الحركة الإصلاحية الحديثة في العالم الإسلامي وموقف محمد إقبال منها -1-

إنّ العصر الذي عاش فيه "محمد إقبال" تميّز بتفاوت ملحوظ بين العالم الأوروبي المتقدم والعالم الإسلامي المتخلف، في مجال العلم والتكنولوجيا والسياسة والاجتماع وغيرها، هذه الظروف دفعت "محمد إقبال" إلى التفكير في الذات والدعوة إلى العودة إليها، من خلال مصادر الإسلام الأصلية وقيّمه الجوهرية وتعاليمه السمحى، وجعلته يتنكر للتخلف والانحطاط، بتفكير عميق وتحليل مفصّل لظروف العالم الإسلامي المتخلف، والدعوة إلى الأخذ بأساليب وشروط النهضة والتجديد وبناء الحضارة.

فالأزمة التي غرق فيها المسلمون وغيرهم من الشعوب المتخلفة في العالم، وأساليب العمل عند الأمم المتقدمة لأجل تكريس الانحطاط والسيطرة، وتجلى ذلك في أشكال الاستعمار الممارسة التي انتهت بالاستعمار العسكري الذي ينطوي على كل نعوت الاستغلال والسيطرة والتسلط، فصارت القوة العلمية والتكنولوجية تُسخر للتوسع والهيمنة في أرض ما، وعلى حساب شعب ما، الذي يُقتل وثرواته تُنهب وتُسلب.

كانت الحياة الاجتماعية متدهورة، وكانت الشعوب الإسلامية تعاني من قسوة الاستعمار واستبداد الحكام، فلم تكن هناك حركة علمية وتجديد، وغرق المسلمون في مناقشة الجزئيات، والعناية بالزخرف اللّفظي، فانتهى ذلك بالثقافة الإسلامية إلى الوقوع في فخ التقليد. فلا المراكز الإسلامية أصبحت تنهل من الينابيع الأصلية للإسلام، فتغذي بذلك العقل والقلب والروح، بل اكتفت بما في كتب الفقه القديمة، ولا المراكز العلمية استطاعت أن تتخلص من ربقة التقليد، وتتحرر لتجدد في أساليب البحث ومناهج الدراسة، وتنكب على الاتصال بالعالم المتقدم، لتطلّع على الجديد وتكيّفه مع مالها من تراث ديني وثقافي فكري قويّ. فهذا "محمد إقبال" في كتابه »تجديد الفكر الديني في الإسلام«يقف في فصل »مبدأ الحركة في بناء الإسلام« على عوامل انحطاط المسلمين، وهي تاريخية تعود إلى العصر  الأموي والعصر العباسي. فالخلافات الفكرية والسياسية التي قامت بين المفكرين، اتسعت لتشمل عامة المسلمين، كان لها أثرها السلبي الملموس من الناحية السياسية والاجتماعية، حيث أغرقت المسلمين في فتن واضطرابات لم تسمح للأمة الإسلامية بالاستمرار في التوسع والازدهار، بل أدّت بها إلى الانحطاط الديني والاجتماعي.

ومن مظاهر الخلاف السياسي ما وقع خلال وبعد الفتنة الكبرى، واستمر الصراع والتخلف والتشتت والتشرذم والضعف في جميع المجالات حتى أيامنا هذه، كما شكّل الخلاف الفكري بين أهل الرأي "المعتزلة" وأهل السنة حول مسألة خلق القرآن إحدى مظاهر الصراع الذي كان له هو الآخر نتائج سلبية بين المفكرين، ومثال ذلك محنة "أحمد بن حنبل". واختلاف أهل الرأي في مسائل عديدة في العصر العباسي الذي شهد ثلاث رؤى في الإسلام: رؤية عقلية تضع العقل سلطانا على البحث في مسائل الدين وهي رؤية المعتزلة، ورؤية تجمع بين الدين والعقل وترفض التأويل وهي رؤية الأشاعرة، وأخرى تقوم على التأويل الباطني وتسلك طريقة الكشف والمشاهدة وهي الطريقة الصوفية، هذا ما طبع الحياة الفكرية والثقافية الإسلامية في العصر العباسي وبعده. 

اشتد الصراع السياسي بين أهل السنة والشيعة في العصر العباسي، وتوزع المجتمع الإسلامي على ثلاث مراتب اجتماعية، حكام وجند وعامة، وهو تقسيم غريب على الإسلام وتعاليمه الداعية إلى ضمان العدالة والمساواة داخل المجتمع، انتهى الحكم العباسي بسقوط بغداد على يد ''هولاكو'' قائد التتار عام 1258م، وقائد المغول الذي ألحق الدمار والخراب بالمدينة وطمس معالم الحضارة فيها، وكان ذلك نكبة وكارثة على الإسلام ومستقبله.

 لم يكتف التتار بتخريب مركز الحضارة الإسلامية بغداد، بل زحف نحو الشام، وفي مثل هذا الانحلال السياسي ركّز العلماء جهودهم في المحافظة على النظام الاجتماعي لحياة المسلمين، فلم يقبلوا الجديد، وتمسكوا بمدارس الفقه القديمة، فأصبح التقليد قاعدة تقف أمام الاجتهاد والإبداع، ونتج عن ذلك طغيان التأمل ونوع من التفكير النظري على حساب العمل الاجتماعي، ولم تؤد صيحات ابن تيمية إلى التطور الملموس للفكر الإسلامي، خاصة لما قام العلماء بدراسة القرآن على ضوء الفلسفة اليونانية، على الرغم من الطابع المميّز لهذا عن تلك. وتسرب الزهد والتصوف نتيجة التأثر بالأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة، ومال العديد من المسلمين إلى ذلك بسبب الفساد في المجتمع والعزوف عن الدين الذي شهدته حياتهم.

 بقي الأمر على هذا الحال حتى بداية القرن 19، وهو عصر الحضارة الغربية القائمة على التقدم العلمي والتقني، وهو عصر انقسم فيه سكان المعمورة إلى عالم متقدم يتمتع بالرفاهية والازدهار، وينعم بالخيرات، وعالم متخلف يعاني الفقر والجهل والتمزق السياسي والانحلال الاجتماعي، والعالم الإسلامي جزء من هذا الأخير، أخذ المثقف الإسلامي يسأل عن سرّ تخلّف العالم الإسلامي وأسباب تقدم غيره، وكيف لهم الوصول إلى الحضارة مع المحافظة على التراث – مسألة الأصالة والمعاصرة - لكن عزلة العالم الإسلامي وانشغاله بالحروب والصراعات الداخلية وعدم اتصاله بأوروبا منعه من الإطّلاع  على العلوم والفنون والصنائع هناك، هو الذي منع المفكرين والمثقفين من التأثير والتغير، " لقد أُغلقت على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضا، وقف المسلمون في علمهم، فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها وفي صناعتهم، فلا اختراع ولا إتقان للقديم وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على خط الأقدمين".

ويعرض "أحمد أمين" في كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، شهادة أحد السواح الفرنسيين زار مصر في آخر القرن 18، يقول: »إن الجهل في هذه البلاد عام وشامل مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها ويتجلى في كل جوانبها الثقافية، من أدب وعلم وفن، والصناعات في أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا«.

إنّ الضعف الذي شهده العالم الإسلامي والتخلف على مستوى الفكر والدين والمعرفة، رافقته نزاعات سياسية وصراعات حزبية كثيرة، »والسياسة فيها نزاع مستمر بين الأمراء، وكل أمير له حزبه، وكل حزب يتربص الدائرة بخصمه، والبلاد ضائعة بينهم، والوالي لا يطيل المكث إلا ريثما يغتني، حتى أصبح اسم الحكومة والوالي والجندي مرعبا، مفزعا، مقرونا في النفس بمعنى الظلم والتعسف«.

واستفحل الجهل واستشرى و»فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية، لا تمس القلب ولا تُحيي الروح، وسادة الخرافات وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، والدين مظاهرشكلية .....هذا هو الحال في الشرق، أما الغرب فلم يكن قد أصيب بكوارث الشرق" .

بدأت أوروبا تنهض منذ الحروب الصليبية، وتؤسس لحضارة راقية أساسها العلم والتحرر، تطورت فيها الصناعة وكثرت الاختراعات، واتسع نطاقها، فامتلكت قوة عظمى، »حتى إذا شعرت بقوتها هجمت على الشرق قطراً ضغطت عليه بكل قوّتها، واستغلته لمصالحها، وأجرت فيه الأمور على هواها«.

إنّ الظروف التي آل إليها العالم الإسلامي من جراء الاستعمار وممارساته في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والضغط المتزايد فجر وعيا في صفوف العديد من المثقفين، تصدّرها العديد من المصلحين، »يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بها أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء«.

 

كان كل مصلح ينظر إلى الإصلاح من جانبه الخاص، ويدعو إلى التجديد والتغيير، في قطره حب ثقافته ومحيطه هو ما عرّضهم لتُهم عديدة، مثل الزندقة والإلحاد والثورة على الحكم، والعبث بالنظام والخروج عن التقاليد، وأمثال هؤلاء :محمد بن عبد الوهاب، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، ابن باديس ومحمد إقبال ومالك بن نبي، هؤلاء لهم الحق في أن نحيي سيرتهم، ونخلد ذكرهم، وندرس آثارهم، لأن أي نهضة لأي أمّة لها روادها وشروطها ومتغيراتها، فالشروط ملك الناس جميعا، أما المتغيرات فهي خاصة بالبيئة التي تعرف النهضة، والتجديد والإبداع في مجال الحضارة مرهون بالإطلاع على ما للغير في الماضي والحاضر من نهضات يسجلها التاريخ، ويحفظها الزمن، لتكون مصباحا ينير الدروب أمام الساعين إلى التجديد والتغيير في كل ما ينفع الإنسان، كانت هي عوامل قيام هذا البحث حول فكرة التجديد الحضاري عند فيلسوف الحضارة والمفكر الإصلاحي وشاعر النهضة "محمد إقبال".

لقد تعرض العالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية إلى العدوان المسلح من قبل أوروبا، وفشلها جعلها تتخذ سبلا أخرى تهدف إلى السيطرة على الشعوب الإسلامية بشكل يحقق النفوذ السياسي عليها، وفي أواخر القرن 19 وأوائل القرن20 استطاعت أوروبا أن تحتل كافة البلدان الإسلامية، التي شهدت »حملات التبشير والاستغلال والاستعمار«،ناهيك عن التخلف والضعف والانحطاط الذي كانت عليه من قبل، وهي ظواهر عمل الاستعمار على إبقائها بروح من الكراهية والحقد .

حرص الاستعمار على إقحام العديد من المفاهيم والتصورات الخاطئة في الإسلام، ليُجنّب المسلمين التمسك بدينهم في مبادئه الصحيحة السمحى، لأن فيه قوتهم ومصدر عزّتهم، فعمل »على إضعاف المسلمين، وزعـزعة ثقتهم في إسلامهم أولا وبالذات، حتى يفقدوا مصدر القوة، ثم يتمكن من تثبيت أقدامه في الأرض الإسلامية".

لقد نجح الاستعمار وهو يسعى إلى تحقيق أغراضه في استخدام بعض الحركات التي قامت بقبول سلطة المستعمر، وقيام العديد من المستشرقين بإظهار الخلافات وتأكيد النقائص الفكرية والمذهبية بين جماعات المسلمين وشعوبهم، مع تزييف الكثير من مبادئ الإسلام وتعاليمه، وانعكس ذلك بوضوح في ظهور أصوات المثقفين التي نادت باتباع الغرب فيما بلغه »من فكر طبيعي وإنتاج مادي، والابتعاد عن سبيل الأصالة والتميّز، وأبرز مثال على ذلك حركتا أحمد خان وميرزا غلام أحمد" ..

في مقابل التيار المسالم للاستعمار والداعي إلى قبوله، المؤيد للعيش معه والانغماس في ظروف حياته، برز تيار معادي حرص كل الحرص على محاربة الاستعمار، وفضح جرائمه البشعة في حق الشعوب والدين والوطن، تيار يدافع عن الإسلام ويكشف عن التزييف والتحريف، مؤمن برسالته، ملتزم بدعوته إلى ضرورة الإصلاح والتجديد، في إطار مبادئ وتعاليم الإسلام الصحيحة. فلم تقدر الدوائر الاستعمارية من الانفراد بالتوجيه في البلاد الإسلامية، وكان عدد من المفكرين والعلماء المصلحين الذين اضطلعوا بهذه المهمة الشاقة، تصدّرهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد إقبال، وعبد الحميد ابن باديس، وآخرون لعبوا أدواراً كبيرة في إرساء أسس الإصلاح والنهضة والتجديد، فشهد العالم الإسلامي نهضة إسلامية حقيقية في العصر الحديث.

إنّ الحركة الإصلاحية والنهضة الإسلامية التي برزت بقوة بفعل مجهود جمال الدين الأفغاني ومن جاء بعده، أفرزت اتجاها انتهج أسلوب مقاومة الاستعمار ومحاربته في جميع مظاهره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ودعا إلى الجمع بين الأصالة والإبداع في غير تعارض، أي الأصالة والتجديد في إطار المبادئ الإسلامية. فكانت مهمة الإستعمار صعبة رغم كثرة وتنوع الوسائل الإجرامية المستعملة، والأساليب المتبعة لتثبيت كيانه عسكريا وسياسيا وفكريا وثقافيا.

ومن الطبيعي أن يحارب الاستعمار كل حركة أو عمل فردي أو جماعي يسعى للنيل منه، فهو مقبل وباستمرار على زرع روح اليأس والوهن عند الشعوب المستعمرة، لكنه وجد مقاومة عنيفة من قبل تيار آمن أصحابه بالإسلام وبالرسالة الإسلامية، وتنكروا لجميع الأفكار التي تكرس الاستغلال وتقضي على الذات الإسلامية والتاريخ الإسلامي وتراث المسلمين، ورفضوا مساكنة العدو والعيش معه بعادات وتقاليد وقيّم دخيلة لا تنسجم مع ما آمنوا به، فتعرضت الصيحات المؤيدة للاستعمار لانتقادات حادة، فانتقدت حركة أحمد خان وانتقدت أساليب المستشرقين، وراح النقاد يصنعون المناهج والأساليب لشرح الإسلام ولتقوية المسلمين.

ونجد تلك الانتقادات والشروحات والمناهج في كتابات العديد من زعماء الإصلاح، مثل كتابات "جمال الدين الأفغاني" في "العروة الوثقى"، وكتاب"الرد على الدهرين"، وكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" "لمحمد إقبال"، وكتابات "محمد عبده" وغيره .

إنّ ظهور حركة الإصلاح الديني والاجتماعي ارتبط بأوضاع المسلمين في العصر الحديث، ولما كانت الأوضاع الاجتماعية والدينية والسياسية واحدة، شملت فكرة التجديد والنهضة سائر البلاد العربية والإسلامية، ومن الطبيعي أن البلاد المستعمرة يطمح مفكروها إلى التحرر من ربقة الاستعمار، فكان هذا الطموح خلف كافة الإبداعات في مجال الفكر والأدب، ووراء كل مشروع سياسي، والحديث عن الثورة، إلا أن النهضة أو الثورة أو التحرر كل هذا ارتبط بحالات عاطفية نحو هموم الواقع المعاش، فأنجبت الأزمة الشعور الطبيعي بالخطر، فتحرك الوعي وتحركت معه الدعوة إلى التجديد والإصلاح.

لقد انطلق الفكر الإصلاحي الديني والاجتماعي مع "محمد بن عبد الوهاب" في القرن 18م، الذي تأثر بفكر كل من "الحنابلة" و"ابن تيميه" و"ابن القيم" و"مدرسة السلف"، تأسست الحركة الوهابية وانتشرت في المغرب، وقامت على الدعوة إلى الرجوع بالإسلام إلى عهده الأول القائم على التوحيد، مع ضرورة تخليص تعاليم الإسلام من الشوائب التي أدت إلى تدهور أوضاع المسلمين، فسيطر على كيانهم الركود والجمود، فكانوا عرضة للاستعمار الذي كان يعيش حالة يسودها التقدم العلمي والتقني والاستقرار الاجتماعي..

ظهر في العراق كل من "شهاب الدين محمود المتوفى سنة 1852م" و"محمود شكري المتوفى سنة 1944م"، وفي تونس "محمد علي التونسي المتوفى سنة 1859م"، و"رفاعة الطهطاوي المتوفى سنة 1873م"، وظهرت البهائية في إيران والمهدية في السودان التي دعت إلى الجهاد. وكل هذه الحركات أجمعت على العودة بالدين إلى عهده الأول، وحثّت المسلمين على أن يشربوا من النبع الصافي لهذا الدين، لتعود لهم حريتهم وكرامتهم ويسترجعون مجدهم السابق في الحضارة والعلم.

يكاد يتفق الباحثون في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث أن أول من أيقض العالم الإسلامي من سباته بحق هو جمال الدين الأفغاني، وزرع في أبنائه روح الثورة، ودعا إلى إصلاح النفوس والعقول، وحارب الجهل والخرافات والدجل، استطاع بشخصيته القوية أن يؤثر في نفوس العديد من الشغوفين بالتجديد والتغيير في البلاد الإسلامية، وعلى رأسهم "محمد عبده" و"البارودي" و"سعد زغلول" وغيره .

كان "جمال الدين الأفغاني" يدعو إلى الوحدة والتحرر، وينبذ الظلم والاستكانة للاستعمار، اختلف الأفغاني مع بعض المصلحين الذين سبقوه وآخرين عاصروه في منطلق الإصلاح والتجديد، أهي العقيدة أم الحكم والإدارة أم النفس والعقل؟ »لئن كان محمد عبد الوهاب يرمي لإصلاح العقيدة، ومدحت باشا يرمي إلى إصلاح الحكومة والإدارة، فالسيد جمال الدين الأفغاني يرمي إلى إصلاح العقول والنفوس أولا إصلاح الحكومة ثانيا وربط ذلك بالدين".

بعد وفاة "جمال الدين الأفغاني سنة 1897م"، جاء دور تلميذه "محمد عبده" الذي حمل مشعل الإصلاح والتغيير، واتخذ لنفسه طريق أستاذه، إذ شغله حال التربية والتعليم فثار في وجه الاتباع والتقليد، ودعا إلى تحرير الفكر والعلم والتربية والتعليم من ذلك، كما دعا إلى إصلاح اللّغة العربية مما هي عليه من وهن وضعف وعدم القدرة على الاستيعاب والتجديد ومواكبة التطور الحاصل في العالم.

صار للشيخ "محمد عبده" أتباع وتلاميذ يرددون ما يقول ويدافعون عن منهجه في الإصلاح وعن الغايات التي يصبوا إليها، استطاع "محمد عبده" أن يفهم الإسلام، ويعي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة في العالم الإسلامي، ويجمع بين الجديد والقديم -الأصالة والمعاصرة- فكتابه رسالة التوحيد وكتاباته في "العروة الوثقى" التي أسسها مع أستاذه "جمال الدين الأفغاني" تكشف عن مستوى الإصلاح ودرجة التجديد اللّذين بلغهما الشيخ "محمد عبده"، جمع بين النشاط الديني والسياسي وبين الحرية والقدر، واعتبر العقل فضلا إلهيا لا تعارض بينه وبين الدين.

لم يتفق "الشيخ محمد عبده" مع معاصريه في العديد من المسائل، وكانت له مواقف رائدة، فهو يرى أن علم الكلام ليس وسيلة كافية للتأسيس للعقيدة والدفاع عنها، فمنهج القرآن عنده هو الطريق الأصلح لعرض مبادئ وتعاليم الإسلام، لأنه يقوم على الفطرة ويراعي الإقناع كما دعا إلى التحرر من الشيعة المذهبية، وينبذ التعصب ويقر بالاجتهاد لمن هو مؤهل لذلك، إن السبيل الذي سلكه ليس إثارة الحماس وشحن العواطف والدفع إلى الاندفاع والمغالبة، بل هو طريق يهتم بالتربية والتعليم والتثقيف والتوجيه، وكان يدعوا إلى النهضة ومقاومة الاستعمار، توفي رحمه الله "سنة 1905"م.

 

أخذ "عبد الرحمن الكواكبي" هو الآخر على عاتقه كغيره من المصلحين مهمة الإصلاح التي شغلت معاصريه، هذه المهمة التي دعت إليها ظاهرة الضعف والتخلف والجمود التي شهدها العالم الإسلامي، لذا وجب تحديد المرض وتشخيصه والبحث عن طرق وأساليب العلاج، هو ما عمل لأجله "عبد الرحمان الكواكبي"، في كتابه "أم القرى" انتقد السياسات والحكومات، كما انتقد الأمة في كتابيه "أم القرى" و"طبائع الاستبداد".

إن ظاهرة الضعف في العالم العربي والإسلامي كما يراها "عبد الرحمن الكواكبي" كامنة في الدين، مثل التحجر والإعراض عن العمل، وفي السياسة كغياب الحرية في الفعل والرأي، وفي الأخلاق والاجتماع كالجهل و البؤس والانحلال الخلقي، لقد دعا لمحاربة الاستبداد والطغيان وإصلاح الراعي والرعية، وتخليص الإسلام من البدع والخرافات، دعا إلى الثورة والتغيير، وضرورة العودة إلى مشارب الإسلام الصافية، فالنهضة في نظره لا تقوم بدون ذلك، توفي رحمه الله "سنة 1902م".

من النماذج الأصلية التي كان لها وزن كبير في الفعل النهضوي الإصلاحي "عبد الحميد بن باديس" الذي يمثل رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر خاصة، وفي العالم العربي والإسلامي بوجه عام، تصدى للاستعمار الفرنسي بالمواجهة في أكثر من جبهة، عوّل كثيرا على تربية النشء وإعداده وتثقيفه، ليشرب من النبع الصافي للإسلام من خلال الكتاب والسنة، ومما تركه السلف الصالح، فصنع جيلا كانت له الريادة في المحافظة على الأصالة في الأمة الجزائرية، لتثور ضد الاستعمار وعملائه، ودعا إلى النهضة التي تقوم على التربية والعلم، مع ضرورة إصلاح التعليم »ومحاربة الجمود والأوضاع الطرقية، وبهذا المنهج يمكن ترقية المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائريته التي بها يكون عضوا حيّا عاملا في خلق العمران البشري، وحدود عربيته التي تمنحه مع الجزائرية والإسلامية الشخصية التاريخية الثقافية المميّزة" .

آمن "عبد الحميد ابن باديس" إيمانا قويا بأن الإصلاح الصحيح يبدأ بالتربية الصالحة، التي تصنع إنسانا صالحا يأخذ على عاتقه مهمة المحافظة على ما أنجزه الأولون، ويعمل على الوصول إلى الإبداع، كما أن الإصلاح عملية تقتضي التغيير في داخل الفرد، وينعكس ذلك على السلوك، ثم تظهر في العلاقات وسائر النشاطات الاجتماعية، فتغير المجتمع نحو الأفضل مرهون بتغير فكر وسلوك الفرد نحو الأفضل في صلاح النفوس، والأعمال شرط إصلاح الأوضاع داخل المجتمع، »على أن يتجه الإصلاح إلى إصلاح العقائد أولا وإصلاح الأخلاق ثانيا، لتقويم النفس وبناء الفضائل، إذا أن الباطن أساس الظاهر، وأن منطلق النهضة هو الإسلام الذاتي الذي يقوم على الفكر والنظر والإدراك المميز بين الحسن والقبيح والحق والباطل، وأن الطريق إلى الإسلام الذاتي هو التعليم، تعليم الأفراد والجماعات، البنيـن والبنـات، الرجـال والنـسـاء" .

تأثر "عبد الحميد ابن باديس" بزعماء الإصلاح والنهضة في العصر الحديث، مثل "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده"، وتأثر بالأوضاع السياسية والتاريخية للجزائر، أسس جمعية العلماء المسلمين التي عملت على تمييز الهوية الجزائرية عن الذات الفرنسية أو الذات المفرنسة، ورفع شعار التغيير الذي تدعو إليه الآية الكريمة، ?إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم?.

ورفض الانغلاق والتقوقع في الذات من جهة، والانغماس في الثقافة الفرنسية من جهة ثانية، وسارت حركة الإصلاح والنهضة في الجزائر في هذا الاتجاه، الذي كان له دور كبير في بعث الروح الوطنية، والشعور بالمسؤولية، ورفع التحدي أمام القوة الاستعمارية، فكانت المعركة وتحقق الاستقلال.

إنّ الدعوة إلى الإصلاح مرتبطة بالظروف التاريخية السياسية وغيرها، فمحاولة "مصطفى كمال أتاتورك" فصل الدين عن الدولة وعن السياسة في "سنة 1924م"، وإلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا، عرّض العالم العربي و الإسلامي إلى تطاحن فكري بين التيار المحافظ وتيار التجديد.

إنّ التيار المحافظ بزعامة "محمد رشيد رضا المتوفى سنة 1953م"، و"شكيب أرسلان المتوفى سنة 1946م"، و"حسن البنا المتوفى سنة 1949م"، دعا إلى تجاوز التقليد وإلى الجمع بين الدين والعلوم الطبيعية، وإلى تعلم اللّغات الأجنبية، وإصلاح نظم التربية والتعليم بما ينسجم مع القيّم والتقاليد الموروثة، لأن الاستسلام للحضارة الغربية لا يجلب سوى الشقاء والاضطراب، وضياع الذات والتمكين للاستعمار. أما تيار التجديد الذي هو نتيجة فعل التقدم العلمي والفكري والتكنولوجي والاقتصادي، متمثلا في آراء عديدة لدعاة الكثير من المفكرين أمثال "قاسم أمين المتوفى سنة 1908م"، الذي دعا إلى بناء المجتمعات العربية الإسلامية على علوم العصور ونتائجها، وإلى تحرير الأفراد من الجهل خاصة المرأة، و"أحمد لطفي السيد" الذي دعا إلى عزل الدين عن السياسة، وقال باستحالة إقامة قومية على مبادئ الإسلام، و"علي عبد الرازق المتوفى سنة 1966م"، الذي طالب بفصل الدين عن الدولة في كتابه »الإسلام وأصول الحكم«، وأشاد بحركة "مصطفى كمال أتاتورك"، ثم جاء الأديب المفكر "طه حسين" الذي فُتن بالمدنية الغربية ودعا إليها، واتسع نطاق الحركة الإصلاحية ليشمل المغرب العربي برمته، وعند "عبد الحميد ابن باديس في الجزائر المتوفى سنة19400م" و"عند الفاسي في المغرب المتوفى سنة 1972 م".

إنّ الطابع الشمولي الذي اتسمت به الحركة الإصلاحية الحديثة في العالم الإسلامي، جعلها تتخطى حدود الجزائر أو مصر أو الهند، لتشمل العالم الإسلامي أجمع، خاصة وأن المشرق العربي ومغربه كان تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي، الذي حمل معه معالم حضارية تتضمن عناصر هوية المستعمر ومقوّماتها، وأساليبه الرامية إلى طمس معالم الشخصية الإسلامية والعربية من خلال حملات تبشيرية وسياسية وثقافية، تصدى لها زعماء الإصلاح في الغرب والشرق، فكان لكل من "مالك بن نبي" و"محمد إقبال" دور ريادي في رفع التحدي، والالتزام بالرسالة، والقيام بالمسؤولية في التأسيس للإصلاح والتجديد والنهضة والثورة، لأجل بناء جيل قويّ بالإيمان والأخلاق والعلم، وكل منهما تأثر بالفكر الإصلاحي النهضوي الحديث في العالم العربي والإسلامي، فألمّ به واستوعبه وقال فيه رأيه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين