واجب الشباب

 

خبروني يا سادتي: أين نحن من رجال الإسلام الأولين الذين حملوا إلى العالم لواء هذه الهداية؟ أولئك الذين يَرون الموت في سبيل الله هو الحياة الخالدة، ويرون الحياة إذا غشيها الذلُّ موتاً ذريعاً، أولئك الذين عَمَروا الأرض بعقيدتهم، ووطَّدوا فيها دعائم مجدهم، وأضاءوا للعالم وما حوله بمشكاة علومهم وفنونهم وآدابهم! أين ذلنا من عزهم؟ وأين خنوعنا من إبائهم؟! 

ألا إنَّهم قد مَضَوا على نور تلك الهداية الإسلاميَّة، ففتحت عيونهم على سُنن الله تعالى في نظام المجتمع الإنساني، وطمحت بهم إلى المجد بتبيان المهيب بهم إلى الحضارة والرقي، في طيات آي الذكر الحكيم، وعلى لسان الرسول العربي صلى الله عليه وسلم، حتى لا تزعزع بنيانهم رجفات الزلازل الاجتماعيَّة، ولا تخطو أمامهم دولة شرقيَّة ولا غربيَّة، بنهضة علمية ولا فنية، ولا اقتصاديَّة، ولا حربيَّة.

اصغوا معي إلى قول الله الحكيم: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {الأنفال:60}. 

وقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] {التوبة:111}. 

وقوله جلَّ جلاله: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] {الأنبياء:105}. لا العباد اللاهون العابثون، الذين هم في سكراتهم يعمهون، وعن إسعاد أمَّتهم يَتَوانون ويتكاسلون.

غير أنَّ التقليد الأعمى للحضارة الغربيَّة الحديثة قد فتك بعقول شبابنا، وغيَّر ما بأنفسهم فنسوا الهداية الإسلاميَّة، بتغافلهم عن هذه السنن الاجتماعيَّة التي نطقت بها الآيات القرآنيَّة، وأوضحتها الأحاديث النبوية، ثم أيدتها الحوادث والتجارب، ولعمر الحق ما أغرقهم في هذا البحر اللجي من التواكل والكسل إلا إيثارهم حياة الذلِّ والعبوديَّة، على الموت في سبيل العزَّة والحريَّة، وما أصدق حديث الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قال قائل: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أحمد وأبو داود].

هذا الحديث الشريف حي كأنَّما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الساعة، ومنه نفهم أنَّ سبب تأخرنا وانحطاطنا يَرجع إلى حبِّ الدنيا وكراهية الموت، أو بما عبَّرت عنه سابقاً حيث قلت: إيثارنا حياة الذلِّ والعبودية على سبيل العزَّة والحريَّة، الأمر الذي مهَّد للأجانب التداعي علينا، حتى مزَّقوا وحدتنا، وفرضوا علينا حياة لا نعرف فيها إلا الطعام والشراب، والمظاهر والخوادع، حياة ندور فيها كالآلات حول أنفسنا مُهملين مسخرين.

هذا كله يا حضرات السادة من تهاوننا بالهداية التي لو فهمناها على وضعها الصحيح لعرفنا أنَّها هي المدنيَّة الخالدة التي تقوم نهضتها الأكيدة على مبدأ قوي وخُلق عَظِيم، وعمل مُنظَّم مُتَّزن إذا آتى أكله أسعد الحياة وأطرب الوجود.

هذه العناصر الثلاثة: المبدأ والخلق والعمل المنتج، إذا وجدت في أنفس شبابنا مَرْتعاً لها فأخصبت وأثمرت، هي واجبات الشباب في هذا العصر، بل واجباته في كل عصر، وعليها نستطيع أن ننهض من كبوتنا نهضةً لا نَعْرف من بعدها السقوط.

ومن درسَ التاريخ الإسلامي أيقن أنَّ مبدأ المسلمين الأولين أملى عليهم أن يَقْتحموا كلَّ خطر، وهم يَهْتفون الله أكبر، حتى تغلَّبوا على كلِّ ما اعترضهم من صعاب، بإرادات جبَّارة وقلوب لا تَهاب، ثم أيقن أنَّ خلق المسلمين الأولين صفَّى منهم خبيث طباعهم، وصقل رديء خلالهم، وسكَّن عواصف شقاقهم، وزيَّن بالحب الصادق ذات صدورهم، وأخذ بيدهم إلى التضحية في سبيل الحق والواجب والوطن، ومن هنا جاء العمل المثمر! فمتى أصلح المبدأ الخلق، ومتى قوى الخلق المبدأ، ومتى تعاون هذان العضوان، كانت النتيجة المنشودة عملاً مُثْمراً كله خير وإسعاد.

والمبدأ الإسلامي – يا سادتي – قوي في كل شيء، يحب القوة في الدين والأخلاق، في الآراء والعقائد، في الأبدان والأرواح، في التقدم والترقي، في التصرف والإدارة، ولكنها قوة يستمدها من الإنصاف والرحمة، وهو يستنكر الضعف في كل شيء فلا يرضى عن العاكف على الحياة الذليلة، ولا يسرُّه من يَعِيشُ عالةً على الناس، بل يَأخذ بيد الذي يقدم الصالحات، ويسارع إلى الخيرات، وينافس العاملين على الإنتاج والابتكار. 

هذا هو المبدأ الإسلامي الذي يؤيده ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان).

مثل هذا المبدأ القوي العظيم لو أشرب شبابنا حبه في قلوبهم، لبرزت شخصياتهم وظهرت مواهبهم، فأقدموا على الحياة إقداماً، يَنتزعون لأمَّتهم العزَّة والكرامة والحريَّة. 

يقول المبدأ الإسلامي للشباب المسلم: هل للأجنبي عقل أرجح من عقولنا؟ أم عنده تفكير أقوم من تفكيرنا؟ أم أنَّ الدم الذي يجري في عروقه خير من الدم الذي يجري في عروقنا، والتي جرت من قبل في عروق أسلافنا فطوَّفت بهم في الآفاق أعزَّة أقوياء؟ فعلام يُذيب شبابنا شخصياتِهم في اتباع كلِّ ناعق من الغرب، ولو أراد بما يَنعق به أن يَهدم الشرق بغياً وطغياناً؟

إنَّ خير ما يَمتاز به المبدأ الإسلامي أنَّه مَرِن سمح كريم، ينفخ في الشخصية المسلمة روح التطوُّر والابتكار، ومن هنا قال الباحثون - وأكثرهم من الفرنجة المنصفين-: إنَّ الشخصيَّة المسلمة مُتطورة إلى أبعد الحدود، قابلة لكل تمرين فاضل ما دامت تفهم دينها على وضعه الصحيح الذي نزل به الوحي العظيم، وأوضحه الرسول المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قيل بحق: الإسلام دين المدنيَّة، المساير لها في حدود العقل والمنطق.

غير أنَّ المبدأ الإسلامي يفرق بين المدنية والإباحيَّة، فمن الظلم أن ترتكب المنكرات باسم المدنيَّة، ومن البغي أن يَنتشر الفجور باسم المدنيَّة، ومن الطغيان أن تنتهك حرمات الشعوب الصغيرة الآمنة باسم الحريَّة وباسم الحضارة والمدنية، في الإباحية جموح، وفي المدنية التي يقهرها الإسلام اعتدال، لذلك يخاطب أمير الشعراء شوقي شكسبير بقوله:

يا واصل الدم يجري ههنا وهنا = قم انظر الدم فهو اليوم دأماء

كانوا الذئاب وكان الجهل رائدهم = واليوم علمهم الراقي هو الداء

لذلك قوَّى الإسلام المبدأ بعنصر عظيم، هو الخلق الفاضل الكريم، وضرب الله لنا خير مثل في خاتم النبيين سيدنا محمداً صلوات الله عليه بمقتضى قوله الكريم: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}. فالشمس لم تشرق، ولن تشرق إلى يوم القيامة على أحد من عباد الله يسامي محمداً صلى الله عليه وسلم في أنبل أخلاقه، أو يتخذ قدوة صالحة بين الناس.

وبعد فماذا تنتظرون – أيها السادة – من شاب عمر قلبه مبدأ راسخ وأخلاق متينة؟ هل تنتظرون منه إلا أن يسعى دؤوباً في الخير، مؤدياً لحقوق الله وحقوق العباد، مضحياً في سبيل الفرد والمجموع، ومجاهداً في سبيل الأهداف السامية العظيمة؟ وهل تنتظر الأمة من شبابها أكثر من هذا الذي يَعْلو به رأسها، فتتبوَّأ مركزها اللائق بين الأمُم.

ولا معدى لي عن تذكيركم بأنَّ العالم كله يسير، فإن قنعنا بموقف المشاهد المتفرِّج، وأبينا على أنفسنا أن تتعب ولو قليلاً في خوض المعركة، فلسوف نخسر خسراناً مُبيناً، ثم يلازمنا الجمود المخجل، وإن استخضنا المعركة فخضناها دون فهم ولا تدبير جنينا على أمَّتنا جناية مُنكرة وأوردناها موارد الهلاك، موقفنا حرج يدعو إلى التبصُّر والحذر، ولكن الذي لا ريب فيه، والذي لا يحتاج إلى جدال، أن توجيه الشباب إلى الهداية بتقوية مبادئهم وأخلاقهم هو أول واجب علينا، كما أنَّه أول ما يعود بالخير علينا.

أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لبثِّ الهداية الإسلاميَّة واضحةً جليةً، في روح الشباب والأحداث، حتى ينبض قلبُ الأمَّة بالخير والهدى والإصلاح.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الهداية الإسلامية، المجلد السابع عشر، ربيع الثاني 1364 - العدد 10).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين