الحركة الإصلاحية الحديثة في العالم الإسلامي وموقف محمد إقبال منها -2-

 

من كبار المصلحين في المشرق "محمد إقبال المتوفى سنة 1938م"، الذي تمسك بقوة بفكرة العودة إلى الذات وإعادة بناء التفكير الديني، وقام بدراسة تحليلية نقدية تقييمية للحركات الإصلاحية الحديثة التي شهدها العالم الإسلامي، فيعتبر "ابن تيميه" من كبار المصلحين الذين فتحوا باب الاجتهاد، كما قارن بين وضع المسلمين ووضع أوروبا الديني البروستانتي، كما درس الإصلاح في العالم العربي والإسلامي وفي أوروبا، واستنتج أن معظم المحاولات الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي لم تبلغ درجة النظرية ولم تصل إلى مستوى النسق الفلسفي ذي الطابع الشمولي، فسجل غياب نظرية فلسفية وعلمية للنهضة وللتاريخ وللحضارة، هذا ما دفعه إلى تبني مشروع التجديد والإصلاح، وحرص على تطبيقه، وألّف لهذا الغرض كتابا بعنوان »تجديد التفكير الديني في الإسلام«، وقال في منهجه الإصلاحي: »إني حاولت أن أعيد بناء الفلسفة الإسلامية معتمدا على التراث الفلسفي في الإسلام وعلى أحدث التطورات في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية" .

انتقد "محمد إقبال" دعاة التجديد في الشرق، إذ يقول فيهم: »إنني يائس من زعماء التجديد في الشرق، فقد حضروا في نادي الشرق بأكواب فارغة، وبصناعة مزجاة في الفكر والعلم، إن البحث عن برق جديد في هذا السحاب عبث وإضاعة للوقت، فقد تجرد هذا السحاب الجهام عن البرق القديم، فضلل عن البرق الجديد".

انتقد إقبال بشدة ما دعا إليه "مصطفى كمال أتاتورك"، معتبراً إياه غير مفيد للعالم الإسلامي، وكان مفيدا لأوروبا من قبل، ويقول في هذا الموضوع: »إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي أن نقرر أيضا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللّحظات في تاريخه، فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال... أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يتجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح، إذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتـيّـة" .

لم يكن فقط في الجزائر "عبد الحميد ابن باديس" حمل راية الإصلاح، ودعا إلى التجديد، بل ترك جيلا التزم بالرسالة والمسؤولية، ولازال هذا الجيل يناضل ويؤثر، ولاشك أن مفكرا مثل "مالك بن نبي" قد تأثر بالفكر الإصلاحي في الجزائر، وفي كل قطر من أقطار العالم الإسلامي عامة والعالم العربي خاصة، وأن الظروف التي شهدتها حياته هي واحدة ومتماثلة إلى حد بعيد لدى الأمّـة العربية والإسلامية، وهي ظروف مليئة بالتخلف والانعزال.

اهتم "مالك بن نبي" بشدة بقضايا أمته، والصعوبات التي تواجهها في سبيل النهوض بها من جديد، فدفعته تلك الظروف إلى تحليل الوقائع وتقصى التاريخ، وبمنهج علمي وبرؤية علمية أملاها عليه تخصصه العلمي والتقني أبدى من خلالها آراءه ومواقفه في كتابات عديدة، وضعها جميعا في إطار سلسلة مشكلات الحضارة .

ما شغل "مالك بن نبي" من همّ فكري وثقافي وحضاري في حياة الأمة العربية والإسلامية هو ما شغل "محمد إقبال" قبله، ومن الموضوعات التي شغلت بال هذا الأخير الفكر الإصلاحي الديني والاجتماعي، الذي شهده العالم العربي والإسلامي، والمصائب التي حلّت به، فدرسه وحلله، ويرى أن الدعوة إلى النهضة والإصلاح والتجديد التي شغلت بال المصلحين المحدثين تعالج موضوعات كثيرة، يقول في ذلك "مالك بن نبي" مؤيدا "محمد إقبال"، قضايا مثل »الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم، واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي، بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون" .

إنّ الرأي الشخصي أو المزاج أو المهنة أو العرق حسب "محمد إقبال" و"مالك بن نبي" معطيات لا تسمح بإقامة الموضوعية في التحليل والتصور والتفسير، فكل مصلح وصف الوضع تبعا لمعطى ذاتي معين، »فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني: أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ...إلخ على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه " .

 و"قبل مالك بن نبي" كان"محمد إقبال" حريصا على تحديد الوضعيات وطرح المشكلات بدقة، وتحليل الوقائع باستخدام المنهج العلمي، والصرامة المنطقية حينا، والمنهج الفلسفي والطريق الصوفي والنظرة الفلسفية والروحية في حين أخرى كما ركز على الحضارة وقدّم نظريته فيها، مستخدما أوضاع العالم المتخلف بصفة عامة وظروف العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، عُرف بفكر متميّز، له خصوصياته المنهجية والعلمية والفلسفية، ونجح أيّما نجاح في تشخيص الداء، وتحديد الدواء، لشعوب مريضة بالتخلف والضياع، ولا تجد سوى الحضارة والتجديد الحضاري لتتجاوز محنتها . شهد العالم الإسلامي في مرحلة أوجه حضارة زاهية، تميزت بازدهار في الأخلاق والعلوم والفنون والصنائع »حتى كاد يكون سيد العام في هذا كله فخلقه في حربه وسلمه قوي متين، وعلمه قد استوعب ما عند الأمم الأخرى من هند وفرس ويونان وروم وهضمه كله ومزجه مزجا جميلا وبنى عليه وابتكر فيه وحضارته كانت خير الحضارات. تزدهر مدنه كبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة بشتى ألوان الحضارة من علم وفن وعمارة وتجارة وصناعة" ثم بدأت تدب فيه أساليب الانحلال والفساد في الدين والأخلاق، وحلّت به الكوارث فأخذ يضعف شيئا فشيئا في الداخل وجاءت الحروب الصليبية فأنهكت قواه وبددت ثرواته وأمواله وازدادت وضعيته فساد وضعفا باكتساح المغول للجزء الأكبر منه ولم يشهد سوى الفتك والتخريب والدمار حيث تحطمت حضارة بغداد » وكانت زينة العالم وبهجة الدنيا"  ثم جاءت الفتوحات العثمانية وازداد تدهور العالم الإسلامي لانشغال الفاتحين بالفتح لا ببناء الحضارة.

في هذه المرحلة فقد الدين جوهره في حياة الناس والحكام، وصار أعمالاً ظاهرية وسادت الخرافات والأوهام، فصار المجتمع الإسلامي محطما في دينه وفي دنياه. في وقت كانت أوروبا تشهد نهضة فكرية وعلمية متميزة، مبنية على العلوم والحرية، وشهدت هذه النهضة تقدما كبيرا في الصناعات، فتطورت شعوب أوروبا وأنشأت لنفسها حضارة جديدة أساسها التقدم العلمي والتقني والحرية، فكثرت الاختراعات في وسائل العمل المختلفة في كافة القطاعات، صناعة كانت أو تجارة أو زراعة أو الاتصال أو غيرها، فتغيرت المفاهيم والقيّم وظروف الحياة بما ينسجم مع المرحلة الجديدة، واتجهت أوربا لفرض هيمنتها إلى احتلال البلدان المتخلفة التي لم يكن في حوزتها أسباب التقدم وعوامل الدفاع والتحدي، فسقطت أقطار المجتمع الإسلامي في يد الاستعمار الأوربي الذي راح يطمس شخصية وهوية المجتمع الإسلامي وينهب خيراته ويستغل جميع ثرواته، وازداد من جراء ذلك المجتمع الإسلامي تخلفا وانحطاطا في فكره ودينه وأخلاقه وفي جميع مجالات حياته.

وطبيعي أنّ ظروف الانحطاط والتخلف وحالة الضعف التي آل إليها العالم الإسلامي بفعل ظروف تاريخية تراكمت وبفعل الاستعمار البغيض أيقظت عقول بعض المفكرين وحركت نفوسهم لتأمل الأخطار التي أحاطت بهم فصاروا يفكرون بجدية وبعمق في أسباب ودوافع الضعف والانحطاط والانحلال، ويبحثون عن وسائل وسبل العلاج في مجتمع صار في أمسّ الحاجة إلى ذلك، فظهرت فكرة الإصلاح وظهر معها العديد من المصلحين اختلفوا في سبيل الإصلاح والتجديد و»دعوا إلى الإصلاح في أقطارهم على حسب بيئتهم وثقافتهم ومزاجهم«،" منهم من دعا إلى إصلاح العقيدة ومنهم من  نادا بإصلاح مناهج التربية والتعليم ومنهم من قال بضرورة إصلاح نظام الحكم ومنهم من دعا إلى ضرورة تنظيم الحياة على قيّم وقواعد الحضارة الغربية، وبعضهم رفض ذلك ونادى بتجديد الفكر بالاقتباس من النهضة الأروبية ما تقرّه وتقبله روح العقيدة الإسلامية. وحركة الإصلاح لم يشهدها قطر إسلامي واحد أو بعض الأقطار بل شهدتها كافة الأقطار الإسلامية، لأن الاستعمار واحد، وظروف التخلف والانحطاط واحدة في المشرق العربي وفي مغربه، في الهند وباكستان وغيرهما.

شهدت القارة الهندية في القرن التاسع عشر من الناحية الفكرية والثقافية والتاريخية صراعا أسبابه فكرية وسياسية على غرار ما كان قائما في البلدان الإسلامية الأخرى في هذه الفترة. هذا الصراع كان من اتجاهين. اتجاه اختار الحياة الإسلامية على أساس العقيدة والإيمان والشرع وتيار آخر اختار الحياة الغربية على أساس القوة والتقدم العلمي والتكنولوجي. كان هذا في وقت دخل الاستعمار الإنجليزي الهند واستولى على أراضيها وشعوبها وراح ينهب خيراتها وثرواتها البشرية والطبيعية، ودخلت معه منتجات الحضارة الغربية الفكرية والمادية والروحية وكان شعب الهند ضعيفا مهزوما مغلوبا على أمره، كبقية الشعوب الإسلامية الأخرى، نجد في الهند من المفكرين من يتمسك بثقافته وقيّمه ودينه وأخلاقه التي وجد مجتمعه عليها، ويوجد من يغريه التجديد ويؤثر فيه وتغلبه الحضارة وتشده مغرياتها العلمية والتكنولوجية وتجذبه منتجاتها المادية والسياسية، فكان الصراع حادا بين التيار المحافظ وتيار التجديد في الهند، وظهر تيار آخر يجمع بين التيارين.

في ظل الظروف الصعبة والخطيرة التي كانت الهند يعيشها في هذه الفترة نتيجة إرث كبير من الهموم والمشاكل والصعوبات ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، والاستعمار الانجليزي بأساليبه البغيضة التي تستهدف طمس الشخصية الإسلامية لضمان استقراره واستغلال ثروات وخيرات الشعب المستعمر، والهزيمة والشعور بالعار والمذلة والضعف أمام حضارة غربية غازية قويّة جدا، وقام فريق من المصلحين يدعوا إلى التمسك بالدين لحل المشاكل وتجاوز المصاعب وضمان الاستقرار للهند وسكانها، هذا الفريق تمثله مدرسة رجال الدين وهي مدرسة دينية أصحابها كثيرون. وبالمقابل قام فريق آخر يدعوا إلى الأخـذ بحـلـول الحضـارة الغـربـيـة في الفكر والأخلاق والحياة عامة. وصاحب المدرسة الغربية في الإصلاح والتجديد هو "أحمد خان" "1817-1898"، وظهور المدرسة الغربية في الهند ودعوتها إلى الانغماس في الحضارة الغربية وتحويل منتجاتها وسائر منافعها للمسلمين في الهند لم يكن من صنع الصدفة بل يعود في أساسه إلى عوامل تاريخية واجتماعية وثقافية كثيرة، جعلت علماء الإسلام لا يقوون على مجابهة قوة الغرب التي دهمتهم، فالضعف الفكري والديني والتخلف الاجتماعي وهجرة الإنجليز إلى الهند وتأثيرهم في المسلمين ونشر المسيحية في أوساط الشعب الهندي، وظروف علماء الإسلام وثقافتهم القديمة كل هذا جعل بعض المسلمين في الهند تغمرهم الدهشة ويغمرهم الانبهار فراحوا يجرون وراء الغرب وثقافته ومنتجات حضارته المعاصرة ويقلدونه في الفكر ونمط العيش، فالمغلوب مولع بتقليد الغالب واتباعه على حدّ تعبير "ابن خلدون". وراحوا يدعون إلى ذلك واعتبروا الأخلاق المسيحية والأفكار الأوروبية تجد سندا لها في الإسلام وليس بين الإسلام وتلك الأخلاق والأفكار والحضارة الأوروبية تعارض واختلاف في الجوهر الأصل وفي مضمون الروح الإسلامية والروح المسيحية.

من دعاة الإصلاح في الهند الذين قالوا بإمكانية التفاهم مع الانجليز والانتفاع بعلومهم وحضارتهم لخدمة الأمة الإسلامية حتى إذا صارت بيدها عوامل التفتح الحضاري وأسباب الازدهار المدني أمكنها الحصول على حقوقها لأن الأمة لا تنال هذه الحقوق وهي تعاني الجهل والغفلة والتخلف. إنه »أول مجدد يعتد به في تاريخ الإسلام بالهند هو سيد أحمد خان البهادوري"  الذي أعلن الحرب على  الجهل بإصلاح نظام التربية في الهند، ولم يكن من أنصار مؤيدي الثورة الهندية على الانجليز لأن في نظره لا ينفع استقلال مع جهالة ولا تنفع حرية مع التخلف، كما اتهم بإفساد العقول والدين والوطنية. لكنه عقد » العزم على إصلاح حال المسلمين في الهند عقلا ودينا ولغة وخلقا واجتماعا سواء في ذلك خاصتهم وعامتهم، مصمم على أن يغزوا الجهل والجمود بكل ما يستطيع من قوّة وأن  يحمل المسلمين بكل الوسائل على أن يتقبلوا المدنية الحديثة في علومها وفنونها وصناعاتها قبولا حسنا، ويستخدموها في ترقية حياتهم وأن يُبذل الجهد في التوفيق بين الإسلام والمدنية ، فالإسلام في جوهره وأصله معقول واسع الصدر لأحكام العقل غير مناهض لما يثبته العلم فإذا نُقِّي مما لحقه وليس منه أمكن أن يقبل المسلمون على العلم الحديث من غير حرج".

ومن جهة أخرى ولمـا راح السيـد "أحمـد خـان" يـفسـر القرآن معتبرا مقياس الحقيقة الدينية هو تطابقها مع مقاييس العقل الطبيعي، بحيث "يؤول الأحداث المعجزة أو الخارقة تأويلا يـتـفـق مع هذه المقاييس وبعبارة أخرى يفسرها تفسيرا طبيعيا. أما المصادر الأخرى للعقائد أو الشعائر الدينية كالأحاديث والإجماع فقد رفضها جميعا وجعل من النص القرآني لا سيما السور المكية منه أساسا لمذهب خلقي روحي يتفق كل الاتفاق مع الطبيعة "nature"، من هنا نشأ اسم "النيتشرية" الذي أطلق على أتباعه. وعنده أن كل اعتقاد أو فعل يمكن التدليل على أنه لا يتفق مع هذا المذهب جدير بالرفض كالحرب والعبودية واستعباد الرجل للمرأة" .

 ويقول الأستاذ محمد البهي في نقد مذهب "السيد أحمد خان": »فحركة السيد أحمد خان كانت تقوم على الافتتان بالعلم الطبيعي والحضارة الغربية المادية كما يفتتن في عصرنا الحاضر بعض المفكرين بما يسمى "العلم" science والمركبات الحضارية التي قامت عليه، والافتتان بالعلم الطبيعي كما يقال يؤدي إلى خفة وزن القيّم الروحية والمثالية  وهي القيّم التي تقوم عليها رسالة الأديان السماوية التي يمثلها الإسلام أوضح تمثيل، وقد يصير الافتتان بهذا العلم الطبيعي إلى إنكار كل قيمة أخرى مما لا يشاهد في الطبيعة ويدرك بالحس الإنساني، ومن هنا ربط السيد جمال الدين الأفغاني بين إلحاد السيد أحمد خان ومذهبه الدهري أو الطبيعي مع بقاء انتسابه إلى الإسلام ولغته بالإلحاد رغم ما كان يكرره السيد أحمد خان من القول بأنه يدافع عن الإسلام، وأنه ينبغي أن يوجد طريقا للمسلم المعاصر: يوفق فيه بين إسلامه وتقبله الحياة العصرية التي قامت إثر نهضة العلم الطبيعي" .

إنّ هذا الفكر التحرري في الهند والذي نادى به "السيد أحمد خان" لم يكن يمثله بمفرده بل دعا إليـه العديـد من المفكـرين منهم "السيد أمير علي صاحب كتاب "روح الإسلام" المتوفى سنة 1928" فهو مصلح »عملي من جنس "السيد أحمــد" بـل ربـما كـان أكثر منه تقديرا للحياة الواقعية ومواجهتها" فهو يرى ما يراه "أحمد خان" في اعتبار التربية وسيلة صحيحة للإصلاح والتجديد في حياة الأمة الإسلامية التي لا تعرف في مناهج ووسائل التربية والتعليم سوى أسباب الركود الفكري والثقافي والجمود العلمي بعيدا عن النهضة وعما يؤول إليها، لكن لا يتفق مع" السيد أحمد خان " في عدم انغماس المسلمين في الحياة السياسية، فالتربية وحدها ليست كافية، بل » لا بد بجانبها من علاج الشؤون السياسية للمسلمين في الهند، ووضع خطة لها إزاء خطة الهندوكيين وإلاّ ضاع المسلمون بجانب الهندوكيين، لابد من وضع غرض سياسي وتنظيم خطة وتحديد مطالب ورسم طرق السير«،"  واستطاع "السيد أمير علي" أن يفهم الدين الإسلامي في بعده التاريخي فهما عميقا فعنده أن  المشاكل التي يعانيها المسلمون هي نتائج طبيعية للفساد الذي يحل بالحضارات، والمسؤولية عنده تقع على عاتق معتنقي الإسلام لا على الإسلام ذاته وهي فكرة ودعوة "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" قبله كما دعا إلى استغلال واستثمار كل »الأساليب الشرعية الخاصة بالاجتهاد والتي قامت عليها أمجاد صدر الإسلام" .

في بلاد الهند وفي خضم بحر متلاطم من التيارات الفكرية والنزاعات الدينية والمشاكل الاجتماعية والسياسية، هذا تيار ديني متمسك بتعاليم الإسلام نصاً وروحاً ولا يحيد عنها، وينعت كل من يسالم ويمالئ الاستعمار أو ينحرف عن الفكر الديني السائد بالانحراف ويتهمه بإفساد العقيدة، وتيار آخر يدعو إلى الأخذ بالحضارة الغربية بما فيها من أفكار ومناهج ووسائل وأدوات متطورة تنفع حياة المسلميـن وتخدم مصلحتهم، وتيار آخر يسعى إلى المصالحة والتوفيق بين الإسلام والمدنية الغربية، إلى جانب هذه التيارات الفكرية قامت الحركة التحررية بدورها بمحاولة طرد المحتل وإقامة الحكم الذاتي. وأكدت أن المعاهد ودور العلم ومراكز البحوث ليست مجالا لتلقي العلم والمعرفة فحسب بل ينبغي لها أن تكون مراكز للكفاح والنضال ضد المحتل الإنجليزي، وأكدت على إمكـانـيـة قيام فكر جديد يجمع بين الجديد والقديم من خلال تطوير مناهج التعليم لأنها قابلة للتطور، أما الدين فهو حقيقة خالدة والعلم متطور والإسلام دين البشرية جمعاء، واستطاعت الحركة الوطنية السياسية أن تسيطر على شعوب الهند أكثر من أي تيار آخر ودفعت الشباب إلى التعمق في الدراسات الغـربـيـة وفي فلسفات الغـرب وكان ذلـك داخــل الهند وخارجها، فكانت حقاً ثورة فكرية وسياسية على الأوضاع في داخل الهند وخارجها » وكانت أهم محاولة – ولعلها المحاولة الوحيدة - لتأويل الإسلام تأويلا فلسفيا معاصرا هي تلك التي قام بها مفكر هندي آخر وشاعر ذو حسن مرهف وعالم واسع الإطلاع على الفلسفة وهو محمد إقبال".

إنّ الفكر الإصلاحي التجديدي عند "محمد إقبال" يقوم على محاولته إعادة بناء الفكر والحياة الاجتماعية والإسلامية، غاية هذا الفكر تمكين الفرد وذاته من السيطرة على الحياة الروحية وعلى الطبيعة والواقع وإدراك حقيقة أصــل وجوده، وهو الله خالق كل شيء. كتب "محمد إقبال" "ست محاضرات" تمثل إنتاجه الفكري في الإصلاح والتجديد عنونها بعنوان ''تجديد التفكير الديني في الإسلام'' وفيها عرض فلسفته في الإصلاح والتجديد.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين