متى تلتئم جراح الوطن؟

 

 

شعور يعتصر قلب كل عربي غيور يحمل بين جوانحه أقل درجة من درجات الإنسانية وهو يرى حالة الحروب والانقسامات الداخلية التي فصمت عُرىً كانت موثقة بين أهل وجيرة وأحباب.

فمجتمعاتنا التي عاش فيها لمئات السنين المسلم بجوار المسيحي، والسني بجوار الشيعي، العربي بجوار الكردي.

بلادنا التي كانت المأوى الآمن لليهود والأرمن والشركس ولكل مشرد.

صار حالها اليوم كما تعلمون.

حتى صرنا في قلق وحيرة لماذا يحدث هذا وما هو مستقبل هذا النسيج الذي يتمزق.؟

لا أدعي أنني أملك إجابة، ولكن أحاول البحث في تاريخ الأمم وأنظر في أسباب وعواقب أمم مرت بنفس حالتنا.

فمعظم الأمم التي قادت التغيير بعد طول رقاد مرت بهذه المرحلة من الانقسام والحروب، ونهاية الطريق تراوحت بين طول وقصر لتشفي هذه الجراح ويكتشف الجميع أنه لا يمكن بحال من الأحوال بناء وطن علي نسيج اجتماعي مهلهل، وليس في مقدور أي طائفة إلغاء مكون من مكونات الوطن.

وأن طوائف الشعب التي قاومت التغيير وساهمت في تثبيت كراسي الطغاة أجرمت في حق نفسها ومستقبل أبنائها وأوطانها.

هكذا هي سنة التاريخ في الأمم التي نهضت من رقاد.

ففرنسا ظلت لأكثر من قرن تصارع من أجل التغيير، كانت تصارع ملوك أوروبا في الخارج، وفساد حكامها وتسلط كنيستها وجهل معظم شعبها.

وفي دورة من دورات هذا الصراع استطاع الثوار على حكم لويس بونابارت (بونابارت الثالث) أن يسيطروا على باريس عام 1871 واستمر حكمهم لها ثلاثة أشهر، ولكن الفلول الموالية لبونابارت انسحبت إلى فرساي وبالدعاية الكاذبة استطاعت أن تستميل قطاعاً من الفلاحين لتستعين بهم على حرب الثوار، وطلبت العون من بروسيا -عدوة فرنسا اللدود التي هزمت بونابرت الثالث واحتلت فرنسا- فسارع "بسمارك" بتلبية النداء، وقام هذا الجيش المكون من الفلول والطبقات الدنيا والمرتزقة البروسيين بقصف باريس لمدة أسبوع كامل، وهدمت البيوت على رؤوس أصحابها، ثم دخلتها دخول الغازي الأجنبي حيث استباحت باريس بمن فيها من رجال ونساء وأطفال فيما عُرف بالحرب الاهلية.

إن ما حدث من إفشال ثورة باريس عام 1871 كان بحسب وصف "كارل ماركس" :" مؤامرة الطبقة الحاكمة لقمع الثورة عن طريق إشعال حرب أهلية تحت رعاية الغازي الأجنبي."-وكأنه يصف حالنا تماماً-.

كيف عاش الناس بعدها؟ .. كيف كان الظالم والمظلوم والمعتدي والمعتدى عليه يتبادلون النظر في وجوه بعضهم بعضاً وكلهم ابناء وطن واحد.؟

كيف التأمت جراح الولايات المتحدة بعد الحرب الاهلية .؟

كيف التأمت جراح الجمهوريات السوفيتية بعد كشف سجلات التخابر التي عرف فيها ضحايا الاستبداد الشيوعي أن الوشاية بهم كانت من أبنائهم وإخوانهم وأعز أصدقائهم.؟

حين زرت البوسنة كنت مشغولاً بسؤال من قابلتهم عن الآثار النفسية التي خلفتها الحرب الظالمة من صربيا وكرواتيا ضد البوسنة، قالوا إنهم بعد أكثر من عشرين سنة من انتهاء الحرب مازالوا يعيشون مرارة الإحساس بأنهم كانوا يُقتلون ويُهجرون وتُغتصب نساؤهم فقط، لأنهم مسلمون، ومن كان يقوم بذلك هم جيران وأصدقاء الأمس، فالبوسنة خليط من المسلمين والصرب -أرثوذكس- وكروات -كاثوليك-، كانوا لمئات السنين يعيشون جنبا إلي جنب.

وبرغم تلك المآسي والجراح اضطر الجميع للتعايش مرة أخرى وفي القلوب من الشوائب ما فيها لإعادة بناء البيت الذي حوتهم جدرانه، بعد خرابه على أيدي طغاة مغامرين قادوا الدهماء بحملة كراهية لتحقيق أوهامهم.

أستعرض هذه التجارب وفي الحلق صرخة مكبوته، وفي القلب نياط تتقطع، لرؤية شعوب لا تتعلم من التجارب، وتسير نائمة خلف أطماع طغاة مغامرين، فلا أكاد أستوعب كيف يمكن أن يجد حاكم يقصف مدنه بالصواريخ والبراميل المتفجرة ليهدم الدور على من فيها، أو حاكم يستبيح دماء شعبه ويملأ سجونه بثلة من الأطهار الأبرار، كيف يمكن أن يجد من الشعب من يسانده، وبأي دين وأي ملة وأي ضمير يكون جار الأمس مصفقاً لقتل جاره أو استباحة حريته وماله.؟؟!!

ولا أدري كم من الجراح والخسائر والأوقات ستضيعها شعوبنا العربية حتى تتعلم:

أن السير وراء الطغاة المغامرين مآله إلى الخراب.

وأنه لم ولن ينبنى وطن على أشلاء حرية الإنسان وكرامته، ولن تنهض أمة على نسيج اجتماعي ممزق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين