الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (9)

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. ..

فبعد 20 يوما قضاها السلطان الفاتح في القسطنطينية استعد للعودة إلى أدرنة ، فدخلها في موكب رسمي حافل بالانتصار، ومعه العديد من الآثار المختارة.

ونعود إلى ردة فعل ملوك أوربا الذي طرقناه آنفا دون أن نقف معه فنقول : إن الرأي العام الأوربي ملوكه وشعوبه قد تأثروا كثيرا لسقوط القسطنطينية التي كانوا يرونها حامية المسيحية بأوربا ، وانتابهم الفزع والألم والخزي ، وانطلق شعراؤهم وأدباؤهم يأججون نار الكراهية في قلوب العوام من الناس ضد المسلمين ، وجرت الاتصالات واللقاءات بين ملوك ورؤساء أوربا ، وعقدت الاجتماعات ، وتنادى الجميع بضرورة الاتحاد ونبذ الخلافات ، وأن يكونوا يدا واحدة ضد المسلمين حتى يخرجوهم من أوربا .  

وكان البابا نيقولا الخامس من أشد الناس تحمسا لذلك ، وعمل جهده ، وصرف وقته في توحيد البلاد الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين ، وترأس مؤتمرا عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودهما وقوتها ضد المسلمين العدو المشترك لهم جميعا ، ولكن ذلك لم يخرج إلى حيز التنفيذ ، ولم ينفع في شيء ، وانطبق على المؤمنين قول الله سبحانه وتعالى " وإن تؤمنوا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا  ..

بل إن السلطان الفاتح هو الذي بدأ في الزحف إليهم ، فبعد أن مضت فترة على فتح القسطنطينية ، ورتب أموره بها ، وأخذ جيشه حظه من الراحة ، شرع لاستئناف الجهاد مرة أخرى ، فأعد عدته وخرج على رأس الجيش متوجها إلى جزيرة مورة ، وكان يشترك في حكمها أخوان للإمبراطور قسطنطين الذي قتل منذ قيل ، أحدهما يسمى " دمتريوس " والآخر يسمى " توماس " فما أن أحسا بقربه منهما حتى أرسلا إليه يعلمانه بموافقتهما على الدخول في طاعته ، ودفع الجزية المقررة عليهما للدولة العثمانية، على أن تبقى جزيرتهما مستقلة ، فوافق الفاتح ، وقبل منهما ذلك ، وأعطاهما عهده مكتوبا.

وقيل : إن المؤرخ البيزنطي المعاصر  "كريتوفولوس"  الذي كان ينتمي لتلك الجزيرة لما علم بقرب مجيء السلطان سكّن من روع الناس لما سيطر عليهم الفزع ، وهموا بالهجرة من الجزيرة ، وطمأنهم بأنه لن ينالهم من الجيوش الإسلامية مكروه ، وعمل على توقيف الهجرة، وأرسل رجلاً إلى قائد الأسطول العثماني، "حمزة بك"، وطلب منه التوسط لدى السلطان "محمد الفاتح" لقبول الوفد الذي أُرسل لتقديم تبعية الجزيرة فوافق على ذلك ، وأحسن السلطان استقبال الوفد ، وأكرم نزلهم .

وتوثقت علاقة هذا المؤرخ "كرتوفولوس" فيما بعد بالسلطان محمد ، وكتب له كتابا يتناول فترة من حكمه  من عام 1451، حتى عام 1467م، أي أحداث ست عشرة سنة ، وقدمه هدية له فكافأه السلطان عليه ..

كما أرسل إليه حاكم البندقية يطلب منه مصالحته فعقد معه معاهدة صلح يوم الخميس 19 ربيع الآخر، الموافق لـ 18 أبريل ، ودخل مع البندقية إمارة "ناكسوس/ناكشا" التابعة لها، ومنحت البندقية بموجب هذه المعاهدة حرية التجارة في الموانئ العثمانية ، وسمح بإقامة قنصل للبنادقة في   إسلام بول بلقب "باليه/باليوز ، والتزمت الدولة البندقية بدفع ضريبة سنوية تقدر بمبلغ مائتي ألف دوقة ذهباً في مقابل حصانة أراضيها في "ألبانيا"، كما كان الأمر في عهد "مراد الثاني"  .

وإضافة إلى تلك الشروط المالية والتجارية، وبناءً على المعاهدة المعقودة مع البنادقة، أصبحت أرواح الرعايا من الطرفين وأموالهم مصونة، وشمل ذلك أيضا إمارة "ناكسوس/ناكشا"، الموجودة في الجزر اليونانية، ورعاياها ، ولقد استمر هذا الصلح العثماني - البندقي، تسع سنوات.

وبعد أن أتم السلطان الفاتح تلك الإنجازات كانت المباني الإدارية والقصور التي طلب تشييدها بالعاصمة الجديدة " إسلام بول " قد فُرغ منها ، فاستعد هو وإدارة دولته للانتقال إليها ، وهناك نزل في قصر "أسكي سراي"  أول قصر أقيم له بها ، وكان يقع في المنطقة التي أقيمت عليها المدينة الجامعية لجامعة إسلامبول الآن..

وكان هذا الموقع الذي حدد السلطان بنفسه مكانه قبل بنائه يقع وقتها وسط المدينة مكان دير خرب قديم، وصار السلطان يتنقل بعد ذلك بينه وبين قصر "طوب قابي" ..

وأمر فور دخوله إليها بإنشاء قلعة داخل إسلامبول سميت باسم " "يدي قلعة " أو " الأبراج السبعة" وذلك بعد أن أضاف إلى الأبراج الثلاثة، التي كانت موجودة من قبل أربعة أبراج أخرى، وجعلها قلعة داخلية ، وشيد بها سجن للمجرمين الذين يخرجون على الدولة ، أو يقومون بأعمال تضر بها مثل التخابر مع عدوها ، كما خصص بها مكانا لإيقاف سفراء الدول المعلنة للحرب في وجه الدولة العثمانية ؛ كي لا يحاولوا الاتصال بأحد ؛ أو التآمر على الدولة من الداخل  .

وبعد أن انتهت عملية نقل مقرات الحكومة إلى عاصمة الإسلام الجديدة شرع في وضع دستور جديد ليلاءم طبيعة الدولة التي توسعت في عصره ، وصارت تجمع أناسا من جنسيات شتى ، لهم لغات وديانات وأعرف وتقاليد متنوعة ، وتلك الجنسيات حرص من شاركوا في وضع نصوص الدستور أن تكون مناسبة لهم جميعا ، وسمي هذا الدستور باسم " قانون نامه "..

ثم رتب حكومة الدولة التي صارت تضم السلطان والصدر الأعظم أو كبير الوزراء ، ويساعده 4 وزراء يسمون وزراء القبة ، وشيخ الإسلام ، وقاضي عسكر أو قاضي القضاة ، وظيفته تعيين القضاة في الأقاليم والإشراف عليهم ، وقد تفرع هذا المنصب فيما بعد فصار لبلاد الأنضول قاضي عسكر خاص بها وبلاد الروملي ( الجزء الأوربي ) قاضي عسكر خاص به ، والدفتر دار الذي كانت اختصاصاته تعادل اختصاص وزير المالية الآن ، والنيشانجي ، وهو كاتب سر السلطان ، وكانت تصدر من تحت يده كتب تعيين الأمراء أو عزلهم ، بالإضافة إلى باقي الوزراء والبطريرك ، وأطلق على تلك الحكومة المصغرة لقب " الباب العالي "  .

وإذا كان للسلطان الحق في تعيين أو عزل الوزير الأعظم فإن ذلك لم يكن حقا مطلقا ، وكان عليه أن يقدم المبررات التامة أمام جنده ليقروه على هذا الأمر .

كما أن الوزير الأكبر كان له سلطة كاملة في تصريف أمور الدولة ، ويسلم إليه خاتم الحكومة عند تعيينه ، ويسترد منه عند عزله ، وكان راتبه اليومي يقارب راتب السلطان ، فراتب السلطان كان 125 درهما أما الوزير الأكبر فكان 124درهما أي يقل عنه درهما واحدا فقط .

ورغم أهمية هذا المنصب إلا أنه لم يكن حكرا على الأتراك ، وإنما يستطيع أن يصل إليه من توفرت فيه المؤهلات اللازمة له أيا كانت جنسيته بشرط أن يكون مسلما ، وقد تداول عليه أناس ينتمون إلى جل الأقطار التي خضعت للدولة العثمانية ، وبعضهم كانوا من أطفال السبي الذين أحسن تربيتهم وتعليمهم على نفقة السلطنة لينضموا إلى فرق الانكشارية ..

وأما منصب شيخ الإسلام فكان يشغله أفضل العلماء الموجودين في كل عصر من ناحية العلم والفطنة والتقوى والإحاطة بمتطلبات العصر ، ولما كانت الدولة العثمانية قائمة على شرع الإسلام منذ تأسيسها فإن شيخ الإسلام كان له منزلة تليق بعظمة هذا الشرع ، وكان له الحق هو ومن يعاونه من العلماء في الاطلاع على القوانين التي تسن قبل العمل بها ليعلم هل موافقة لشرع الله أم لا ، ولا تخرج لحيز التنفيذ إلا بعد إبداء رأيه ( إلا ما تعلق بالأمور المدينة الخاصة بأهل الديانات الأخرى كالزواج والطلاق والميراث وشعائر دينهم ) كما كان له ـ بسبب ما تمتع به من ثقل في قلوب عوام المسلمين ـ الحق في الاعتراض على تعيين السلطان أو المطالبة بعزله إن فعل ما يخل بقواعد الشرع ، وخرج على تعاليم الإسلام . 

وقد خصص لاجتماعات مجلس الحكومة المكون من الأعضاء المشار إليهم آنفا مكان بالقصر يسمى " الديوان الهمايوني " يعقدون فيه اجتماعاتهم الدورية برئاسة الصدر الأعظم ، وأطلق على القرارات التي يتخذها اسم " القرارت الهمايونية ".

وعند افتتاح كل مجلس من مجالس الديوان الهمايوني كانت فرق الموسيقى تعزف السلام الوطني ، ويسمعه السلطان وأعضاء المجلس وهم وقوف .

وكان لمجلس الحكومة هذا دورات ثابتة يعقد فيها سواء حضر السلطان فيها أم تغيب لانشغاله بأمر الجهاد أو غير ذلك ، وغالبا ما كان يدخل أصحاب المظالم أثناء اجتماع المجلس ، وقد صادف أن دخل رجل فلاح عليهم ذات يوم ، وأخذ يصيح في المجتمعين من منكم السلطان فعندي مظلمة  ..

ثم رتب السلطان وظائف الجند ، فجعل للإنكشارية رئيسا ( آغا ) وعهد إليه بأشغال الضبط والربط بالعاصمة ، وجعل رئيسا للطوبجية ، ورئيسا يختص بذخائر ومؤن الجيش ، وأنشئ منصب أمير البحر " القبودان " ليشرف على السفن العسكرية وسائر جنود البحرية ، وكان سليمان باشا بلطة أغلو أول من شغل هذا المنصب في عهد الفاتح ، كما نظمت النقابات المهنية التي صارت تضم أكثر من 700 نقابة ، تضم أصناف المهن المختلفة ، ولكل مهنة قانون لا بد أن يلتزم به كل أعضاؤها ، وكان من العادة أن يجري أصحاب المهن كل فترة عرضا استعراضيا أمام السلطان .

وبعد الفراغ من تلك الترتيبات والتنظيمات تابع السلطان زحفه ليحكم قبضته على باقي بلاد البلقان ، وكانت هذه البلاد قد خضع أكثرها لآبائه من قبل ، ورضي أمراؤها بدفع الجزية لهم على أن يتمتعوا بالحكم الذاتي لبلدانهم ، ولكنهم كثيرا ما كانوا ينقضون عهودهم بتحريض مع الإمبراطور البيزنطي أو من بابا روما ، ويعلنون استقلالهم ، وأحيانا يسعون للتآمر مع ملوك المجر أو البابا ضد الدولة العثمانية ، فأراد السلطان الفاتح أن يضع حدا لذلك ، وأن يفرض سلطانه الكامل على بلاد الصرب واليونان والأفلاق وشرق جزيرة القرم والجزر الرئيسية في بحر إيجة ، وجعلها جزءا من دولته ، ونشر حامية إسلامية بها تضمن له عدم خروج ملوكها عليه ، وتمارس فيها نشر دعوة الله سبحانه وتعالى .. 

وقد بدأ ببلاد صربيا لأن جورج برنكوفيتش الذي كان يحكم الجزء الخاضع للدولة العثمانية أظهر عدم إخلاصه للمسلمين ، وكان يداري السلطان ويتربص به ، كان كما قال عنه السلطان " يظهر الصداقة ويبطن العداوة " ولما أتته رسل يوحنا هونيادي الذي عرض عليه الاشتراك في التحالف الذي أرادت أن تكونه ملوك أوربا من أجل طرد المسلمين أسرع بإعلان موافقته على هذا التحالف  ، ولذلك أراد السلطان أن يؤدبه على ذلك..

 وكان ببلاد الصرب وقتها قلعتان مهمتان، تعدان مفتاحاً لـ"صربيا" هما: قلعة "سمندرة" التي كانت عاصمة برنكوفيتش وقلعة "سفريجة حصار/أوستروفيجا" التي تحفظ فيها الخزائن الصربية ، ولقد تم فتح "سفريجة حصار" من خلال إطلاق المدافع الكبيرة على أسوارها ، بعد أن هرب منها جورج برنكوفيتش إلى المجر.

أما قلعة "سمندرة" فقد ضرب السلطان الحصار عليها، وتمكن من استحكام السيطرة عليها ، إلا أنه اضطر إلى رفعه عنها ، والعودة لظروف معينة ، ثم أرسل إليها الوزير الأعظم " محمود باشا " فتمكن من فتحها .

ورجع السلطان بعد أن حصل على خمسين ألف أسير ، وخزينة المملكة الصربية، التي عثر عليها مخبأة في "سفريجة حصار/أوستروفيجا " وقد أبقى بها قوة قوامها ثلاثون ألف جندي ، تحت قيادة الأمير "محمد بن فيروز بك" للحفاظ على المواقع التي تم الاستيلاء عليها في هذه الحملة، ومواصلة الفتوحات ، وأرسل إليها بمجموعة من دعاة الإسلام .  

   وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .

الحلقة السابقة هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين