من هم المجاهدون؟

 

قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123}.

هذا تنزيل كريم من لدن عليم حكيم، يدعو المؤمنين وقد روَّعتهم الأحداث وتظاهر عليهم المعتدون أن يثوروا لكرامتهم ويدرؤوا العدوان عن أوطانهم، ويَثْأروا لمن قُتِلوا في ديارهم ومن أُخرجوا من بلادهم من المستضعفين. 

فوجبَ على كلِّ مسلم أن يجاهد في الله حقَّ جهاده ليحقَّ الله الحق، ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. 

والمسلمون وشعارهم السلام ظلُّوا قُروناً كثيرة يَدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويصلحون في الأرض. وهم إذ يُقاتلون اليوم من قاتلهم واعتدى على قلب بلادهم، ولم يزلْ منذ عشرات السنين يرصد الشرَّ لهم إنما يستجيبون لربهم وقد أمرهم أن يقاتلوا في سبيله.

واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقْتلون، وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.

 إنَّ المسلمين اليوم يقاسون الامتحان الشديد العنيد الذي تظاهر النفاق والكفر قديماً على تدبيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأخيار الصادقين، أولئك الذين كانوا يَرْجون الله واليوم الآخر، فلما رأوا الأحزاب، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً. 

لقد صبروا وصابروا فكانوا أشدَّ من الحوادث بأساً وأعزَّ بالله ورسوله جنداً فردَّ الله تعالى الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم (أي حصونهم)، ذلك ماضينا وماضي أعدائنا، وقد عادوا اليوم إلينا مُعْتدين ظالمين. ونحن ندفعهم بالله معتصمين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، إننا في هذا الصراع لعلى بصيرة من حقنا في قضيتنا وإيمان بوعد الله سبحانه لعباده المجاهدين في سبيله إنهم لهم المنصورون وإن جندَ الله لهم الغالبون. 

وما أجدرنا هذه الأيام التي نقاتل فيها ذياداً عن عِزَّتنا وحفاظاً على حياتنا وتقريراً لحقنا في أن نكون سادة في أرضنا أعزاء في بلادنا لا يُنازعنا منازع ولا يَعتدي علينا معتدٍ أثيم، وما أجدرنا أن نستقبل هذا الجهاد المرير لهذه الغاية الشريفة بقلوب ملؤها البشرى، ونفوس تهفو إلى عِزَّة الظفر ورضوان من الله أكبر، ومن أقرب إلى رضوان الله من المجاهدين. 

اسمعوا قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وتفضيله لهم، وقد سئل أي الناس أفضل؟ فقال: (مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) [أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح]. فالمجاهدون أفضل المؤمنين وأنهم لذلك أهل. 

فكرامة المؤمنين وأموالهم وحرمهم مرهونة بسيوفهم وهم يَفْتدونها بأنفسهم فما أسمى نفوسهم وما أكرم سعيهم وما أوفى أجرهم عند الله تعالى: [فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {آل عمران:170}. 

وبمثل هذا الوعد الكريم والأجر العظيم لم يظفرْ سواهم من العاملين، وحسب المجاهدين شرفاً نبيلاً وعملاً جليلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل فضلهم تفصيلاً في الحديث القدسي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» [أخرجه مسلم]. 

فالمؤمن المجاهد ظافر بكلتا الجنتين مجد الدنيا وسعادة الآخرة، ولا تراه يخاف من سعيه بخساً ولا رهقاً. 

وانظر إلى ما يصور هذا الحديث من رائع الإقدام ابتغاء مرضاة الله وإيثار الآخرة على الدنيا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»، فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ " [أخرجه مسلم]. 

واليوم نرى إخواننا المجاهدين في إنقاذ فلسطين يجددون هذا المجد القديم، ويجيئنا من إقدامهم وتضحيتهم أكرم الأنباء، وهم يُقاتلون أعداء ضعاف النفوس أفئدتهم هواء؛ لأنهم أحرص الناس على حياة، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، يقولون من حسرة كلما عضَّتهم الحرب لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. 

ولكن ما وعدنا الله تعالى من النصر القريب والفتح المبين إنما هو رهين بأن يؤدي كل منا ما أوجب الله تعالى عليه في ساعة العسرة من إيثار وفداء فليس الجهاد مقصوراً على ساحة القتال وحدها بل الأمة كلها مجندة في سبيل الله والمؤمنون اليوم كلهم مجاهدون. فعلى الأغنياء أن ينفقوا مما جعلهم الله مستخلفين فيه فالذين آمنوا منهم وأنفقوا لهم أجر كريم. 

فالجهاد بالمال شقيق الجهاد بالنفس ولا يقاتل المقاتلون إلا إذا أعد زادهم وعتادهم اللذان يظهرون بهما على أعدائهم وللمجاهدين بأموالهم أجر المجاهدين بأنفسهم بذلك يصرح قول الله تعالى [الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التوبة:20-22} 

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزَا» [أخرجه البخاري ومسلم]، فقد بيَّن هذا الحديث الشريف حقيقة لم تزدها الحروب الحديثة إلا وضوحاً ويقيناً، فعلى مقدار تماسك الجبهة الداخليَّة، وتَضافر قُواها على إمداد المجاهدين بكل ما هم إليه محتاجون يتقرَّر دائما مَصير الحروب، ولا يَنبغي لأحد أن يَرى عمله في ميدان هذا التعاون صغيراً أو جهده يَسيراً. فليبذل كل منا طاقته، ومن لم يقاتل فليعن المجاهدين هذا بصنعته، وهذا بخدمته، وهذا بلسانه ونصيحته، وهذا بتدبيره وفطنته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ: «لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا» [أخرجه مسلم]، ليعلم الذين لم يَنبعثوا إلى القتال أنَّهم أقاموا ليدبّروا أمر المجاهدين ويوفوا حاجتهم، ويحفظوا ظهورهم ويمرضوا جرحاهم، أما تمريضهم وإسعافهم فقد سنَّ لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة حسنة يستجيب لها المؤمنات من نسائنا الفضليات، حدثت أُم عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى» [أخرجه مسلم]. 

وبذلك يتبين أنَّ هؤلاء القائمات بتمريض الجند ورعايتهم وعلاجهم مجاهدات في سبيل الله لهنَّ أجرهنَّ عند الله تعالى، أما الذين يحفظون ظهور المجاهدين ويقمعون دسائس الخائنين ويحصنون الأمة من إشاعات الكاذبين فيحتملون عبئاً كبيراً يجب أن نكون جميعاً أعوانهم عليه وأعضادهم فيه، فإنَّ العدو يرجو من الدعاية الجاسوسيَّة ما لا يرجوه من الحرب العلنيَّة، ولقد بلغ من احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن خَلَّفَ علياً رضي الله عنه في غزوة تبوك ليحفظ الأمر في المدينة حذراً من كيد المنافقين.

إنَّا لخلقاء بأن نستقبل هـذا الجهاد فرحين مُستبشرين موقنين بأنَّ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينا لنا ما يكفل لنا إذا استمسكنا بهما أن نكون نحن الغالبين، فعلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تخوض معركة الكرامة والشرف والحياة العزيزة والمستقبل الكريم، ولنا جميعاً مجد الجهاد، ولمن مات منـا سعادة الاستشهاد. 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ»، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. [أخرجه مسلم]

فحق علينا أن نفخر بالمجاهدين، ونهنئ المقاتلين، ونغبط المستشهدين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر بتصرف يسير: (مجلة منبر الإسلام، السنة الخامسة، رمضان 1367 المجلد الخامس).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين