محاكم التفتيش هل يمكن أن تعود؟

 

إن دراسة موضوع هذه المحاكم تعدُّ مسألة مهمة وملحة في أيامنا هذه. فإذا كان من المستحيل إعادة صياغة الماضي إلا أنه من الممكن تقويم مسار الحاضر وبناء المستقبل في ضوء التجربة التاريخية. ومحاكم التفتيش تشكل تجربة غنية ينبغي الإفادة منها في معالجة مشاكل مماثلة تطل برأسها في هذا المجتمع أو ذاك، من عالمنا المعاصر.

عرفت أوربا محاكم التفتيش قبل ظهورها في إسبانيا، فقد أسس البابا جريجوري التاسع عام 1231 ما عرف باسم «محكمة التفتيش البابوية» لملاحقة الهراطقة والسحرة والمشعوذين وغيرهم. أما محكمة التفتيش الإسبانية فقد ظهرت متأخرة ولتحقيق أهداف مختلفة نسبيًا، حيث تأسست بقرار من البابا سيكستيوس الرابع عام 1478 بناء على طلب من ملكي إسبانيا آنذاك وهما: فرديناند (ت1514) وزوجته الملكة إيزابيلا (ت1504)، ومنح القرار الملكين حق تعيين المفتشين و عزلهم .

وظهرت أول محكمة في إشبيلية عام 1480م ، ثم ظهرت المحاكم تباعا في عدد من المدن الإسبانية حتى بلغ عددها أربع عشرة محكمة .

 وفي عام 1483 م صادق البابا نفسه على قرار ملكي إسبانيا بتعيين الكاردينال توماس تروكيمادا مفتشًا عامًا للمحكمة الإسبانية.

ويُجمع الباحثون على أن ملكي إسبانيا رغبا في استخدام محكمة التفتيش أداة لتحقيق جملة من الأهداف أبرزها :

1 - تحقيق الوحدة الدينية في إسبانيا بحيث لا يعيش على أرضها سوى المسيحية «الكاثوليكية» تحديدًا. وهذا يقتضي التخلص من جميع الأديان و المذاهب الموجودة فيها، ولا سيما اليهودية و الإسلام والبروتستانتية إما بتنصير أتباعها أو بطردهم خارج إسبانيا.

2 - تحقيق الوحدة السياسية في إسبانيا لارتباطها الوثيق بالوحدة الدينية، فمن يُشك في ولائه لإسبانيا لا ثقة بانتمائه إلى الكاثوليكية، وهذا يقتضي قطع الصلة بين اليهود و المسلمين وغيرهما وبين تراثهما وتاريخهما أو طردهما من البلاد، وكانت محكمة التفتيش الأداة الرئيسة لتحقيق هذا الهدف.

3 - توفير الموارد المالية للدولة الإسبانية، حيث كانت تدرك ما ستجلبه محكمة التفتيش لها من أموال طائلة من خلال عمليات المصادرة و الابتزاز... التي كان يتعرض لها ضحاياها ، ولاسيما أن هذه الدولة كانت بحاجة ماسة إلى الأموال لتغطية نفقات حربها ضد العرب المسلمين في غرناطة.

سمات وقوانين

بالرغم من التشابه بين محكمة التفتيش الإسبانية وما سبقها أو عاصرها من محاكم التفتيش الأوربية، فإنها انفردت بسمات خاصة منها: الاهتمام الرئيس للمحكمة الإسبانية انصبَّ - كما أشرنا- على مطاردة اليهود والمسلمين والبروتستانت، أما المحاكم الأخرى فقد كانت تلاحق الهراطقة والسحرة و العلماء الأحرار. وكانت محكمة التفتيش الإسبانية تحت قيادة ملوك إسبانيا وحمايتهم، بحيث لم يكن للبابا عليها سوى سلطة اسمية. كما اختلط الدين بالسياسة والاقتصاد في نشاط هذه المحكمة، بل لم يتورع ملوك إسبانيا في استخدامها لتصفية أعدائهم ومعارضيهم من رجال السياسة و الكنيسة داخل المملكة الإسبانية، ولاسيما أن الاتهام بالهرطقة أو الكفر غدا «موضة» أو «ورقة» في الصراعات السياسية .

أما قوانين هذه المحكمة والإجراءات التي كانت تتخذها فنذكر منها مثلاً:

1- «أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته، ومن الأفضل أن يحكم على مائة بريء من أن ينجو من العقاب مذنب واحد».

2- تكتفي المحكمة بشهادة واحد أو اثنين من المخبرين السريين لتوجيه تهمة الهرطقة إلى أي إنسان (حتى ولو كان الشاهد من أصحاب السوابق).

3- تظل أسماء المخبرين سرية، ويتقاضون مكافآت مادية (من أموال ضحاياهم) وروحية (حيث وعدتهم الكنيسة بدخول الجنة).

4- كان التعذيب مرحلة مهمة من مراحل التحقيق. وتقشعر الأبدان مما ترويه المصادر عن أشكاله و أدواته، بل كانت تُزهق أرواح الكثيرين منهم تحت التعذيب نتيجة الألم و الخوف والإرهاق.

5- كانت ذرية المحكوم تتحمل «تبعات» جريمته حيث يُحرم أبناؤه وأحفاده من وظائف ومهن كثيرة. كما تُصادر أملاكهم ويعيشون حياة العوز، بل كان بعضهم يمارس التوسل والدعارة أحياًنا للحصول على لقمة العيش في حين يتمتع الملك ورجال المحكمة بممتلكاته الموروثة.

6- ومن غرائب قوانين هذه المحكمة أنها لم تكتف بمحاكمة المتهمين الأحياء، وإنما كانت تعاقب الأموات أيضًا، فإذا اكتشفت أن أحد الأموات كان يمارس الهرطقة في حياته، فإنها تقوم باستخراج ما تبقي من جثته في القبر وتحرقها في احتفال ديني وتصادر ممتلكاته وتحرم ورثته منها. وكان يُمنح الوشاة الذين بلغوا عن الهراطقة الموتى نسبة عالية من هذه الممتلكات مكافأة لهم.

7- كانت العقوبات التي تفرضها محكمة التفتيش الإسبانية على المتهمين تختلف حسب الإثم المرتكب، ومن أبسطها السجن لمدة محدودة مع الغرامة إذا كان الذنب خفيفًا، أو التجديف مدى الحياة بالسفن إلى القارة الأمريكية، أو السجن المؤبد مع مصادرة الممتلكات. وكانت أشد العقوبات الإعدام بحرق المتهم حياً في احتفال عام يتم في ساحة المدينة. ويشهد الاحتفال كبار رجال الدين بأثوابهم الرسمية. وكان بعض الملوك من هواة حضور هذا الاحتفال أمثال فرديناند. ويُحدد موعد هذا الاحتفال عادةً، بحيث يتزامن مع الاحتفال باعتلاء العرش أو زيارة الملك أو زواجه. وكان يهرع الشعب إلى ساحة المدينة لرؤية موكب المحكوم عليهم وهم في طريقهم إلى المحارق، وأحيانا كانت تنفذ هذه العقوبة بشكل جماعي مهما بلغ عدد المدانين.

موقفها من اليهود

كان اليهود في إسبانيا هم أولى ضحايا هذه المحكمة. ومن المعروف أن جماعات دينية متعصبة من الإسبان كانت تضغط - وقبل تأسيس المحكمة- على يهود إسبانيا لتنصيرهم. وبالفعل فقد تنصر عددٌ منهم، ووصل بعضهم إلى مناصب رفيعة في الكنيسة والدولة، حتى إن أحدهم أصبح منجماً في بلاط الملك جون الثاني (والد فرديناند). إلا أن هؤلاء اليهود المتنصرين ظلوا موضع شك، لأن تنصرهم كان في حقيقته هروبًا من الاضطهادات ورغبة في المنافع المادية، والدليل على ذلك أنهم ظلوا يمارسون شعائرهم اليهودية سرًا. ولكن بعد تأسيس محكمة التفتيش الإسبانية (عام 1478م) بدأت عمليات الاضطهاد المنظمة لليهود المتنصرين الذين نُظر إليهم كهراطقة. وقد ارتبط اضطهاد اليهود في هذه الفترة باسم المفتش العام تروكيمادا الذي بطش بهم، حيث سجن وصادر وأعدم حرقًا أفواجًا منهم. ولكنه عندما وجد أن كل هذه الإجراءات غير كافية أخذ يلح على الملكة إيزابيلا بأن تصدر قرارًا بطرد اليهود من إسبانيا ما لم يتنصروا، إلا أن الملكة لم تستجب لطلبه آنذاك لأنها كانت بحاجة إلى الأموال التي يقدمها الممولون اليهود في حربها ضد العرب المسلمين في غرناطة. ولكن بعد ثلاثة أشهر من سقوط الحكم العربي في غرناطة، أي بتاريخ 30 مارس عام 1492، أصدر الملكان (فرديناند وإيزابيلا) قرارًا اشتمل جملة من البنود وأهمها:

1- طرد اليهود الذين لم يتنصروا من إسبانيا خلال أربعة أشهر من تاريخ القرار (وكانت الذريعة هي ألا يؤثر هؤلاء في اليهود الذين تنصروا فيرتدون إلى اليهودية) .

2- فرض عقوبة الإعدام على كل يهودي لم يتنصر أو لم يغادر.

3- يحرم على أي إسباني إيواء أي يهودي سرًا أو جهرًا بعد انقضاء المدة المذكورة.

ويرى بعض الباحثين أن قرار الطرد هذا لم يكن بدوافع دينية أو عنصرية فحسب، وإنما بدوافع اقتصادية أيضًا، حيث رغبت الدولة الإسبانية في التخلص من أعباء الديون التي قدمها لها الممولون اليهود من ناحية والحصول على أموال اليهود التي ستصادر، بعد هذا القرار، من ناحية أخرى. والواقع فقد غدا موقف اليهود الإسبان - والبالغ عددهم آنذاك نحو مائة ألف - غاية في الخطورة، حيث كان عليهم إما التنصر (وما يرافق ذلك من الشك فيهم وملاحقة محكمة التفتيش لهم) أو الرحيل عن إسبانيا أو المقاومة المسلحة. والواقع إن الخيار الأخير كان مستبعدًا لقلة أعدادهم من ناحية ولكونهم يعيشون في أحياء خاصة بهم (مما يجعل حصارهم والقضاء عليهم أمراً سهلاً) من ناحية أخرى. وعلى أي حال فقد رحل ثمانون ألفًا منهم تقريبًا إلى بلدان المغرب العربي وأوربا والسلطنة العثمانية. أما بقية اليهود فقد آثرت التنصر رغبة في البقاء وحماية لمصالحها. ولكن الشك ظل يحوم حول هؤلاء المتنصرين أو «المسيحيين الجدد» ولاسيما أن عدداً منهم ظل يمارس الشعائر اليهودية سرًا، وبالتالي كان هدفًا لمراقبة محكمة التفتيش ومطاردتها.

واختلفت المراجع في تقدير عدد اليهود المتنصرين الذين أحرقهم تروكيمادا أحياءً - خلال توليه منصب المفتش العام أي ما بين 1483-1498م، حتى أن بعضها قدره بعدة آلاف، هذا فضلاً عن آلاف من كتب التراث العبري التي أحرقها هذا المفتش، والتي كان العلماء اليهود قد ألفوها في ظل الحكم العربي الإسلامي للأندلس.

وينبغي أن نؤكد على أن معاملةَ الإسبان لليهود هذه كانت تتناقض مع المعاملة الطيبة التي عامل بها العربُ المسلمون اليهودَ في إسبانيا أثناء الحكم العربي للأندلس. حيث يتفق المؤرخون على أن العصر الذهبي لليهود الإسبان كان أيام العرب. فالفتح العربي للأندلس حررهم من اضطهاد القوط لهم. كما منح العربُ اليهودَ الحرية الدينية والثقافية والاقتصادية، وتولى عددٌ منهم مناصب رفيعة في الدولة العربية كالوزارة في قرطبة وغرناطة، وبرز عدد كبير من اليهود في ميدان الطب والتجارة والترجمة، بل تعربت ثقافتهم مما ساعدهم على أن يلعبوا دورًا مهمًا كوسطاء بين الثقافتين العربية واللاتينية.

.... ومن المسلمين

بعد أن نجحت المحكمة في تصفية اليهود في إسبانيا تفرغت لملاحقة العرب المسلمين الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط آخر معاقلهم فيها، وهي غرناطة، عام 1492م. وكانت معاهدة تسليم غرناطة، التي فرضها الإسبان على حكام غرناطة من بني الأحمر، قد اشتملت على (67) بندًا على قول المؤرخ المقري، وهي تضمن الحرية الدينية للمسلمين فضلاً عن حماية أرواحهم وأموالهم ومساجدهم وأوقافهم واستقلالهم القضائي.....إلخ. وعلى الرغم من أن ملكي إسبانيا (فرديناند وإيزابيلا) قد أقسما على الالتزام بهذه المعاهدة، فإنهما سرعان ما نكثا بها ونقضا بنودها الواحد تلو الآخر كما يقول المقري نفسه. والواقع كان وصول الكاردينال خيمينس إلى غرناطة عام 1499م، مفوضًا من الملكة إيزابيلا ومن محكمة التفتيش، إيذانًا بنقض معاهدة غرناطة وبداية اضطهاد العرب المسلمين. وخيمينس هذا كان آنذاك الشخصية الثالثة في إسبانيا بعد الملك والملكة، حيث كان رئيسًا لأساقفة طليطلة ومن ثم أصبح عام 1507م مفتشًا عامًا لمحكمة التفتيش في إسبانيا. وقد نهج خيمينس سياسة قائمة على الإرهاب في تنصير مسلمي غرناطة، والبالغ عددهم آنذاك نحو مليون نسمة. كما حوَّل كثيرًا من مساجدها إلى كنائس، وجمع من أهلها نحو مليون كتاب من كتب التراث العربي وأحرقها في إحدى ساحات غرناطة، بحيث لم ينجُ منها إلا ثلاثمائة كتاب في الطب، وذلك كله كي يقطع الصلة بين العرب المسلمين في غرناطة وتراثهم.

ومن المؤكد أن خيمينس كان يستهدف من سياسته هذه استفزاز عرب غرناطة ودفعهم إلى الثورة، وبالتالي كي تتخذ السلطات الإسبانية من ثورتهم هذه ذريعة لإلغاء المعاهدة المبرمة معهم. وبالفعل فقد نفد صبر عرب غرناطة فأعلنوا الثورة ضد سياسة التنصير الإجباري التي يقوم بها هذا الكاردينال، وقد استنجدوا خلالها - ولكن دون جدوى- بسلاطين المماليك والعثمانيين وحكام المغرب. وفشلت الثورة بعد سنتين من المعارك الطاحنة (1499-1501م)، وكان من أهم نتائجها القرار الذي اتخذته الملكة إيزابيلا عام 1502 م والذي يقضي بأن يُخيَّر عرب غرناطة بين التنصر أو مغادرة إسبانيا خلال ثلاثة أشهر. وإزاء هذه التطورات وجد هؤلاء أنفسهم أمام ثلاثة خيارات: إما التنصر بشكل كامل وصادق أو رفض التنصر والمقاومة أو التنصر ظاهرياً وممارسة الإسلام سرًا. فاختار قسم كبير منهم الخيار الثالث انطلاقًا من مبدأ «التقية»، ولاسيما وقد أفتى لهم بهذا السلوك المزدوج بعض فقهاء المغرب. ولا شك أن هذا الخيار سيمكنهم من البقاء في بلدهم من ناحية والمحافظة عملياً على دينهم من ناحية أخرى. وقد أُطلق على هؤلاء المسلمين (الذين تنصروا عنوة) مصطلح مشهور وهو «المورسكيون». ولكن المشكلة التي لم تكن في الحسبان هي أن البابوية وكنيسة إسبانيا وحكومتها لم يعترفوا بتنصُّر هؤلاء وظلوا موضع الريبة ونُظر إليهم على أنهم منافقون وهراطقة. ومن هنا فقد غدوا «مادة» مهمة لمحكمة التفتيش.

ويهمنا أن نؤكد على أن محكمة التفتيش ظلت سوطًا مسلطًا على ظهور «المورسكيين» لمدة قرن ونيف من الزمن. وكانت مهمتها الرئيسة خلال ذلك تقوم على تنفيذ الأمرين التاليين، الأول منهما مراقبة المورسكيين ومطاردتهم والتنقيب في خفايا نفوسهم، حيث بثت المخبرين والوشاة لرصد حركاتهم وسكناتهم، والتماس أي دليل أو إشارة، ولو كانت واهية، على أنهم ما زالوا يمارسون شعائرهم الإسلامية، ويتمسكون بتقاليدهم العربية. فإذا رفض أحد المورسكيين، مثلاً، تناول لحم الخنزير اعتبرته المحكمة دليلاً على أنه مازال مسلمًا وكذلك الحال إذا رفض تناول الخمور أو لم يحضر القداس في الكنيسة أيام الآحاد، أو امتدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو أقسم على القرآن أو أقام الصلاة يوم الجمعة في بيته سرًا أو صام رمضان أو غسل أطفاله بعد التعميد في الكنيسة أو استدعت العروس المأذون لعقد الزواج سرًا بعد أن تم عقده في الكنيسة .... إلخ. إن وصول بعض هذه الممارسات وغيرها إلى مسامع محكمة التفتيش، كان كفيلاً لأن يُزج المتهم في سجونها ويعاني فيها أشد أنواع التعذيب وتنزل به أقسى العقوبات التي تنص عليها قوانينها.

أما المهمة الرئيسية الثانية، التي سهرت محكمة التفتيش على تنفيذها أيضًا فهي وضع القرارات، التي كان يصدرها الملوك الإسبان بشأن المورسكيين (المسلمين المتنصريين)، موضع التنفيذ. ولعل من أهمها تلك التي أصدرها الملك الإسباني فيليب الثاني (1555-1598م) وبخاصة القرار القاضي بمنع المورسكيين من حمل السلاح، والقرار المتضمن تحريم استخدام اللغة العربية والكتب العربية وارتداء الملابس العربية ومنع النساء المورسكيات من ارتداء الحجاب... إلخ.

ولا شك في أن رفض المورسكيين تنفيذ مثل هذه القرارات وغيرها كان يشكل فرصة أمام محكمة التفتيش للانتقام منهم وفرض أقسى العقوبات عليهم من سجن ومصادرة وحرق. وهذا كله قاد المورسكيين إلى القيام بثورة ثانية في غرناطة عام 1568م تحت قيادة الأمير الأموي محمد بن أمية. واستنجد الثوار - دون جدوى أيضًا - بسلاطين بني عثمان وحكام المغرب. وبالرغم من أن هذه الثورة استمرت نحو ثلاث سنوات (1568-1570م) وانتقلت إلى بعض المدن الأندلسية، فإن قوات الملك فيليب الثاني استطاعت القضاء عليها، بل أدى فشلها إلى نتيجتين مأساويتين، الأولى: أن الملك أصدر قرارًا عام 1571م يتضمن طرد المورسكيين من غرناطة وتوزيعهم في أنحاء إسبانيا ومصادرة أملاكهم. والثانية: هي ازدياد نشاط محكمة التفتيش سواء في مطاردة المورسكيين أو تطبيق عقوبة الإعدام الجماعي بحقهم بتهمة الخيانة العظمى لاتصالهم بقوى إسلامية خارجية كالعثمانيين و المغاربة.

الطرد الجماعي

على الرغم من ذلك كله فقد فشلت محكمة التفتيش وقرارات الملوك الإسبان فشلاً ذريعًا في صهر المورسكيين وتذويبهم في المجتمع الإسباني وتنصيرهم بالقوة، وظل هؤلاء يمارسون الإسلام سرًا ويعلمون أولادهم لغة العرب وتاريخهم وتقاليدهم. ولهذا قرر الملك الإسباني فيليب الثالث تنفيذ مشروع سبق أن راود أسلافه وهو طرد العرب المسلمين من إسبانيا طردًا جماعيًا، ولا سيما أن الوقت الآن مناسب، حيث كانت الدول العربية والإسلامية، في المشرق والمغرب، في حالة انقسام ونزاع فيما بينها وبالتالي لن يجد المورسكيون أحداً يقف إلى جانبهم.

وبالفعل صدر قرار طرد المورسكيين جميعاً من إسبانيا عام 1609م، ونُفذ بعنف وبربرية، و ظلت السفن تنقلهم إلى سواحل المغرب ومصر والشام وبلدان الدولة العثمانية وبعض الموانئ الأوربية حتى عام 1614م. وتقدر الدراسات الحديثة أن عدد الذين تم طردهم في ذلك العام كان نحو مليون مسلم؛ في حين كان عدد الذين أُخرجوا من إسبانيا، ما بين سقوط غرناطة عامي 1492 م و1609م، نحو ثلاثة ملايين مسلم. وكان قرار الطرد نهاية لمأساة تلك الأقلية، وخاتمة لمحنة أولئك البؤساء. وبذلك طويت آخر صفحة من صفحات الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا.

لقد ظلت محكمة التفتيش في إسبانيا تطارد من توارى عن أنظارها من بقايا اليهود والمورسكيين والبروتستانت حتى الاحتلال الفرنسي لإسبانيا، حيث أصدر نابليون بونابرت أمرًا بإلغائها عام 1808م، ولكن لم تلفظ أنفاسها الأخيرة إلا في 15/7/1834م.

تناقض المواقف

إذا قارنا بين موقف العرب المسلمين من الإسبان عندما فتحوا الأندلس عام 711م، وموقف الملوك الإسبان ومحكمة التفتيش من العرب المسلمين بعد سقوط غرناطة عام 1492م، تبدو لنا الصورة متناقضة تمامًا. فعندما فتح العرب الأندلس لم يُجبروا أحدًا على اعتناق الإسلام انطلاقًا من قواعد قرآنية مثل : {لا إكراه في الدين} و {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} ... إلخ. وإنما انتشر الإسلام في أوساط الإسبان انتشارًا عفويًا، وأطلق على الذين تحولوا من المسيحية إلى الإسلام مصطلح «المولدين». أما الإسبان الذين ظلوا على المسيحية وعاشوا في ظل الدولة العربية الإسلامية - وعُرفوا باسم «المستعربين» - فقد عاشوا عيشة كريمة . والتزم العرب بكل المعاهدات التي أُبرمت معهم، وسهر الأئمة والفقهاء المسلمون على حسن تنفيذها، حيث تمتع هؤلاء بموجبها بحريتهم الدينية والقضائية والإدارية والاقتصادية. ومع إنهم احتفظوا بلغتهم وتقاليدهم وكنائسهم وكهنتهم وآدابهم، فإنهم أعجبوا بلغة العرب وثقافتهم وعاداتهم فأضحوا عمليًا عربًا. ولم يفكر عرب الأندلس، ولا لحظة واحدة، في إبادتهم أو طردهم أو إجبارهم على اعتناق الإسلام بحجة تحقيق الوحدة الدينية والسياسية، ولم يُؤخذ على بني أمية في الأندلس، الأمراء منهم والخلفاء، أي تصرف فيه ظلم أو جور بحق المستعربين . ومن هنا تبدو المفارقة في تاريخ الأندلس فالإسبان الذين اضطهدوا العرب وطردوهم من إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492م هم أحفاد هؤلاء «المستعربين» الذين سبق أن تمتعوا بحماية العرب ورعايتهم. كما كان موقف رجال الكنيسة الإسبان عجيبًا حقًا، حيث شجعوا الملوك الإسبان على نقض المعاهدات مع العرب، وعلى إجبار المسلمين على التنصر، وعلى تحويل المساجد إلى كنائس، كما شجعوا محكمة التفتيش على مطاردة وسجن ومصادرة وإحراق وإبادة وطرد العرب المسلمين. لقد ترتب على الأعمال الوحشية التي ارتكبتها محكمة التفتيش الإسبانية، على امتداد قرن ونيف ، ومن ثم على قرار الطرد الجماعي للمورسكيين، نتائج بالغة الخطورة من حيث تنوعها وعمقها وشموليتها. فمن الناحية الاقتصادية، فقدت إسبانيا مئات الآلاف من المورسكيين ذوي الخبرة الواسعة في شئون الزراعة والري والصناعة والتجارة... وبالتالي تدهورت الحياة الاقتصادية فيها تدهورًا سريعًا، في حين ازدهرت كل ميادين الاقتصاد في البلدان التي هاجروا إليها. أما الحياة الثقافية فقد انحطت أيضًا انحطاطًا شاملاً نتيجة الرعب الذي نشرته محكمة التفتيش في أوساط المثقفين المورسكيين، حيث انعدم النقد وتوقف الإبداع، وانشغل المثقفون في حماية أرواحهم من جرائم المحكمة ودسائس رجالها عن المشاركة في النهضة الأوربية الحديثة. كما أن طرد مئات العلماء المورسكيين من إسبانيا أدى إلى فقدان الكثير من العناصر المبدعة، هذا فضلاً عن أن إحراق المحكمة لكتب التراث العربي شكل كارثة علمية لا تعوض لا بالنسبة إلى إسبانيا فحسب، وإنما بالنسبة إلى الإنسانية قاطبة ،في حين كان المورسكيون رواد الحداثة والتقدم في بلدان المغرب العربي بعد استقرارهم فيها. أما من الناحية الأخلاقية فقد أدت أعمال محكمة التفتيش إلى انحطاط القيم الأخلاقية، حيث انعدمت الثقة بين أبناء المجتمع الواحد الذين أخذوا يتبادلون التهم التي لا يبررها سند، لا سيما وقد خصصت المحكمة - كما أشرنا - مكافآت مادية ومعنوية للوشاة والمخبرين، وراح ضحية ذلك آلاف من الأبرياء. كما أصبح بعض المفتشين مضرب المثل في قسوتهم وجرائمهم وسوء أخلاقهم، حتى إن بعضهم لم يتورع عن اغتصاب زوجات المتهمين وبناتهم باسم محكمة التفتيش. لقد كانت محكمة التفتيش الإسبانية، في حقيقتها، منظمة «إرهابية» في فكرها وسلوكها: وجاءت أعمالها كارثة على اليهود و العرب المسلمين من ناحية وعلى إسبانيا ومستقبلها السياسي والحضاري من ناحية أخرى. لقد فشلت هذه المحكمة في معالجة مسألة الأقليات الدينية في إسبانيا لأن أيديولوجيتها ومناهج عملها وأدواتها تناقضت مع الدين والعقل والتاريخ. حقًا إنها «تجربة» تستحق الدراسة.

المصدر : موقع التاريخ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين