قصة قصيرة حقيقية

 

في أحد مهاجع سجن صيدنايا، بعد مضي أسابيع على ثورة تونس التي بدأت كاحتجاج على انتشار البطالة، وبعد أسبوعين على الثورة المصرية التي رفعت في بدايتها شعار الخبز (عيش)، قال لي أحد أنصار القاعدة معلقاً على وصف قتلى الثورتين بالشهداء: "كيف يوصف هؤلاء بالشهادة؟ من يقتل من أجل الخبز لا يمكن أن يكونوا شهداء.. وما لم يرفعوا شعاراً إسلامياً فما هم إلا "فطايس"..

بعد شهرين ونصف خرجت مظاهرة في سوق الحميدية وسط دمشق وهتف المشاركون فيها: "الله سوريا حرية وبس" تلقى صاحبي هذا الشعار بترحاب وحماس كاملين وشعر كما شعرنا جميعاً بالأمل في الخروج من السجن بل والتخلص من النظام، وصار يتابع المظاهرات وشعاراتها "اللاإسلامية" بلهفة لا تقل عن لهفة أي أحد، وجرت الأيام حتى صدر نهاية أيار 2011 العفو الذي شمل عدداً كبيراً من المعتقلين في صيدنايا فما كان من جميع السجناء إلا أن قاموا إلى الأبواب وراحوا يطرقون عليها بشدة مرددين شعار "بالروح بالدم نفديك يا درعا" في مشهد مهيب استنفرت الشرطة العسكرية في السجن على إثره وانتشر عناصرها بين المهاجع خوفاً من أي تطور..

لم يكن صاحبنا هنا استثناء من القاعدة، لكنه بهذا الموقف كان استثناء حقيقياً من فكر تنظيم القاعدة الذي رأى في الحراك آنذاك ثورة على الطاغوت "في سبيل الطاغوت" لا في سبيل الله..

في ذلك الحين كان يخيل إلى المراقب أن القاعدة خسر الكثير من جاذبيته كجماعة تطرح حلاً جذرياً لمشكلة العالم الإسلامي المتمثلة بأنظمة الحكم الظالمة والمعادية للدين، وذلك أن الثورات وفرت طريقاً أقصر وأشمل وأسمى إلى درجة بات معها التشكيك بقيمها أمراً مستعظماً لا يجرؤ عليه إلا غلاة الغلاة، ولكن "بقدرة قادر" بعد عامين انقلبت كفة الميزان وبدأت أدبيات التنظيم تعود إلى التداول وتدفق المال والسلاح على مقاتليه ومقاتلي السلفية الجهادية في سوريا فتحولوا عملياً إلى أكثرية من حيث القوة لا من حيث العدد، بعد أن كانوا نظرياً وعملياً قلة عدداً وعدة..

ورغم ذلك لم ترق لصاحبنا هذه "الولادة القيصرية" للراية التي طالما أحبها، وقرر أن يترك العباد والبلاد ويهاجر إلى حيث هاجر أقرانه من السوريين في بلاد الإفرنج.. ولا زال ولا زلنا نتأمل المشهد!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين