حدث في العشرين من جمادى الأولى فتح مدينة القسطنطينية

في العشرين من جمادى الأولى من سنة 857=29/5/1453 فتح السلطان العثماني محمد الثاني مدينة القسطنطينية بعد حصار دام قرابة شهرين، وحقق بذلك تطلعات أجداده، وأضاف إلى ألقابه لقب الفاتح، وذلك قبل أن يبلغ عمره 22 سنة.

ولعل من المناسب قبل أن نمهد للحديث عن فتح القسطنطينية بأن نتحدث عن نشأة السلطان محمد الفاتح، وعن أعماله في سنتي السلطنة اللتين سبقتا الفتح، فنذكر أنه ولد في 26 رجب سنة 835، وكان الابن الرابع لوالده السلطان مراد الثاني، ولما ولد كان قد مضى على والده 10 سنوات وهو على عرش السلطنة، وأمه هي هُما خاتون، وتوفيت قبل سنتين من توليه السلطنة، ودرس في قصر والده ثم في مدارس أبناء السلاطين في مغنيسا، وكان معلمه الشيخ شهاب الدين أحمد بن إسماعيل الكوراني، المولود سنة 813 والمتوفى سنة 893، والذي حفظ على يديه القرآن، وكان له بمثابة الوالد بعد والده.

وعاش محمد مع والده فترة 20 سنة شهد فيها أحداثاً جليلة في تاريخ صعود الدولة العثمانية، ولعل أول ما وعاه من أحداث هو الحملة السادسة التي قادها والده في سنة 841 إلى ترانسلفانيا، واستيلائه على قلعة سمندرة جنوبي بلغراد، ثم غزوه للمجر في سنة 843 وحصاره بلغراد، وكذلك عصيان قرمان أوغلو في سنة 841 على صهره السلطان مراد وتهديده الدائم من الخلف له.

وشهد الأمير الشاب كيف تحالف المجر والهنغار مع الصرب، وانضمام قوات إليه من ألمانيا وبولندا وألبانيا، ورأس هذا التحالف قائد فذ صلب المراس هو جانوس هونيادي، الذي درس أساليب العثمانيين في الحرب دراسة متعمقة، واستطاع هزيمة جيش السلطان مراد وانتزاع نيش Niš وصوفيا سنة 847 = 1443م، ثم هزمه هزيمة منكرة في جالواز Jalowaz سنة 848 = 1444م، اضطر على إثرها الوالد لتوقيع معاهدة سلام في أدرنه تنازل فيها عن ألبانيا وصربيا وأراضي المجر، والتزم بهدنة مدتها عشر سنوات.

وكانت هذه المعاهدة منحة في ثوب محنة، فقد توفي في تلك الفترة أكبر أولاد السلطان مراد واسمه علاء الدين، وكان مقرباً من والده وقائداً شجاعاً فحزن عليه والده حزنا شديدا، وأصيب باكتئاب فتنازل عن العرش لابنه الأمير محمد، وذهب إلى مغنيسا Magnisa في ولاية آيدين للخلوة والإقامة بعيدا عن هموم الدنيا وغمومها، وهكذا تولى محمد الثاني عرش البلاد في حياة والده وهو في الثالثة عشرة من عمره، وظهرت خصاله القيادية في تلك السن المبكرة.

ولم تمض بضعة أشهر حتى خرقت القوى الأوربية الهدنة في سنة 848 = 1444م، مغترة بوجود شاب غر على العرش، وشنت حملةً صليبية رعاها البابا يوجين الرابع الذي أفتى ملك المجر فلاديسلاو الثالث Wladyslaw III، البولندي الأصل، بنقض الهدنة لأن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تعد حنثا ولا نقضا، وأرسل البابا مندوبه الكاردينال سيزاريني ليتابع الأمور عن كثب، وهاجم الجيش المجري فارنا على البحر الأسود بعد أن نقل له أفراده وأمداده أسطول البندقية، وقاموا، وهم الكاثوليك، بنهب كل المدن والقصبات والكنائس الأرثوذكسية التي صادفتهم.

واجتمع مجلس السلطنة في أدرنة وقرر أن لا بد من عودة السلطان مراد لرفع معنويات الجيش العثماني وهزيمة العدو المتحالف، وبناء على هذا القرار أرسل محمد الثاني يدعو والده لتسنم العرش مرة أخرى، وفي البداية رفض السلطان مراد ذلك قائلاً إن من واجبات السلطان الدفاع عن دولته، وعلى محمد الثاني أن يقوم بذلك. ولكن محمد الثاني رد على خطاب والده قائلاً: إن كنت أنا السلطان فإني آمرك بالحضور لتقود جيشك، وإن كنتم أنتم السلطان، فتعالوا ودافعوا عن دولتكم.

وكان الأعداء المتحالفون يقدرون أن السلطان لن يجرؤ على ترك الأناضول والعبور إلى أوروبا، ولكن مراد خيب ظنهم وفعل ما لم يتوقعوه، وقام على رأس جيشه بمهاجمتهم في رجب سنة 848 وألحق بهم هزيمة فادحة، وقُتِل في المعارك ملك المجر فلاديسلاو الثالث والكاردينال سيزاريني، وكانت هذه آخر حملة صليبية رسمية على الدولة العثمانية.

وبعد هذا النصر في فارنا رجع السلطان مراد إلى عزلته، ولكنه لم يلبث فيها طويلاً بسبب فتنة داخلية، فقد ازدرت الإنكشارية بملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع اليهم السلطان مراد الثاني في سنة 850 = 1448م وأخمد فتنتهم، ولم تك تلك نهاية المشاكل، فقد توجه بعدها السلطان إلى غزو اليونان وإخضاع ألبانيا التي ظهر فيها متمرد يدعى إسكندر بك.

وكان إسكندر بك ابن الأمير يوحنا كستريوتي أمير أماسيا، والذي قدمه رهينة ولائه للسلطان مراد، فأعلن الابن اعتناقه للإسلام، ودرس في المدرسة السلطانية في أدرنة، وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قربه إليه، فمنحه رتبة بيك وجعله أميراً على ألبانيا، ولكنه بعد هزيمة السلطان مراد في نيش أعلن تمرده وارتداده عن الإسلام، وساعده البابا والتحالف الأوربي وانضم إليه القائد هونيادي.

وجمع السلطان مراد جيشه وسار للقضاء على التمرد، والتقى الجيشان في كوسوفو في سنة 852 = 1448م، وانتصر السلطان مراد انتصاراً باهراً، وإن لم يتم القضاء تماماً على التمرد الألباني، وتوفي السلطان في أدرنه في 7 محرم سنة 855 = 1451م وهو يعد العدة لحملة جديدة لإخضاع ألبانيا.

وآل عرش السلطنة إلى السلطان محمد الثاني، وقد بسط والده سلطانه على الجزء الأكبر من آسيا الصغرى، ولم يعد خارجاً عن سلطانه منها إلا بلاد إمارة القرمان في وسط وشمال الأناضول، ولم يبق من الإمبراطورية البيزنطية إلا الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر والذي اقتصر سلطانه على مدينة القسطنطينة وضواحيها إلى جانب ميناء سينوب ومملكة طرابزون على البحر الأسود، وكان تحت سلطانها كذلك إقليم المورة في جنوب اليونان وعدة إمارات صغيرة فيه يحكمها بعض الأمراء من سلالات أمراء الحملات الصليبية، أما البندقية فكانت لها عدد من الموانئ في إقليم المورة والبحر الأدرياتكي وظيفتها الأساسية تسهيل التجارة التي كانت تقوم بها هذه الجمهورية الفريدة بين أوروبا وبين بقية العالم، أما ألبانيا وصربيا فكانتا يحكمهما أمراء من أهلها ولكن تحت سيادة الدولة العثمانية، وكان فتح القسطنطينية المرحلة الأولى في مخططات السلطان الشاب محمد الرابع.

وكانت المحاولات السابقة لفتح القسطنطينية قد باءت بالفشل بسبب وصول الإمدادات البحرية لتنجد المدينة المحاصَرة ويصبح المحاصرِِون أنفسهم تحت الحصار، وكانت أسوار المدينة من أمنع الأسوار في العالم، فقد كان ارتفاعها يتراوح ما بين 15 و17 متراً، وعرضها في أعلاها 4 أمتار، وأمامها خندق مليء بالماء يبلغ عرضه 18 متراً وعمقه 9 أمتار، وكانت الأبراج الدفاعية مكسية بالرصاص، وكان حسابات العسكريين البيزنطيين تقول إن المدينة لا يمكن فتحها إلا بحصار محكم يدوم 6 سنوات تنفد بعده المؤن المخزنة فيها، وكان حساباتهم قائمة على أن أي حصار للمدينة لن يدوم طويلاً لأن الدول الأورُبية ستهب لنصرتها وتفشل الحصار.

وفي المقابل كانت خطة محمد الثاني تعتمد على منع النجدات الأوربية من الوصول إلى القسطنطينية وأن ينهي الاستيلاء عليها قبل أن تصل إليها القوات والأساطيل الأوربية، وللقيام بذلك أمر محمد الثاني ببناء قلعة روملي حصار للسيطرة على مضيق القسطنطينية وإحكام الرقابة على السفن المارة به، وبذلك لا تستطيع أية سفينة عبور البحر الأسود إلى البحر الأبيض أو العكس، إلا بإذن من القوات المرابطة على جانبي المضيق، وإلا فإن المدفعية ستغرقها بنيرانها المتقاطعة.

واختار محمد الثاني موقع قلعته على الجانب الأوربي في أضيق نقطة في المضيق حيث يبلغ عرضه 660 متراً، تقابلها قلعة أناضولي حصاري التي شيدها جده بايزيد، وباشر فيها بعد أقل من سنة من توليه العرش وانتهى منها في قرابة 6 أشهر، وهو زمن قياسي إذا علمنا أن أسوارها تمتد مسافة 2000 متر، وتشتمل على 3 أبراج ارتفاعها قرابة 27 متراً، ولما انتهى من بنائها وترتيب استحكماتها وأسلحتها عاد محمد الثاني إلى عاصمته أدرنة في خريف سنة 856 ليتابع الشق الثاني من تحضيراته.

فقد أمر محمد الثاني مصانعه العسكرية بسبك المدافع بأقطار لم يسبق لها مثيل من قبل، فقام الصانع المجري الشهير أُوربان بعمل مدفع ضخم جرى تجريبه بحضوره السلطان، وكان يستطيع رمي كرة حجرية ثقيلة وزنها 2.000 كيلوغرام لمسافة ميل واحد، وبقوة تفتت حجارة الأسوار، وهكذا اكتملت لديه التحضيرات التقنية لبدء حملته على القسطنطينية.

ولم يكن خصمه الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر ضعيفاً أو غافلاً عما يدبره محمد الثاني، فقد كان هذا الإمبراطور البالغ من العمر قرابة 48 عاماً يتمتع بالشجاعة والمبادرة، وتولى الحكم قبل محمد الثاني بسنتين، ولكنه ورث تركة آيلة للسقوط صار من الصعب تدعيمها، وأدرك الإمبراطور ما يدبره محمد الثاني، وأن قواته الذاتية تقصر عن مواجهته، ففعل ما في وسعه ليحصل على أكبر قدر من المعونة من أورُبا، وناشد البابا مراراً لينجده من الخطر الداهم، وفي الوقت ذاته عرض على السلطان محمد الثاني أن يدفع له جزية سنوية مقدارها 70.000 ذهبية إن هو فك الحصار، ونصح السلطانَ مستشاروه بقبولها وفك الحصار، وقال كبيرهم إن فتح القسطنطينية سيجلب علينا حرباً مع كل دول أوربا.

وفي البداية أعاقت العداوة التاريخية العميقة بين الكاثوليك وبين الأرثوذكس الاستجابة الفعالة لهذه المناشدات، فقد كانت أوروبا تطلب من الإمبراطور البيزنطي،وهو في منصبه العريق حامي الكنيسة الأرثوذكسية، أن يترك الأرثوذكسية ويعتنق الكاثوليكية، ومجاراة لهذه المطالب رضي الإمبراطور في آخر سنة 855 أن يقيم الكاردينال الكاثوليكي إيزيدور مراسم دينية في أياصوفيا، أكبر كنيسة في العالم، وفق الأصول الكاثوليكية، ولكن الجماهير البزنطية استهجنت ذلك الابتزاز، وفضلت أن تعيش تحت الحكم التركي ولا تتخلى عن ديانتها الأرثوذكسية، وقال نوراراس أكبر أمراء بيزنطة: إنني أفضل أن أشاهد عمامة الأتراك على أن أرى الكُمَّة الكاثوليكية! وقامت دول أوروبا بتوجيه من البابا فأرسلت السفن والإمدادات والجنود إلى البيزنطيين الذين قامت قواتهم بمحاصرة القلعة التي بناها محمد الثاني في شتاء سنة 856=1452.

ولإيصال 14 مدفعاً كبيراً من أدرنة إلى القسطنطينية أمر محمد الثاني بتمهيد الطريق ما بينها، ثم وُضِع كل مدفع على عجلات يجرها 60 ثوراً ويحف بها 200 جندي يضبطون مسارها من كل جانب حتى لا تحيد عن الطريق، وكان هذا المدفع لا يستطيع إطلاق أكثر من 7 مقذوفات في اليوم بسبب حاجته للوقت ليبرد قبل وضع المقذوفة التالية فيه، وإلى جانب هذه المدافع كان لدى العثمانيين مدافع أصغر وأربعة أبراج متحركة ومنجنيق بحجم لم يسبق له مثيل.

وبدأ الحصار في ربيع الأول من سنة 857= نيسان/أبريل 1453، وقامت البحرية العثمانية بالاستيلاء على جزر القسطنطينية وقرية طرابيا، وكان عدد القوات العثمانية حوالي 100.000 جندي، يقابلهم وراء الأسوار الحصينة في الجانب البيزنطي 15.000 جندي إضافة للمتطوعين، ويدعمهم أسطول يتكون من سفن بيزنطة وجنوة والبندقية والبابا، على أن يمده أسطول البندقية الذي كان أكبر أسطول في العالم، وكذلك القوات المجرية التي ستتقدم براً من جهة الشمال في أوكرانيا اليوم، وكان البيزنطيون قد أغلقوا خليج القسطنطينية بسلسلة غليظة جداً، توجد اليوم في المتحف البحري في استانبول، وتحول بين السفن العثمانية وبين الاقتراب من المدينة المحصنة أتم تحصين.

وصحب السلطان خلال الحصار عدد كبير من المشايخ والعلماء، منهم الشيخ الصوفي محمد بن حمزة الدمشقي ثم الرومي، المعروف بابن شمس الدين والمتوفى سنة، ودل الشيخ السلطان على قبر على أسوار القسطنطينية ألهم أنه قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فارتفعت همة المحاصرين وازدادت ثقتهم بالنصر وحماستهم لتحقيقه، وقد بنى السلطان محمد في مكانه مسجد أبي أيوب المعروف اليوم، وقد توفى أبو أيوب، خالد بن يزيد الخزرجي، سنة 52 غازياً على أبواب القسطنطينية في جيش يزيد بن معاوية، وتذكر الروايات الإسلامية أن الروم كانوا يحترمون قبره ويستسقون ببركته.

وبعد قرابة أسبوعين من بدء الحصار جاء رسل أوروبا إلى محمد الثاني وأعلنوا باسم العالم المسيحي أن جيوش أوروبا المتحدة سوف تهاجم تركيا وتحتلها إن لم يرفع السلطان حصاره عن البيزنطيين، وفعلاً أرسلت أوروبا أسطولا قوامه سفن من جمهورية جنوة يقودها الأدميرال جوستنياني، ونشبت بينها وبين السفن العثمانية معركة هائلة، مالت كفتها قليلاً لصالح جنوة، واستطاعت 5 سفن منها دخول الخليج بسبب ريح مواتية مكنتها من دخوله بسرعة غير متوقعة، ورداً على هذا الإنجاز أمر محمد الثاني مدفعيته بقصف السفن الراسية في خليج استانبول فأغرقوا بعضها.

وأدرك السلطان أنه لا بد من أن تكون له قوة بحرية في خليج القسطنطينية تساعده في إحكام الحصار على المدينة، وقدحت في ذهنه فكرة نقل السفن على البر ثم إنزالها في الماء، وبذلك يتجاوز السلسلة الموضوعة، وأمر بإعداد 70 سفينة صغيرة نسبية، ومهد طريق سيرها بأن رص فيه ألواح الخشب وصب عليها الشحوم حتى تنزلق عليها السفن، واستطاع في يوم واحد نقل كل السفن، ولما رآها المحاصَرون في اليوم التالي أدركوا أن النهاية صارت جد وشيكة.

وقدم السلطان محمد الثاني عرضه الأخير للإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، بأن يستسلم ويسلم له البلد طوعاً، ويتعهد له السلطان بعدم استرقاق السكان أو التعدي على أملاكهم، وأن يجعله أميراً على جزر اليونان الجنوبية، ولكن الإمبراطور وقادته رفضوا العرض وآثروا الموت على تسليم المدينة.

وفي فجر يوم 20 جمادى الأولى من سنة 857=29 أيار/مايو 1453 بدأ الجيش العثماني هجومه، ودافع الإمبراطور قسطنطين عن المدينة دفاعاً شجاعاً لم يجد شيئاً أمام الهجوم العثماني، فقتل على أسوار القسطنطينية وكان قد قارب الخمسين من العمر، وجُرح الأدميرال جوستنياني جرحاً مات على إثره، واقتحم الجنود العثمانيون أسوار المدينة من الجهات المختلفة، وبدأوا في السلب والنهب وقتلوا عدداً كبيراً من أهالي البلد، ولما دخل السلطان محمد الثاني المدينة عند الظهر، أصدر أوامره بوقف كل التعديات، فساد الأمن على الفور، ثم زار كنيسة أيا صوفيا التي كان قد لجأ إليها ألوف من سكان القسطنطينية وكبار الرهبان، ولما سجدوا له أمرهم بالقيام، وألا يخشوا على حياتهم ولا حريتهم، ثم أمرهم بالعودة إلى بيوتهم، وأمر برفع الأذان فيها وصلى العصر فوراً إعلانا بتحويلها إلى جامع البلد، وفي تحويل أياصوفيا إلى جامع يقول أحمد شوقي في لفتة نبيهة كريمة:

 

كنيسة صارت إلى مسجد ... هدية السيد للسيد

 

واتخذ السلطان محمد الثاني لقب الفاتح منذ ذلك اليوم، وأدرك، وهو سليل أسرة عريقة في الجهاد ونصرة الإسلام، أنه قد أضحى وريثاً للامبراطورية البيزنطية بعد فتحه القسطنطينية، فأضاف إلى ألقابه لقب: قيصر الروم، وأصدر إعلاناً عاماً بضمان حرية الدين المسيحي وممارسة شعائره، وحفظ أملاك النصارى، فعاد عدد كبير ممن هاجر منهم، وأعطاهم نصف كنائس البلد وجعل النصف الآخر جوامعاً، وبعد إتمام هذه الترتيبات وإعادة بناء أسوار المدينة وتحصينها، أمر محمد الفاتح بتأسيس ثمانية مدارس إسلامية في استانبول، التي أعلنها عاصمة له، ومن جملة الإجراءات التي اتخذها محمد الفاتح بعد فتحه القسطنطينية أن قسم منصب القضاء أو قاضي العسكر بين قاضيين؛ قاض يختص بالولايات الشرقية، وآخر بالولايات الغربية والتي يطلق عليها روم إيلي.

وأمر محمد الفاتح كبار القساوسة الأرثوذكس أن يجتمعوا وينتخبوا بِطركا لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، ومنح السلطان موافقته على هذا الانتخاب، واحتفل بتنصيب البطرك بنفس الأبهة والنظام الذي كان يعمل للبطارقة في أيام البيزنطيين، وأعطاه حرسا من عساكر الإنكشارية، وجعله رئيسا لكل النصارى في سلطنته، وأنشأ مجلساً يرأسه البطرك وكبار موظفي الكنيسة، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية المختصة بهم، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقساوسة، وإلى جانب ذلك فرض على المسيحيين الجزية مستثنيا الرهبان من ذلك.

ولم يكن للإمبراطور القتيل أولاد، وكان خلفاؤه هم أولاد أخيه الأكبر المتوفى، فقام السلطان بضمهم إلى بلاطه، وصار أحدهم؛ مراد خاص، قريباً جداً من السلطان الذي عينه فيما بعد نائب السلطنة في البلقان، وصار الآخر؛ مسيح باشا، قائد الأسطول العثماني ووالي جاليبولي، ثم صار مرتين صدراً أعظماً في أيام بايزيد الثاني بن محمد الفاتح.

وممن شهدوا فتح القسطنطنية وكتبوا عنه شهادة عيان المؤرخ البيزنطي كريتوبولوس الإمبروسي، نسبة لجزيرة إمبروس، التي كان ينتمي إليها والتي جعله السلطان محمد الفاتح والياً عليها، فقد كتب هذا المؤرخ كتاباً أسماه: تاريخ محمد الفاتح، وتحدث فيه بدقة وإسهاب عن محمد الفاتح، مع إنصاف وإعجاب بإنجازاته وحكمه. 

وكانت المرحلة الثانية للسلطان محمد الفاتح بعد انتصاره في القسطنطينية هي التوجه لشن حملة على صربيا، لأن ملكها دوراد برانكوفيتش شق عصا الطاعة وعقد تحالفاً مع المجر وما عاد يدفع الخراج بصورة منتظمة، وكان والده السلطان مراد قد تزوج من أميرة صربية اسمها ميرا، وذلك في إطار اتفاق للسلام مع الصرب، ولكنه قبل وفاته لم يكن على وفاق معها، فلما تولى محمد الثاني أمر بإرجاع زوجة أبيه إلى أهلها الذين تمردوا على الدولة العثمانية.

واستمرت الحملة على صربيا قرابة سنتين، من سنة 858 إلى سنة 860، استولى فيها على عدد من المدن الهامة وحاصر فيها السلطان منها ما لم يستطع فتحه، ووصل حتى العاصمة بلغراد، وبالطبع هرع الملك المجري هونيادي مع قواته لقتال العثمانيين، وسبقه إليها وقاد الدفاع عنها، فلم يتمكن السلطان من فتحها، ورفع الحصار عنها عائداً إلى أدرنة، وكان الإنجاز الكبير في هذه الحملة هو أن هونياد أصيب بجراح بليغة أثناء الحصار ما لبث أن مات من جرائها بعد فك الحصار بعشرين يوماً.

ومات برانكوفيتش في سنة 862 واختلفت أرملته مع أولاده الثلاثة وقتل بعضهم بعضاً، وانتهى الأمر أن عرضوا عرش الصرب على أمير بوسنوي دون استشارة السلطان، كما تقتضي الاتفاقيات، فأرسل محمد الفاتح جيشه في سنة 863 واستولى على البلاد وأصبحت تابعة للسلطنة العثمانية.

وما لبث السلطان أن ضم إلى أراضيه بلاد المورة في جنوبي اليونان، والتي كان يحكمها الأميران ديمتريوس وتوماس أخوا الإمبراطور القتيل قسطنطنين الحادي عشر، فقد ثار أهالي المورة على الأميرين بعد سقوط القسطنطينية لأنهما لم يرسلا أية مساعدة لأخيهما أثناء حصار القسطنطينة، فاستنجد الأميران بالسلطان محمد الفاتح لقمع التمرد، وعلى إثر ذلك أبدى عدد من أمراء المناطق الصغيرة خضوعه للسلطنة، ولكن الأخوين كانا مستبدين فاشلين في الحكم، ثم قاما بالتمرد على السلطان نفسه، فما كان منه إلا أن جاء إلى بلاد المورة في سنة 864 واستولى على كل المدن البيزنطية فيها بعد حملات دامت قرابة سنة.

وبعد حملته في اليونان اتجه محمد الفاتح لإخضاع مناطق البحر الأسود التي كانت لا تزال خارجة عن سلطانه، وبخاصة ميناء طرابزون التي حاول والده فتحها قبل 18 سنة فلم يوفق، وكان ملكها البيزنطي الجديد يتآمر مع الدول الأوربية ضد السلطان، وبلغ به الغرور أن ثرثر بتخطيطه ليس لهزيمة محمد الفاتح بل والاستيلاء على القدس، وطالب محمد الفاتح بإعادة الجزية التي دفعها أخوه من قبل.

وجاءه الجواب في سنة 865 يحمله محمد الفاتح على رأس جيش كبير انطلق من بورصة يسنده أسطول بحري، وطلب من أمير ميناء سينوب الاسفندياري تسليم البلد، ففعل ذلك، ثم توجه إلى طرابزون ففاجأها بوصوله على حين بغتة وحاصرها قرابة شهر حتى استسلم ملكها فأرسله مع أسرته إلى القسطنطينية، ويدأ السلطان محمد الفاتح حملته التالية على إقليم الأفلاق فيما يعرف اليوم برومانيا.

وكان العثمانيون يعتبرون الأفلاق منطقة تحجز بينهم وبين المملكة المجرية، وكانت بينها وبين الدولة العثمانية معاهدة ترجع إلى سنة 795 تعترف فيها بسيادة الدولة العثمانية عليها، وتتعهد بدفع جزية سنوية، مقابل بقاء البلاد في يد أمرائها يحكموها بمقتضى عوائد وقوانين أهلها، وفي المقابل كانت هنغاريا تريد أن تضع الأفلاق تحت نفوذها وسيطرتها، وللحيولة دون ذلك أتى العثمانيون قبل عشر سنوات بالأمير الشاب فلاد الثالث الذي كان سجيناً لديهم وجعلوه على إمارة المنطقة، ولكن الملك الهنغاري هونيادي طرده ووضع محله أميراً آخر، ولما انشغل هونيادي بالدفاع عن بلغراد في سنة 860 انتهز فلاد الثالث الفرصة واسترجع عرشه من جديد.

وكان فلاد الثالث ظالماً متعسفاً مع رعيته يتلذذ بعقوباتهم ويتفنن فيها، حتى لقبه المؤرخون فلاد الخازوقي! ودعاه الأتراك فلاد الشيطان، ولما عاد إلى العرش أرسل إليه محمد الفاتح رسلاً يدعونه إلى تنفيذ المعاهدة ودفع الجزية المتأخرة، فلما مثُلوا أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه، فأبوا ذلك لمخالفته لعاداتهم، فأمر أن تُسمر عمائمهم على رؤسهم بمسامير من حديد!

وأرسل محمد الفاتح حمزة باشا حاكم نيقوبولي رسولاً إلى فلاد الثالث للتوصل معه إلى حل سلمي أو القضاء عليه، ولكن فلاد كمن لحمزة باشا وقتل الجنود الذين معه، ووضعه وكبار بعثته على الخازوق، ثم عبر الدانوب في سنة 866 وأغار على بلغاريا فأمعن فيها نهباً وتخريباً وقتلا، وقال متبجحاً في رسالة كتبها إلى ملك هنغاريا: لقد قتلت المزارعين، رجالاً ونساء، كباراً وصغارا ... لقد قتلنا 23.884 تركي عدا عن أولئك الذين أحرقنا عليهم بيوتهم أو قطع جنودي رؤوسهم.

وكان السلطان محمد الفاتح في أثنائها يحاصر ميناء كورينت في المورة، فلما وصلت هذه الأخبار إليه، ترك الحصار وسار على الفور بجيشه ليعاقب هذا الأعمال، ولكن فلاد كمن له ليلاً وهاجمه وكبده كثيراً من القتلى والأسرى الذين وضعهم على الخوازيق ليراهم الجيش العثماني، وكاد محمد الثاني أن يقرر التوقف خشية أن يكون ذلك قد فت في عضد جيشه، ولكن قواده أكدوا له متانة المعنويات في الجيش وتطلعه للثأر، فتابع القتال وهزم فلاد وبدد جيوشه، والتجأ فلاد إلى ملك المجر، بعد أن قتل بظاهر بوخارست أغلب الأسرى الذين جاء بهم من بلغاريا، وجعل السلطان أميراً على البلاد الأمير راوول أخا فلاد الذي كان قد تربى في حضانة السلطان مند نعومة أظفاره، وأصبحت الأفلاق جزءاً من الدولة العثمانية.

ولانشغال السلطان في الأفلاق وبتحريض من المجر امتنع أمير البوسنة عن دفع الخراج، فشن السلطان حملة في سنة 866 أخضعت كامل البوسنة لسلطانه، وقتل أميرها وولده، وجعلت البوسنة ولاية عثمانية، وأسلم أغلب الأشراف من أهلها الذي غلبت عليهم ديانة البوغوميل، ودخل في جيش السلطان عدد كبير من شبابها.

وبعد هذه الانتصارات اتجه السلطان محمد الفاتح لمواجهة القوة البحرية العظمى وهي البندقية، ولكن المواجهة في البداية لم تكن بحرية، فقد كان الأسطول العثماني أضعف من أن يواجه أسطول البندقية المنظم والمتمرس، فبدأ محمد الفاتح في سنة 867 في الاستيلاء على بعض الموانئ التابعة للبندقية في اليونان، وتحالفت البندقية مع هنغاريا لتقوم جيوشها بمهاجمة البوسنة في الوقت الذي ترسل البندقية أسطولها وجيشها للمورة، وبدأ البابا بيو الثاني في حشد جيش في ميناء أنكونا على البحر الأدرياتيكي ليقوده بنفسه، وبدأت البندقية مفاوضات مع منافسي العثمانيين من الأمراء المسلمين في شرق تركيا والقِرِم .

وحقق جيشا البندقية والمجر بعض الانتصارات المبدئية، وألقت السفن البندقية مراسيها عند مدخل خليج الدردنيل متحدية بقوتها البحرية العثمانية، وكالعادة كان رد محمد الفاتح كان سريعاً وحاسماً، ذلك إنه أدرك أن يواجه تحدياً يختلف عن كل مواقعه السابقة، فقد كانت البندقية عدواً عريقاً في البحرية، خبيراً بالحروب لا يعوزه المال والرجال، متمرساً في الدبلوماسية وحشد التأييد وجمع الأحلاف.

وأرسل محمد الفاتح الصدر الأعظم محمود باشا على رأس جيش ليواجه البنادقة في المورة، وأمر بإنشاء دار لصناعة السفن في قادِرجا على الخليج الذهبي، وأنشأ حصنين لحراسة المضايق، وسار بعد ذلك على الفور على رأس جيش آخر ليردف محمود باشا، ولما كان في الطريق بلغه أن محمود باشا قد حقق انتصارات ساحقة على البنادقة، فحول خط سيره على الفور شمالا إلى البوسنة، ولكنه لم يستطع استرجاع مدينة جاجي Jajce التي كانت عاصمتها واضطر للانسحاب أمام الجيش الهنغاري، ولكن وزيره محمود باشا كان قد جاء بجيشه واستطاعوا إجبار الهنغار على الانسحاب وإن لم يستعيدوا العاصمة، وجاءت وفاة البابا في سنة 868 لتحل عرى الحملة الصليبية المزمعة، ولإضعاف البندقية اقتصادياً ومالياً، منح السلطان محمد الفاتح دولة توسكانا في فلورنسا امتيازات تجارية واسعة على حساب البندقية.

واستمرت المعارك بين البندقية وبين جيش السلطان في المورة دون تحقيق نتائج حاسمة، ولما بدأت الكفة ترجح إلى الطرف العثماني وبخاصة بعد وصول أسطوله البحري، أرسل السلطان محمد الفاتح تلميحات إلى مجلس الشيوخ في البندقية برغبته في السلم، ولكن المجلس رفض ذلك لشكه في نوايا السلطان، وشن البنادقة بعد قرابة سنة، في منتصف سنة 870، حملة استطاعت انتزاع كثير من المواقع والجزر التي استولى عليها العثمانيون، ووصلت حتى أثينا ولكنها لم تستطع احتلالها، فسارت عنها إلى مدينة باتراس وحاصرتها مدعومة بقوات يونانية، ولما بدا أن المدينة على وشك السقوط ظهرت قوة عثمانية من 12.000 خيال استطاعت بسهولة طرد القوات المحاصِرة وأسرت ثلثها وقتلت قائدها، ثم تابعت طردها حتى احتمت بمدينة نيغروبونت قاعدة البنادقة الأساسية في المورة، وفي سنة 874 قاد محمد الفاتح جيشه وحاصرها براً، وهزم أسطوله أسطول البندقية في البحر حتى فتحها وأنهى عملياً سيطرة البندقية على الأراضي اليونانية.

وكان أحد أسباب انتصارات البندقية في حملتها سنة 870 هو أن محمد الفاتح قد سار قبلها بقليل على رأس جيش كبير لإخضاع ألبانيا وأميرها إسكندر بك وإكمال ما لم ينجزه والده قبل 15 سنة، ولكن الشتاء حل دون أن يستطيع تحقيق نصر حاسم، وانتشر وباء الملاريا في المنطقة ومات من جرائه إسكندر بك، فتفكك تحالف الأمراء الألبان الذين كان يستقطبهم بشخصيته وإنصافه، وبقي أمراء المناطق يقاومون السيطرة العثمانية كل في منطقته، فتركهم محمد الفاتح إلى حين.

وجاء هذا الحين في سنة 878 حين شن محمد الفاتح حملة لاستكمال فتح المناطق والمدن الهامة في ألبانيا مركِّزاً جهوده على شقودرة، ومرة أخرى لم يستطع جيشه فتحها، فقام هو شخصياً بحصارها في سنة 883، وبقيت عصية عليه بفضل صمود حاميتها من الألبان والبنادقة، فيمم السلطان وجهه شمالاً ومر بكرواتيا ومنطقة دالماسيا الساحلية منها، ودخل إقليم الفِريولي في إيطاليا وصار على مقربة من مدينة البندقية، فسارع البنادقة وأبرموا الصلح معه في معاهدة القسطنطينية التي تمت في 5 من ذي القعدة سنة 883= 1479، وتنازلوا له عن ألبانيا ومدينة شقودره، ودفعوا له مبلغ 100.000 دوقة ذهبية كتعويضات إضافة إلى مبلغ 10.000 دوقة سنوياً مقابل المحافظة على امتيازاتهم التجارية في البحرين الأسود والأدرياتيكي، وهكذا استطاع السلطان محمد الفاتح تحييد أقوى دولة أوربية بحرية، لا يعادلها آنذاك إلا جمهورية جنوة.

ومن الطريف أن السلطان محمد الفاتح اشترط في معاهدة الصلح أن ترسل البندقية رساماً من مواطنيها ليرسمه، فأرسلت الرسام القدير جنتيله بيلًيني الذي أقام في القسطنطينة سنة ورسم فيها السلطان محمد الفاتح وترك لنا عدداً من الرسومات لأشخاص وجنود عثمانيين، أرفق بعضاً منها، وصار من المألوف أن تجد أشخاصاُ معمَّمين في لوحات بيلِّيني حتى ذات المواضيع المسيحية الطابع.

وبعد هذا الإنجاز الكبير حول السلطان أنظاره لضم دولة القرمان في آسيا الصغرى، وهنا نقف قليلاً لنستعرض ما تم في تركيا بعد الفترة السلجوقية، حيث أصبح الأناضول موطناً لإمارات تركمانية عديدة، كان أقواها الإمارة القرمانية التي تمركزت في ما يسمى اليوم ولايتي قرمان وقونية، ولكن ما لبثت الإمارة بني عثمان أن اشتد عودها وسيطرت على غالب الأناضول فحدَّت من تأثير وهيمنة القرمانيين، وكان أميرهم إبراهيم قد أوصى بالحكم بعد موته إلى ولده الأمير إسحاق، وهو ابنه من إحدى جواريه، ولذلك نازعه أخوه أحمد واستولى على الحكم عند وفاة الأب في سنة 868، واستنجد إسحاق بحسن الطويل، ويقال له أوزون حسن، أكبر أمراء القرمان، والذي كان ملكاً شجاعاً محنكاً يحكم منطقة عراق العجم التي تمتد من أفغانستان إلى شرق الأناضول، وعاد إلى العرش بمساعدته، فاستغاث أحمد بالسلطان محمد الثاني الذي أغاثه وهزم إسحاق ووضعه مكانه.

ولما توجه السلطان محمد الفاتح إلى أوروبا لمحاربة إسكندر بك، انتهز الأمير إسحاق الفرصة وعاود الهجوم على قونية لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وهزمه وأعلن ضم إمارة القرمان إلى بلاده، وبعد ذلك بقليل زحف الأمير حسن الطويل واحتل معظم شرقي الأناضول واقترب من قونية، فجهز السلطان محمد الفاتح جيشاً جرار هزمه هزيمة منكرة هرب على إثرها، وأمر السلطان بإطلاق سراح الأسرى من جيش حسن الطويل.

وبعد هزيمته المنكرة لم يعد حسن الطويل يفكر في محاربة الدولة، ووقع صلحاً من الدولة العثمانية، وأصبح وسلالته من حلفائها، وببقاء الأناضول موحداً تحت سلطة آل عثمان أصبح لدى السلطان محمد الفاتح خزان بشري من السكان الذين يستطيع تجنيدهم، ومن ناحية أخرى صار يستطيع التوغل في أوروبا دون أن يتلفت وراء ظهره.

وفي سنة 879 توجه السلطان محمد الفاتح لإخضاع مولدافيا التي نقض أميرها اسطفان الرابع اتفاقاً عقده سلفه مع الدولة العثمانية، ورفض الاعتراف بالسيادة العثمانية، ولقي أول جيش أرسله السلطان بقيادة خادم باشا هزيمة منكرة، فسار السلطان بنفسه في السنة التالية على رأس جيش جرار وضم الجيش فرسان التتار من القرم الذين تحالفوا مؤخراً معه، وبعد معارك ضارية لم تسفر عن نصر مبين، دخل السلطان بنفسه مع حرسه في معركة ضارية منها فحاقت الهزيمة بالمولدافيين، الذين انسحبوا ولكنهم لم يتوقفوا عن محاربة الجيش العثماني في مناوشات صغبرة، وفي النهاية انسحب الجيش العثماني دون أن يستولي على أي من البلدات الهامة، ولكن مولدافيا بعد هزيمتها ما عادت تمثل أي تهديد للسلطنة.

وفي سنة 879 عزم السلطان محمد الفاتح على فتح بلاد القِرِم التي كانت موانئها الهامة في يد جمهورية جنوة، بينما كانت هضابها في يد التتار الذي طلبوا مساعدة السلطان لانتزاع موانئها من الجنويين، فأرسل حملة بحرية إلى ميناء كافا ففتحته بعد حصار ستة أيام وبعده سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوة، وصارت جميع شواطيء القرم تابعة للدولة العثمانية، وأعطى السلطان الحكم الذاتي لتتار الداخل.

وفي سنة 884 أرسل السلطان حملة تمكنت في سنة 885 من احتلال مدينة أوترانتو في جنوب إيطاليا، ثم انسحبت مع الخريف إلى ألبانيا بسبب نقص الأطعمة، وسببت الحملة ذعراً شديداً في أنحاء إيطاليا بسبب أنها جاءت بعد 28 سنة من سقوط القسطنطينية الذي بقي حياً في ذاكرة أغلب الناس، وبدأ البابا سيكستوس الرابع في وضع الخطط لإجلاء السكان عن روما، ودعا لحملة صليبية جديدة استجابت لها عدة مدن إيطالية إلى جانب هنغاريا وفرنسا، ولكن البندقية لم تتجاوب معها لارتباطها بمعاهدة سلام مع العثمانيين، وقام جيش يقوده الأمير ألفونسو الثاني ابن الملك فرديناند الأول ملك نابولي وتردفه قوات هنغارية بحصار أوترانتو في أوائل سنة 886، وجاءت وفاة محمد الفاتح بعدها بيومين والخلافات على وراثة عرشه، لتقطع المدد عن القوات العثمانية، وانتهى الأمر باتفاق على انسحابها بسلام إلى ألبانيا، وعادت المدينة إلى السلطة البابوية.

وفي 4 ربيع الأول سنة 886 توفي السلطان محمد الثاني الفاتح الغازي عن 53 سنة بعد أن حكم السلطنة العثمانية 31 سنة أمضاها في جهاد دائب وحروب متصلة، ممهداً الطريق لخلفائه ليتابعوا مسيرته ويحققوا ما لم يتمكن من إنجازه، ولما وصل خبر وفاته إلى أوروبا قُرِعت أجراس الكنائس وعقدت الاحتفالات، ولعل أكبر اعتراف بمكانته جاء من جمهورية البندقية التي أعلنت الخبر تحت عنوان: مات النسر العظيم. ووقع خلاف بين أولاده على من يخلفه انتهى بأن تسنم ابنه بايزيد عرش السلطنة.

وإذا بدا من السيرة التي استعرضناها أن محمداً الفاتح كان قائداً عسكرياً عظيما، وقد كان، فإننا في الحقيقة لم نفه حقه، فلقد كان أكثر من ذلك بكثير؛ لقد كان عابداً صالحاً متواضعاً، وسياسياً محنكاً وزعيماً بانياً، وصاحب رأي ثاقب في بناء الدول وتشييد الحضارات، ولا يتسع المجال للحديث طويلاً في هذا الصدد ويكفي أن نشير أنه لولا هذا الخصال لاندثرت استانبول، بل وتدين الكنيسة الأرثوذكسية له برده إليها اعتبارها بعد انتصاره، وكان كذلك أديباً شاعراً وعالماً مثقفاً، مهتماً بنشر العلم ويقرب العلماء في شتى العلوم ويكرمهم، ويزخر كتاب الشقائق النعمانية بأخباره مع العلم والعلماء في عصره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين