أسباب اختلاف المجتهدين-2-

 

بيَّنا في مقالنا السابق أنَّ الصحابة رضي الله عنهم بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم عدد من المجتهدين في الأحكام الشرعيَّة العملية، وكذلك كان في التابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة وأقرانهم، وكانت القرون الهجريَّة الأولى الثلاثة عهدَ الاجتهاد المطلق والإنتاج التشريعي المثمر، وكانت أمصار المسلمين: المدينة ومكة ودمشق وبغداد والكوفة والبصرة والفسطاط والقيروان وقرطبة عامرة بحركة تشريعيَّة مباركة، وزاخرة بنوابغ الفقهاء المجتهدين.

وقد اختلف مجتهدو كل عهد وكل عصر في أحكام شرعيَّة كثيرة، فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في عدة أحكام، فذهب أبو بكر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم إلى أنَّ الجد يحجب الإخوة الأشقاء والأخوات الشقيقات، والإخوة لأب والأخوات لأب من الإرث، كما يحجبهم الأب. وذهب عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إلى أنَّه لا يحجبهم من الإرث بل يشاركهم. 

وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أنَّ عِدَّة المطلقة ثلاث حيضات يتخللها طهران. وذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه إلى أنَّ عدتها ثلاثة أطهار يتخللها حيضتان.

 وذهب زيدُ بن ثابت رضي الله عنه إلى أنَّ الإرث خاص بذوي الفروض والعصبات ولا توريث لذوي الأرحام، وذهب عمرُ وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم إلى أنَّ الإرث لذوي الفروض والعصبات ولذوي الأرحام. 

وكذلك اختلف التابعون وتابعوهم في عدة أحكام، واختلف كذلك الأئمة الأربعة وأقرانهم في عدة أحكام، في العبادات وفي المعاملات، وفي كل باب من أبواب الفقه، وفي بعض الجزئيات اختلفوا إلى آراء كثيرة، ففي المسح بالرأس في الوضوء منهم قال الفرض استيعاب الرأس بالمسح، ومنهم من قال الفرض مسح ربع الرأس، ومنهم من قال الفرض مسح بعض الرأس أي بعض. 

وفيما ينقض الوضوء منهم من قال: خروج الدم السائل من أي جزء من جسم المتوضئ ينقض وضوئه، ومنهم من قال لا يَنقضه، وكثير من العقود والتصرفات بعضها صحيح في مذهب مجتهد، وغير صحيح في مذهب آخر.

والسؤال الذي يخطر ببال المسلم بشأن هذه الاختلافات هو: لِمَ اختلف المجتهدون من فقهاء المسلمين في الأحكام الشرعيَّة مع أنهم جميعاً يَرجعون في اجتهادهم إلى مصادر تشريعية واحدة، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس؟

وأسأل الله تعالى أن يُمدَّني بمعونته وتوفيقه في الإجابة عن هذا السؤال.

كل ما نزل بمسلم في عباداته أو معاملاته أو عقوده أو تصرفاته أو أي شأن من شؤونه لله سبحانه فيه حكم، وهو عزَّ شأنه بفضله ورحمته بيَّن بعض أحكامه بآيات القرآن، أو بما سَنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعدله وحكمته لم يبين بعض أحكامه لا بكتابه ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أقام عليها الدلائل ونصب الأمارات ليهتدي إليها المجتهدون باجتهادهم، وما بيَّنه سبحانه بكتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم منه ما بُيِّن بنصوص صريحة قطعية الدلالة لا مجال للاختلاف في فهم المراد منها، ومنه ما بُيِّن بآيات أو أحاديث ظنيَّة الدلالة، وفيها مجال لاختلاف العقول في فهم المراد منها.

فالأحكام الشرعية العمليَّة أنواع ثلاثة: 

الأول: أحكام شرعية عمليَّة دلَّت عليها آيات أو سنن صريحة قطعية الدلالة.

والثاني: أحكام شرعيَّة عمليَّة دلَّت عليها آيات أو سُنن ليست صريحة في معنى بعينه، ولا قطعية الدلالة عليه.

الثالث: أحكام شرعية عملية لم تدل عليها آيات ولا أحاديث، ويتوصل إليها بالاجتهاد والدلائل والأمارات التي نصبها الشارع للدلالة عليها كالقياس أو الاستصلاح أو غيرهما.

فأما الأحكام الشرعية التي دلت عليها آيات أو سنن صريحة قطعية الدلالة فلم يختلف فيها المجتهدون في عهد من العهود؛ لأنه مع دلالة النص على حكم بعينه وعدم احتماله للدلالة على غيره لا مجال للاختلاف فيه.

ومثال هذه الأحكام: وجوب إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وحرمة الزنا، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وعدد ركعات كل صلاة، وأركان كل ركعة، ومقدار النصاب من المال الذي تجب فيه الزكاة، ومقدار الواجب فيه، وعدد الجلدات في حدِّ الزنا وحد القذف، وفروض أصحاب الفروض في الإرث، وغير ذلك من الأحكام التي بيَّنتها نصوص القرآن الكريم والسنة القوليَّة والعمليَّة تبييناً قاطعاً.

ولهذا قال الإمام الشافعي في رسالته: (إذا كان لله في الواقعة حكم بعينه فعلى المسلم اتباعه).

وقرَّر علماء الأصول أنَّه لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي الدلالة.

وأما الأحكام الشرعية التي دلَّت عليها آيات أو سنن ليست صريحة ولا قطعية الدلالة فقد اختلف فيها المجتهدون تبعاً لاختلاف عقولهم في فهم النص، إذ لا يمكن أن يكون النص محتملاً لأن يدل على معنيين أو معانٍ مُتعدِّدة وتتفق العقول على فهم معنى واحد منه، وهذه بعض أمثلة توضح هذا:

قال الله تعالى: [وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ] {البقرة:228} بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ المطلقة تعتدُّ ثلاثة قروء، ولفظ القُرء في اللغة مُشترك، تارة يطلق على الطهر، وتارة يطلق على الحيضة.

فبعض مجتهدي الصحابة رضي الله عنهم وتبعهم أبو حنيفة وأصحابه ذهبوا إلى أن المراد بالقُرء الحيضة، وقرروا أنَّ عدة المطلقة ثلاث حيضات، وبعض مجتهدي الصحابة وتبعهم الشافعي وأصحابه ذهبوا إلى أنَّ المراد بالقرء الطهر، وقرروا أنَّ عدة المطلقة ثلاثة أطهار، واللفظ في اللغة العربية يحتمل أن يفهم منه أي معنى من المعنيين، ولكل وجهة في ترجيح ما فهمه.

وقال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ] {المائدة:6}. عبَّر سبحانه بقوله [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ] وحرف الباء في اللغة العربية تارة يدل على التبعيض، وتارة يدل على الإلصاق، فبعض المجتهدين ذهبوا إلى أن الباء للتبعيض والفرض مسح بعض الرأس، وبعضهم ذهبوا إلى أن الباء للإلصاق والفرض مسح الرأس كله.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب): ظاهر هذا النص ينفي وجود الصلاة شرعاً إذا لم يقرأ المصلي فيها فاتحة الكتاب، وعلى هذا تكون قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة شرطاً لصحتها، وإلى هذا ذهب الشافعي، ولكن رئي أن هذه الصيغة وردت كثيراً في لسان الشارع مُراداً بها نفي الكمال لا نفي الصحة مثل: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) لنفي كمال الصلاة بغير قراءة الفاتحة لا لنفي صحتها، وعلى هذا تكون قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة من واجباتها لا من شروط صحتها، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.

وقال تعالى: [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ] {التوبة:60} أوجب الله سبحانه صرف الصدقات في هذه المصارف الثمانية، والعبارة تحتمل أن يفهم منها إيجاب صرف الصدقات لهذه الأصناف جميعها إن وجدت بحيث لا يجوز صرفها لبعض الأصناف دون بعض، لأن الله تعالى جعل الصدقات لهم لا لبعضهم دون بعض، وإلى هذا ذهب الشافعي، وتحتمل أن يفهم منها إيجاب صرف الصدقات لهذه الأصناف بحيث لا تخرج الصدقات عنهم، فيجوز صرفها لبعضهم دون بعض، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.

فمن هذه الأمثلة يتبين أنه قد يكون منشأ اختلاف المجتهدين في الأحكام التي دلَّت عليها النصوص احتمال النص لأن يفهم منه معنيان أو أكثر، لأن فيه لفظاً مشتركاً بين معنيين أو أكثر، أو لأن تركيبه نفسه يحتمل أن يفهم منه معنيان أو أكثر.

وقد يكون منشأ اختلاف المجتهدين في الأحكام روح النص ومعقوله، فمن المجتهدين من جعل نصب عينيه في فهم النص أنَّ أحكام الشارع معقول معناها، وهي تهدف إلى تحقيق مصالح الناس ودفع الضرر عنهم، فعلى ضوء المعنى المعقول يفهمون النص ويستنبطون منه الحكم ولو أدَّى سيرهم في هذا الضوء إلى فهم معنى لا يدل عليه ظاهرُ النص.

ومن المجتهدين من جعل نصب عينيه فهم النص كما تدل عبارته والوقوف في فهم النصوص عند عباراتها ولو أدَّى وقوفهم هذا إلى مخالفة ما يدركه العقل، ومن الفريق الأول أكثر مجتهدي العراق، ومن الفريق الثاني أكثر مجتهدي الحجاز. 

ويسمى الفريق الأول: أهل الرأي، والفريق الثاني: أهل الحديث. وليس معنى هذه التسمية أنَّ فقهاء العراق ليسوا ممن يحتجون بالحديث حيث وجد، وأنَّ فقهاء الحجاز ليسوا ممن يحتجون بالرأي حيث لا نص، وإنما المراد بهذه التسمية أن مجتهدي العراق ينظرون في النصوص بمنظار معناها المعقول ولو خالفوا الظاهر منها، وفقهاء الحجاز ينظرون في النصوص بمنظار عبارتها وظاهرها ولو خالفوا المعقول منها، وهذه بعض أمثلة توضح النظرتين:

1 – روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى شاة مُصَرَّاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها وصاعاً من تمر لا سمراء).

الشاة المصراة هي الشاة التي يربط ثديها قبل بيعها ليكثر اللبن فيها حتى يظن رائيها أنها شاة حلوب كثيرة اللبن فيشتريها على ذلك، وبعد أن يحلبها تتبين له حقيقة أمرها؛ فهذا عيب في المبيع، والشارع خيَّر المشتري بين أن يَرضى بها بعيبها ويمسكها، وبين أن يردها ويرد صاعاً من تمر عوضاً عن اللبن الذي احتلبه، فذهب فقهاء العراق إلى أنه كما يجزئه أن يرد صاعاً من التمر عوضاً عن اللبن الذي احتلبه، يجزئه أن يرد قيمة اللبن أو مثله؛ لأن الشارع ما أوجب ردَّ صاع من تمر لعينه، وإنما أوجبه ضماناً وتعويضاً، والأصل ضمان المتلفات بمثلها أو قيمتها، فلو قلنا لا يجزئه إلا صاع من تمر بعدنا عن معقول النص.

 وذهب فقهاء الحجاز إلى أنَّه لا يجزئه إلا رد صاع من تمر لأن هذا هو الذي أوجبه النص، ولو قلنا يجزئه رد مثل اللبن أو قيمته بعدنا عن عبارة النص.

2 – روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب صدقة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط. 

فذهب فقهاء الحجاز إلى أنَّ الواجب صاع من غالب قوت البلد ولا تجزئ قيمته، لأن النص أوجب الصاع، وذهب فقهاء العراق إلى أنَّ الواجب الصاع، وتجزئ عنه قيمته، لأن الصدقة إنما وجبت لنفع الفقراء، وقد يكون نفعهم بالقيمة أوفر، فالشارع ما أوجب الصاع إلا لنفع الفقير ومعونته، والتصدق بقيمة الصاع محقق هذا النفع، بل قد يكون أكثر تحقيقاً له.

وقد ورد في الحديث: (ينضح بول الصبي ويغسل بول الجارية) فقهاء الحجاز قالوا: إذا تنجَّس ثوب ببول الصبي يطهر بالنضح من غير عصر، وإذا تنجَّس ثوب ببول الصبية لا يطهر إلا بالغسل مع العصر، أخذاً بظاهر هذا النص.

وفقهاء العراق قالوا: البول نجس، والثوب المتنجس به لا يطهر إلا بالغسل سواءً أكان بول صبي أم بول صبية، لأنَّ الغسل هو المزيل لأثر النجاسة، والمطهر لها، والنضح لا يزيل أثر النجاسة.

فلمخالفة ظاهر هذا النص للمعنى العام المعقول في إزالة النجاسات والتطهير منها يحمل على أنَّ هذا كان في حادثة لها ملابسات خاصة، وليس تشريعاً عاماً.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، المجلد الرابع، جمادى 1/ 1370 فبراير 1951).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين