تفسير آيات من سورة آل عمران

 

قال الله تعالى: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ(97) ]. {آل عمران}..

هاتان الآيتان من سورة آل عمران، وآيات سورة آل عمران كلها مدنية، وموضوعاتها مما حدث بعد الهجرة، ففيها حديث غزوتي بدر وأُحُد، وفيها حديث مجادلة أهل الكتاب في عيسى صلى الله عليه وسلم، وفيها إيجاب حجِّ البيت على من استطاع إليه سبيلاً.

سياق الآيتين:

حاربَ اليهودُ الدعوة المحمدية بعدَّة أسلحة من الخبث والدَّسِّ والافتراءات، وكان مما زعموه أنَّ ما حرَّمه عليهم من الطيبات كان تحريمه من قديم، وكان محرَّماً من قبلهم على نوح وإبراهيم وإسرائيل وبني إسرائيل، وأنَّه ليس الأمر كما قرَّره القرآن الكريم من أنَّ الطيبات كانت حلالاً ثم حُرِّمت على اليهود بظلمهم، وهم يرمون بهذا الزعم إلى غرضين: تبرئة سلفهم مما نُسب إليهم من ظلمٍ وبغي، وتكذيب الآية الكريمة: [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ] {النساء:160}. 

وقد كذَّبهم الله تعالى فيما زعموه فقال جلَّ ثناؤه: [كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} وتحدَّاهم بقوله عزَّ شأنه: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {آل عمران:93}. 

وألزمهم الحجَّة وقَضَى عليهم بالظلم بقوله: [فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {آل عمران:94}.

وكان مما زعموه أنَّهم هم على ملة أبيهم إبراهيم، ويرمون بهذا إلى الدعوة إلى اتباعهم وصرف الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقد كذَّبهم الله تعالى فيما زعموه بقوله: [قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] {آل عمران:95}. 

ومِلَّةُ إبراهيم صلى الله عليه وسلم هي مِلَّة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه، وما دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ما دعا إليه إبراهيم عليه السلام ورسل الله من قبله ومن بعده، قال الله تعالى: [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] {الشُّورى:13}. وقال تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا] {الحج:78}.

ومن أوضح الدلائل على أنَّ ملة الإسلام هي مِلَّة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، أنَّ حجَّ البيت الذي بناه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بمكة من قواعد الإسلام، وأنَّ تعظيم هذا البيت، وتأمين الناس حوله، واتخاذ مقام إبراهيم عليه السلام مصلى، من شعائر الإسلام، وهذا ما قرَّره اللهُ سبحانه في الآيتين الكريمتين.

تفسير الآيتين:

الآية الأولى: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] {آل عمران:96}.

مَكَّة وتسمى بَكَّة، وتسمَّى أمّ القرى: هي عاصمة بلاد الحجاز، وهي في بطن وادٍ يحيط به سور من الجبال الشامخة، وثغرها على البحر الأحمر جدة، وهي شرق مكة بينهما طريق مُعبَّد طوله نحو 90 كم، ويبلغ ارتفاع مكة عن سطح البحر الأحمر نحو 280 متراً.

وفي وسط مكة المكرمة المسجد الحرام، وهو مُربَّع الشكل تقريباً، تبلغ مساحته أربعة أفدنة وربع فدان، وفي وسط المسجد الحرام حجرة كبيرة مربعة الشكل تقريباً ومرتفعة البناء تبلغ مساحتها نحو 120م مربع، ويبلغ ارتفاعها 15م، طول ضلعها الغربية 12.15 م والشرقية 11.88م، وطول ضلعها البحرية 9.92م، والقبلية 10.25م، وهي مسقوفة بسقف منقوش بنقوش جميلة، مقام على ثلاثة أعمدة من خشب العود الوردي، قطر العمود منها ربع متر، وهي مبنية من الحجارة الصمَّاء ذات اللون الأزرق، هذه البنية القائمة في وسط المسجد الحرام هي الكعبة، وكما تسمى الكعبة، تسمى البيت، قال تعالى: [وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] {البقرة:125}. 

وتسمى البيت الحرام، قال تعالى: [جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ] {المائدة:97}. 

وتسمى البيت العتيق، قال تعالى: [وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ] {الحج:29}. وهي قبلة المسلمين في الصلاة، ولكونها في وسط المسجد الحرام فكل من ولى وَجْهَه شطرَ المسجد الحرام فقد ولى وجهَه شطرَها، وقد أضافها الله سبحانه إلى نفسه في قوله لرسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] {الحج:26}.

هذه الكعبة أو هذا البيت هو الذي ذكر الله سبحانه في الآية الكريمة أنَّه أول بيت وضع للناس مُباركاً وهدى للعالمين.

والمراد بأنَّه أول بيت وضع للناس أنَّه أول بيت جعله الله في الأرض مُتعبَّداً للناس، فهو أول بيت جعلَ الله حجَّ الناس إليه عبادة، وطوافهم حوله عبادة.. 

قال تعالى لرسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] {الحج:26}. ولا يوجد بيت غير الكعبة تعظيمه عبادة لله تعالى، والطواف حوله عبادة لله تعالى، وتقبيل بعض أحجاره من عبادة الله سبحانه، وحجُّه من فرائض الله جلَّ وعلا.

وليس المراد أنَّه أول بيت بُني في الأرض على الإطلاق، فقديماً من قبل بناء الكعبة بنى الناس بيوتاً، ونحتوا من الجبال بيوتاً.

والمراد أنَّه أول بيت وضع للناس مُباركاً، أنَّه وضع لهم مكاناً لبركتهم وخيرهم وزيادة أجرهم: من حجَّه أو اعتمره مُضاعف أجره، ودعاؤه مرجو الإجابة، واستغفاره مُكفِّر لذنوبه.

والمراد بأنَّه أول بيت وضع هدى للعالمين، أنَّ فيه الدلالة على الله تعالى، وتوجيه القلوب والعقول إلى الله سبحانه، وصرف الوجوه عن الأوثان والأصنام، فمن حجَّ البيت أو اعتمر فقد اتَّجه إلى الله تعالى، ومن اتَّجه إلى الله سبحانه فقد اهتدى.

وهذا البيت مُبارك، وهُدى للعالمين لا لأهلِ مكَّة خاصَّة، ولا للعرب خاصَّة بل كل من حجَّه أو اعتمر نال الخير والبركة ومُضاعفة الأجر، ونال الرشد والهداية، من أي جنس كان، ومن أي بلد كان.

من بنى الكعبة؟

يجبُ على كل من يَنشد الحق الثابت ويريد الوصول إلى العلم الصحيح في بناء الكعبة ومن بناها، أن يَستقي من القرآن الكريم ومن السنَّة الصحيحة، وأما كتب القصص والأساطير التي لا تَستند إلى قول الله تعالى ولا إلى خبر معصوم، فلا يصحُّ التعويل عليها، ولا نقل خبر عنها.

ومما يَتناقله الناس من الأقاويل التي لا دليلَ عليها ولا سندَ لها، أنَّ الكعبة بناها الملائكة، ثم آدم ثم ابنه شيث، وأنَّ الملائكة قالت لآدم لما أهبط إلى الأرض: طفْ حول هذا البيت، فقد طفنا قبلك بألفي عام. 

وهذه كلها أساطير من خيال الأصدقاء والجهلاء، الذين أدَّى بهم الغلوُّ في تعظيم الكعبة والإسراف في إطرائها إلى القول بأنَّها ليست من بناء البشر، وأنَّ أحجارها التي بُنيت بها ليست من حجارة الأرض، وما شرف الكعبة ولا عِظَمُ قدرِها بمن بناها، ولا بما بُنيت به، وإنما شُرِّفت وعُظِّمت بأنَّ الله تعالى جعلها في الأرض أولَ مُتعبَّد للناس كافَّة، وفرض حجَّها أو الطواف حولها، ووضعها مكاناً مُباركاً وهدى للعالمين.

والحق الثابت بالقرآن وبالسنَّة الصحيحة أنَّ أول من بنى الكعبة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، قال تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ] {الحج:26}. والمراد: أنَّ الله سبحانه هيَّأ لإبراهيم المكان الذي يَبني فيه البيت بأن دلَّه عليه وحدَّه له، قال تعالى: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ] {البقرة:127}. 

والمراد برفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت بناؤهما جدرانه، لأنَّ كل حجر في البناء هو قاعدة للحجر الذي فوقه، فرفع القواعد من البيت إقامة بنائه برفع كلِّ حجر فوق حجر هو قاعدة له، فالقرآن صريحٌ في أنَّ إبراهيم هو الذي بوَّأ الله له وهيأ له المكان الذي يُقيم فيه البيت، وفي أنَّ إبراهيم وإسماعيل هما اللذان أقاما بناء هذا البيت ورفعا قواعده، ولهذا قال ابن كثير في تفسيره: (لم يجئ خبرٌ عن معصوم أنَّ البيت كان مبنياً قبل الخليل).

قالوا: وكان ارتفاع البيت الذي بناه إبراهيم 9 أذرع، وطول جداره الشرقي 32 ذراعاً، والغربي 31 ذراعاً، وطول جداره البحري 22 ذراعاً، والقبلي 20 ذراعاً، وبابه لاصق بالأرض، وقبيل بعثة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت سنه نحو 35 سنة كما جزم به ابن إسحاق وأكثر المؤرخين، احترقت ستور الكعبة وأكثر أخشابها، ونزل بمكة سيل أوهى بِناءها وصدع جدرانها، فأجمعت قريش أمرها على هدمها وتجديد بنائها، وقد هدموا بناءها حتى وصلوا إلى الأساس الذي وضعه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وجمعوا الحجارة لبنائها وبنوها. 

ومما أُثر في حديث بناء قريش للكعبة عدة أمور، منها: أنَّهم حينما بدءوا البناء قال لهم واحدٌ من رِجالاتهم: (يا مَعْشر قريش لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيه مَهْر بغي، ولا بَيع ربا، ولا مَظْلمة أحد من الناس). 

ومنها أنهم حينما بلغوا ببنيانهم موضع الحجر الأسود اختصموا واختلفوا وكل قبيلة أرادات أن يكون لها شرف رفعه ووضعه في موضعه، وكاد هذا الاختلاف يؤدي إلى القتال، ولكنهم أخيراً تراضَوا على أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فكان أول داخل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا الأمين، هذا محمد رضينا، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال هلم إليَّ ثوباً، فأتي به، وأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه. 

ومنها أنَّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعمَّه العباس بن عبد المطلب كانا يَنقلان الحجارة لهذا البناء، وقد قال العباس لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يَقيك من الحجارة.

قالوا: وكان ارتفاع بناء البيت الذي قامت به قريش 18 ذراعاً لا تسعة أذرع، كما كان بناء إبراهيم، ونقصوا أذرعاً من عرضها؛ لأنَّ المال الحلال الذي أعدوه لبنائها لم يكفِ لإقامة بنائها على طول قواعد إبراهيم وإسماعيل، ورفعوا بابها عن الأرض ولم يُبقوه لاصقاً بها كما كان في عهد إبراهيم.

وفي سنة 64 للهجرة وهنت جدران الكعبة، وانقضَّ بنيانها من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حُوصر عبد الله بن الزبير بمكة، وأصابها حريق أحرقَ كسوتها وما فيها من خشب الساج، فلما فُكَّ الحصار عن ابن الزبير وارتحل عن مكة الحصين بن نمير بعد أن نعي له يزيد ابن معاوية، رأى ابن الزبير أن يَهدم الكعبة ويجدِّد بناءها، ففعل ذلك في سنة 64هـ، وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخَل فيها ما كانت قريش نقصته لضيق ذات يدهم، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، وحُجَّته الحديث الذي روته خالته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ) [أخرجه مسلم]، وجعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ارتفاعها 27 ذراعاً.

وفي سنة 74هـ استأذن الحجَّاج بن يوسف الثقفي عبد الملك بن مروان في أن ينقص الزيادة التي زادها ابن الزبير ويسدَّ الباب الغربي الذي فتحه ويردها إلى ما كانت عليه في الجاهلية حين بنتها قريش، وقد أذن عبد الملك ونفذ الحجَّاج ما أراد، ولكن عبد الملك ندم على ما فعل لما بلغه حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه، والكعبة الآن على بناء ابن الزبير بتعديل الحجَّاج بن يوسف.

الآية الثانية:

[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] {آل عمران:97} 

في هذا البيت الحرام آيات بينات، أي: دلائل واضحات، على أنَّ الإسلام هو ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنَّه يدعو إلى مِلَّة إبراهيم عليه السلام: الآية الأولى: مقام إبراهيم، والثانية من دخله كان آمناً، والثالثة: لله على الناس حجه، وهذا تفسير كل آية من هذه الآيات، وبيان وجه دلالتها على المقصود.

الآية الأولى مقام إبراهيم: قال ابن جرير أولى الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون إنَّ مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام، واستدلَّ على هذا بما روي عن جابر رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم تقدَّم إلى مقام إبراهيم فقرأ: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] {البقرة:125}، فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين) [أخرجه مسلم].

فمقام إبراهيم عليه السلام هو موضع قيامه لعبادة الله تجاه الكعبة، والحجر المعروف الآن بمقام إبراهيم عليه السلام علامة على هذا المقام، ودليل عليه، وليس هو نفسه مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أنَّ في المحافظة على مقام إبراهيم عليه السلام وفي الأمر باتخاذه مُصلى، أي: موضعاً للصلاة والدعاء، آية بَيِّنة على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه على مِلَّة إبراهيم عليه السلام، وأنَّ الإسلام هو ملة إبراهيم عليه السلام، ومعنى أنَّ في البيت مقام إبراهيم أنَّه في فنائه ومتصل به.

الآية الثانية: [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا]، والمراد أنَّ من التجأ إلى حَرم الكعبة أمن من التعرُّض له بأي سوء، قال تعالى: [وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] {البقرة:125}. وقال سبحانه: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ] {العنكبوت:67}. 

وهذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا] {إبراهيم:35}. وكان الرجل لو ارتكب أية جريمة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلَب. 

وقال أبو حنيفة: من لزمه القتل في الحِلِّ لقصاص أو رِدَّة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّض له إلا أنه يُضطر إلى الخروج. 

ولا شك أنَّ في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلوِّ مكانته عند الله تعالى، فكل إنسان فيه آمن، وكل حيوان فيه آمن، مع أنَّه في بلاد غير ذي زرع، والجدب والفقر من شأنهما أن يَبْعَثا على الاعتداء وتهديد الأمن، فهو مَوضع الأمن في أشد البيئات يحتاج فيها إلى الأمن ويخاف فيها العدوان.

الآية الثالثة: [وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا] {آل عمران:97} المراد أنَّ الله تعالى أوجب على الناس أن يحجُّوا بيتَه، فحجُّ بيتِ الله حقٌّ لله تعالى، وواجب على الناس، وحجُّه: قصده للطواف حوله، وأداء المناسك في أشهر الحج، وفي أماكن حسبما فصَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حجَّ، وقال: (خذوا عني مناسككم) والفرق بين حجِّ البيت واعتماره وتحديد معنى استطاعة السبيل إليه وحكمة هذا الحج وأسراره وآثاره في أفراد المسلمين وجماعاتهم كل هذا مفصَّل في مواضعه.

[وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] أي: من جحد بهذه الآيات البيِّنات فلم يُؤمن بها ولا بدلالتها على أنَّ مِلَّة إبراهيم هي مِلَّة الإسلام، ولم يعمل بها ولم يُنَفِّذ ما شرع فيها، فلن يضرَّ الله شيئاً، والله غنيٌّ عن العالمين، لا يَنفعه إيمان من آمن منهم، ولا يضرُّه كفر من كفر منهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع، المجلد الأول، ذي الحجة 1366، أكتوبر1947).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين