إسرائيل والأسرى المصريون-1-

 

 لمحة تاريخية

بدايةً هناك سؤال لابد من الإجابة عنه.. ما السبب فى ضخامة خسائر العرب وخاصة المصريين فى الرجال والعتاد فى صراعهم مع إسرائيل؟ وبخاصة في تلك المعركة الكارثة (1967م )؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أن نرجع بالزمن إلى الوراء حوالى ستين عاماً وبالتحديد إلى عام (1948م) حيث بدأ الصراع العربى الإسرائيلى على أرض فلسطين فنجد أن مصر خاضت مع إسرائيل أربعة حروب فى أعوام (1948م)، (1956م)، (1967م)، (1973م).

وكانت حرب رمضان-أكتوبر (1973م) هى الحرب الوحيدة التى انتصرت فيها مصر انتصاراً مدوياً أصاب العالم بالانبهار ، وحققت مصر من ورائه مكاسب عسكريةً بعبور قناة السويس ، واستعادة أجزاء كبيرة من صحراء سيناء ، وتدمير أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.. وسياسيةً باستعادة الكرامة المصرية والعربية الضائعة ، وتكاتف العرب جميعاً مع مصر ودعمهم لها  ، ثم استعادة صحراء سيناء..

أما الحروب الثلاثة الأخرى فهى التى تعرضت فيها مصر لخسائر وهزائم عسكرية وسياسية ، وذلك على النحو التالى:

1- حرب عام (1948م): نشبت بسبب رغبة إسرائيل فى الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية التى يملكها العرب ، وذلك بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود.. وقد خسرتها مصر عسكرياً بانسحابها من كل الأراضى الفلسطينية التى كانت مكلفة بالدفاع عنها ضد العصابات الإسرائيلية المسلحة.. وخسرتها سياسياً بإعلان قيام دولة إسرائيل.

2- حرب عام (1956م): (العدوان الثلاثى على مصر): خسرتها مصر عسكرياً فى البداية باحتلال إسرائيل صحراء سيناء بالكامل واحتلال بريطانيا وفرنسا مدينة بورسعيد.. وربحتها سياسياً وحققت من ورائها مكاسب كبيرة على رأسها انسحاب الدول الثلاث المعتدية من جميع الأراضى التى احتلتها دون أن تحقق أهدافها.. ثم ارتفاع أسهم مصر فى العالم أجمع باعتبارها دولة نامية استطاعت أن تتصدى لثلاث دول ، منها بريطانيا التى كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.. وأصبحت مصر إحدى الدول القائدة لتيار التحرر والاستقلال لدول العالم الثالث.. وكان السبب فى ذلك العدوان هو تأميم مصر لقناة السويس ورغبة إنجلترا وفرنسا فى إعادة احتلالها بالقوة ، ورغبة إسرائيل فى تدمير القوة العسكرية المصرية الصاعدة فى ذلك الوقت.

3- حرب عام (1967م): خسرتها مصر خسارة فادحة ومذهلة.. وانهزمت فيها هزيمة نكراء ومدوية نتج عنها تدمير السلاح الجوى المصرى بالكامل ، وتدمير جميع الأسلحة والمعدات الخاصة بالجيش المصرى فى سيناء ، واستشهاد وجرح وأسر عشرات الألوف من الضباط والجنود المصريين ، واحتلال إسرائيل لصحراء سيناء بالكامل..

أما الخسارة السياسية ، فقد تمثلت فى انهيار شامل فى مقومات ومفهوم الدولة التى كانت مرموقة فى العالم ، وشيوع روح اليأس والهزيمة بين جميع أفراد الشعب المصرى ، وذيوع فضيحة الهزيمة بشكل مدوٍ فى شتى أرجاء المعمورة.

أسباب الهزيمة

وما الأسباب التى أدت إلى تلك الخسائر الفادحة؟.. وهل قاتَل الضباط والجنود المصريون قتال الرجال؟ أم أن ما حدث كان شيئاً آخر؟

الحقيقة أن أعظم الخسائر التى أصابت مصر فى تاريخ حروبها مع إسرائيل كانت فى تلك الحرب.. فمصر كانت قد حشدت حوالى 150 ألف جندى فى صحراء سيناء ، ومعهم كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر.. وكان لمصر قوة من الطيران الحربى كفيلة بحماية الجيش المصرى فى سيناء ضد الطيران الإسرائيلى.. ولو سارت الأمور وفق القواعد العسكرية المعتادة لما كانت نتيجة المعركة بهذه الصورة المأساوية.. ولكن الحقيقة أيضاً أنه كانت هناك أسباب خطيرة وقاتلة أدت إلى ضياع الجيش المصرى فى سيناء وذوبانه فيها كما يذوب الملح فى الماء.. ومن هذه الأسباب أسباب مُمَهِّدة وأخرى مباشرة، وذلك على النحو التالى:

أولا: الأسباب المُمَهِدة للهزيمة:

1- عندما بدأت مصر الخطوة الأولى فى تصعيد الموقف بينها وبين إسرائيل فى يوم 22 مايو عام (1967م) وذلك بإغلاق مضايق (تيران) فى مدخل خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية لم يكن فى نيتها الحرب حقيقةً.. وإنما كان ظن القيادة المصرية السياسية والعسكرية أن مجرد حشد القوات المصرية على أرض سيناء سوف يردع إسرائيل عن الدخول فى حرب ضد مصر.

2- سارعت مصر بحشد ما يقرب من 150 ألف جندى معظمهم من جنود الاحتياط من العمال والمزارعين البسطاء الذين لا يملكون أى خبرة أو معرفة بالأمور العسكرية وذلك لأن خيرة المقاتلين المصريين فى ذلك الوقت كانوا يشاركون فى حرب اليمن.. وقد تم ذلك على وجهٍ شديدٍ من السرعة ؛ حتى إن بعض الجنود لم تُتَح لهم الفرصة لتسلم ملابسهم العسكرية فى القاهرة فأُرسِلوا إلى الجبهة مرتدين الجلابيب على أن ترسل لهم ملابسهم فيما بعد وبدون أى إعداد أو تدريب على أىٍ من أصول الحرب والقتال.. فساد بين الجميع شعور بأنه ليس هناك قتال.

3- تعجلت مصر حشد القوات البرية فأرسلت الضباط والجنود أولاً ، ثم قامت بحشد وتعبئة الأسلحة الثقيلة والمعدات لترسلها بعدهم.. وكان الظن أن هناك فسحة من الوقت يتم فيها إلحاق الأسلحة بالتشكيلات العسكرية..  ولكن للأسف الشديد لم تُتح الفرصة لذلك فعندما اشتعلت الحرب فجأة كانت معظم حشود الجنود فى أماكن وأسلحتهم مكدسة فى أماكن أخرى.. لذلك فقد فاجأت الحرب معظم التشكيلات العسكرية وليس فى يدها أسلحتها.

4- كانت هناك روح طاغية بين الضباط والجنود من الثقة المفرطة والخادعة بالنفس.. فالجميع كان يظن أننا مع انطلاق أول رصاصة فى المعركة سوف نهزم إسرائيل ونحقق عليها نصرا كبيراً.. لذلك فقد كانت الروح المعنوية عالية إلى درجة الترهل، والانضباط العسكرى متسيباً إلى درجة التفسخ.

ثانياً: الأسباب المباشرة للهزيمة: هناك سببان مباشران:

الأول: الضربة الجوية الإسرائيلية: فى صباح يوم 5 يونيو (1967م) وفى حوالى الساعة الثامنة صباحاً هاجمت طائرات سلاح  الجو الإسرائيلى جميع المطارات العسكرية المصرية فى وقت واحد واستطاعت فى أقل من ساعتين تدمير معظم الطائرات المصرية المقاتلة والقاذفة وهى رابضة على الأرض.. وبذلك انكشفت جميع القوات البرية المصرية فى صحراء سيناء وحُرِمَت من الحماية الجوية وأصبحت لقمة سائغة وفريسة سهلة للطائرات الإسرائيلية التى انفردت بالسيادة الجوية ، وأخذت فى التدمير الشامل لجميع الأسلحة والمعدات المصرية ما بين مدافع ودبابات ومدرعات..

ويمكن القول إن الحرب قد حُسِمَت فى هاتين الساعتين.. وأن الهزيمة قد تحققت فى نهايتهما.

الثانى: انفراط عقد القيادة والانسحاب العشوائى: ما أن فوجئت القيادة المصرية التى لم تكن قد أعدت نفسها أصلاً للحرب بنتائج الضربة الجوية الإسرائيلية ، وأدركت فداحة الكارثة التى حلت بالجيش وبالخطر المحدق الذى أحاط به وينذر بتدميره تدميراً شاملاً وبانقطاع اتصالاتها بكل تشكيلاتها الميدانية حتى أصيبت بالشلل وانفلتت الأمور من بين يديها..

وفى لحظة الفزع والهلع اتخذت القيادة قراراً كان هو الضربة القاضية للجيش المصرى فى سيناء.. وهو السبب المباشر فى سقوط ذلك العدد الرهيب من الشهداء والجرحى والأسرى فى تلك الحرب.. ذلك القرار هو.. إصدار الأمر لجميع القوات المصرية فى سيناء بالانسحاب الفورى والشامل إلى خط قناة السويس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

والحقيقة أن ذلك القرار كان هو الكارثة بعينها وذلك للآتى:

1- غفلت القيادة المصرية عن أن الانسحاب من سيناء وقطع مئات الأميال فى الصحراء المكشوفة دون غطاء جوى وفى ظل سيادة جوية إسرائيلية مطلقة هو حكم بالإعدام على كل من يفعل ذلك.

2- غفلت القيادة عن أن معظم التشكيلات العسكرية المصرية لم تكن قد تسلمت أسلحتها بعد.. وأن تلك الأسلحة كانت مع اشتعال المعارك إما فى المخازن أو فى قطارات مازالت فى طريقها إلى العريش واستطاعت الطائرات الإسرائيلية تدميرها.. لذلك فعندما بدأت القوات فى الانسحاب عبر صحراء سيناء المكشوفة كان الكثير منها بلا سلاح.. ومن كان معه السلاح لم تكن معه ذخائر.. فأصبحت هذه القوات فريسة سهلة للطائرات الإسرائيلية التى أخذت تتصيدها بسهولة ويسر.

3- غفلت القيادة عن أن جميع وسائل الاتصال مع التشكيلات الميدانية قد انقطعت  وأن هذه التشكيلات قد تفرقت وجنودها تبعثرت.. وأن الحابل قد اختلط بالنابل. ودب فى الجيش المصرى ارتباك شديد وفوضى عارمة وأصبح لسان حال كل جندى وضابط هو النجاة بحياته والعودة إلى قناة السويس بأى طريقة وبأى وسيلة. فكانت النتيجة أن عدد الذين تاهوا فى الصحراء وماتوا من الجوع والعطش لا يقل عن عدد الذين قتلتهم إسرائيل بالنار والبارود..

لذلك فقد كانت الكارثة التى حلت بالجيش المصرى مع انتهاء الضربة الجوية للطيران وبدءاً من الساعة العاشرة صباحاً يوم 5 يونيو (1967م) هى مذبحة حقيقية.. لما يقرب من 150 ألف جندى وضابط بلا سلاح ولا عتاد ولا طعام ولا شراب ساروا مئات الأميال عبر الصحراء الملتهبة المكشوفة يفرون من عدو يملك الطائرات المقاتلة والقاذفة.. وقيادته منظمة ومترابطة ومحكمة.. وأسلحته كاملة ومجهزة.. وله هدف محدد ومخطط له تخطيطاً جيداً هو تدمير الجيش المصرى فى سيناء وقتل وجرح وأسر أكبر عدد من ضباطه وجنوده.

لذلك فإن الجيش المصرى ظُلم ظلماً بيناً وغُبن غبناً شديداً ولم تُتَح له أى فرصة على الإطلاق لكى يحارب كالرجال.. فهو كمن قُيدت يداه وقدماه وألقى فى الماء ثم سُأِل: ألا تجيد السباحة؟

هذه هى أسباب تلك الخسائر الفادحة التى ألمت بالجيش المصرى فى عام (1967م).

المصدر : موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين