق ... وهو ذو علاقة ماسة بهم ... وإن كانت تلك العلاقة تتفاوت قوة وضعفاً ... سخونة وبرودة ... متانة ورقة ... بتفاوت حاجته واختلاف أوضاعه يسراً وعسراً .

ومن المحال أن يَلْصَق الرجل بالرجل وينصرف إليه مدى الحياة ؛ لأنه احتاجه يوماً فلبى له حاجته ، أو طلبه في أمر فأجابه ؛ لأن لكلٍّ ما يشغله من شؤونه اليومية وهمومه المعيشية التي تأخذ حيزاً كبيراً من عقله ونفسه واهتماماته اللصيقة به ...

أسوق هذا الكلام بين يدي من يتبرم بأصدقائه ، وينزعج من أقاربه ، ويتأفف من معارفه إن قصدوه بين الفينة والأخرى ليقضي حوائجهم ؛ فيقول : فلان لا يعرفني إلا عند الحاجة ، ولا يتصل بي إلا عند وجود مصلحة ...فلان ذو مصلحة وناشد منفعة ...( مصلحجي) كما يعبر في بعض اللهجات العامية اليوم ...

وقائل هذا الكلام فاتته أشياء كثيرة غفل عنها...

أولها: أن خدمة الناس وقضاء حوائجهم مرتبة إنسانية وإسلامية عالية ... لا ينالها كل أحد ... ولا يدركها إلا ذو حظ عظيم ... أحبه الله ووفقه وجعله مطلوباً لا طالباً ... مقصوداً لا قاصداً ... ومرغوباً لا راغباً ... .

    وشتان بين اليد العليا واليد السفلى ... وبُعد ما بين من يقرع الأبواب لحاجة ومن يفتحها لِيَلِج منها ذوو الحاجة فيقضيها لهم ... فإذا كنت ذاك الرجل فاحمد الله ... وإذا كنت ذاك الإنسان فافرح لذلك واطرب ... فهي عناية إلهية ... وهي منزلة نبوية ... فقد كان عليه الصلاة والسلام يُقصد في كل حاجة ، ولا يتأفف ولا يتبرم ، ولا ينزعج ، ولا يقول للسائل : ما رأيتك مذ زمن بعيد... والآن تقصدني لحاجتك ؟... بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، ويهب بكل سماحة وسعادة ....

فَإِذا سَخَوتَ بَلَغتَ بِالجودِ المَدى      وَفَعَلتَ ما لا تَفعَلُ الأَنواءُ

زانَتكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ      يُغرى بِهِنَّ وَيولَعُ الكُرَماءُ

 

ألا تحب أن تكون كنبيك عليه الصلاة والسلام ... ألا تحب أن تكون ممن قال عنهم : «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا مِنْ خَلْقِهِ يَفْزَعُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ أُولَئِكَ هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الطبراني في مكارم الأخلاق وغيرُه.

ألا تحب أن تكون ممن قيل فيهم : 

الناس للناس مادام الحياة بهمُ ** * والسعد لاشك تارات وهباتُ

وأفضل الناس ما بين الورى رجلُ*** تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ

لا تمنعن يد المعروف عن أحد *** ما دمت مقتدراً فالسعد تارات

واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت*** إليك لا لك عند الناس حاجات

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم*** وعاش قوم وهم في الناس أموات

 

      يقص علينا التاريخ حواراً أسرياً ... حواراً عائلياً ... حواراً زوجياً بين رجل وزوجه ،  كل منهما يمثل جانباً غير الذي يمثله الآخر ، أحدهما يعكس فكراً عالياً ونفساً سمحة وصدراً رحيباً ، والآخر يعكس أفقاً ضيقاً وفكراً محدوداً ونفساً متعبة، وصدراً ضيقاً حرجاً ... قالت امرأة طلحة الطلحات ( طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وكان من الأجواد المشهورين ) : ما رأيت ألأم من قومك ؟ قال : كيف ؟ قالت : يأتونك إذا أيسرت ، ويقطعونك إذا أملقت وافتقرت .

      نظرة سوداوية ...نظرة ضيقة ... محدودة ...

ولكن انظروا إلى النظرة الأخرى ... إلى الفكرة الراقية ... إلى النفس السامية ...قال : هؤلاء أكرم قوم ... هؤلاء أحسن ناس ... هؤلاء هم الحكماء ... هم العقلاء ... هم الواقعيون ...يأتوننا حين تكون بنا قوة على برهم والقيام بحقوقهم ، وينقطعون عنا حين نضعف عن ذلك .... 

الله اكبر : 

وإذا كانت النفوس كباراً *** حارت في جمالها الأقلام 

لم يقل عنهم : إنهم مصلحيون ... منفعيون ... بل اعتذر لهم ، وبرر لهم ، وأحسن الظن بهم ... ولا يتردد عن خدمتهم ولو قطعوه ... وعن تقديم النفع لهم ولو هجروه ... هو يطلب الثواب من الله أقبلوا إليه أم أدبروا ... ويرغب فيما عند الله من الأجر ولو تناساه الناس ... فهم لا يعنونه في شيء ... المهم أن يملأ جعبته من الحسنات وحصّالته من المثوبة ... أحد الإخوة المحسنين في هذا البلد أعرفه تمام المعرفة حمدته ذات مرة على خير فعله ، ورُقِيٍّ مع من يقصدونه يتحلى به دائماً ... فابتسم وقال : أنا أحمل الآن بيدي حصّالتي لأملأها بالحسنات ... منك ... ومن فلان ... وفلان ... في الكويت وخارجها ... في آسيا وفي إفريقيا ... يا لسماحة النفس وما أحلاها ... ويا لروعة القلب الكبير ما أعلاها .

فاربأ بنفسك واعلُ بها واسمح عمن تحسن إليهم ولا تقطع صِلاتك عنهم ، وتذكر دائماً قول الله تعالى : {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور22.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين