أسباب اختلاف المجتهدين -3-

 

بيَّنتُ في مَقَالي السابق أنَّ أولَ الأسبابِ لاختلافِ المجتهدينَ في الأحكامِ الشرعيَّةِ هو اختلافُ عقولهم في فهمِ النصوصِ التشريعيَّةِ بناءً على أنَّ النصَّ فيه لفظٌ مُشتركٌ يدلُّ في اللغة العربية على مَعْنيين أو أكثر، أو بناءً على أنَّ صيغة النصِّ نفسَها تحتملُ أن تُفهمَ على وجهين أو أكثر، أو بناءً على اختلاف نزعتهم التشريعيَّة في فهمِ عبارة النص على ضوء روحه ومعقوله والمقصود منه، وضربتُ عِدَّة أمثلة لإيضاح هذه الوجوه.

 

وأبين في هذا المقال سببين آخرين من أسباب اختلاف المجتهدين، وهما:

 

1) عدم تدوين السُّنة.

2) وعدم اتفاقهم على رأي في تقدير فتاوى الصحابة.

 

1 – عدم تدوين السُّنة:

لم تُدوَّن السُّنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتَّخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته كتَّاباً للوحي يكتبون ما يوحَى إليه به من القرآن، ولكنه لم يتخذ كتَّاباً يكتبون ما يصدر عنه من أحاديث، بل ورد في بعض الأخبار أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن كتابة أحاديثه، وكان من يكتب منهم يَستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكتب لنفسه خاصَّة، وقد روى مجاهد قال: رأيت عند عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما صحيفةً، فسألته عنها فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد.

 

وفي خلافة عمر رضي الله عنه أراد أن يدون السُّنة، ولكن بدا له ما حوَّله عن إرادته، فقد روي عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنَّ عمرَ أراد أن يَكتب السنن، واستشار أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأشارَ عليه عامَّتهم بذلك، فلبث شهراً يستخير الله تعالى في ذلك شاكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عَزَم الله له، فقال: إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد عَلِمتُم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبَّوا عليها وتَركوا كتابَ الله، وإني والله لا أَلْبِس كتاب الله بشيء! فترك كتابة السنن.

 

وقد مضى القرن الهجري الأول كله والسُّنة يَتَناقلها المسلمون بالرواية، ولم تكن مدوَّنة، ولما ولي خلافةَ المسلمين عُمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في أول القرن الهجري الثاني، رأى الخير والمصلحة في تدوين السُّنَّة، فكتب إلى والي المدينة في عهده أبي بكر بن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفتُ دُروسَ العلم وذهابَ العلماء).

 

وكذلك أمر محمدُ بن شهاب الزهري أن يدوَّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ أبو بكر بن حزم ومحمد بن شهاب الزهري في تدوين السُّنة، وتتابع العلماء على هذا التدوين، ولم يصل إلينا ما دوَّنه هذان الجليلان، وأقدم ما وصل إلينا من مدونات السُّنة موطأ الإمام مالك بن أنس الذي دوَّنه بناء على طلب الخليفة المنصور العباسي، ثم مسند الإمام أحمد، ثم دونت الصحاح الستة، وهي صحاح البخاري ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وكلها مما دُون في القرن الثالث الهجري.

 

وهذا التدوين الذي بدأ من أوائل القرن الهجري الثاني حفظ كثيراً من السنن من الضياع، ولكنه لم يتخذ صيغة تجمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنن كما اجتمعوا على القرآن.

 

وقد كان من نتائج عدم تدوين السُّنَّة في القرن الهجري الأول كله اختلاف المجتهدين في كثير من الأحكام، فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله، وأقاموا بالأمصار التي فتحها الله على المسلمين، وكل عالم منهم كان يعلِّم المسلمين دينهم، فيتلو عليهم القرآن، ويبين لهم الحلال والحرام، ويروي لهم ما سمعه أو رآه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بالمدينة منهم الخلفاء الراشدون، وكثرة من الأنصار والمهاجرين، وممن كانوا بالشام أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وممن كانوا بمصر أبو ذر والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، و عبد الله بن عمرو، وممن كانوا بالعراق: علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حُصين، وكان بحمص سبعون من أهل بدر، - رضي الله عنهم -.

 

هؤلاء الصحابة الذين تفرَّقوا في الأجناد والأمصار كان يَروي كل واحد منهم في بيئته ما حفظه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مجتهدو كلِّ بيئة يحتجون بما سمعوه في بيئتهم من السنن، وقد يصل إلى المجتهد في المدينة حديث لم يصلْ إلى المجتهد في العراق، وقد يتفرَّد أبو الدرداء بسماع حديث من الرسول صلى الله عليه وسلم فيرويه بالشام ولا يصل إلى مصر ومجتهديها.

 

ولهذا كتب فقيه مصر الليث بن سعد إلى أخيه فقيه المدينة مالك بن أنس يأخذ عليه اعتمادَه على عمل أهل المدينة واعتباره وحده، وقد ذكر له في كتابه (1) مسائل خالفه فيها متابعة لكثير من الصحابة، وذكر له أنَّ الصحابة تفرَّقوا في الأمصار، ورووا سنناً صحيحة، وأفتوا المسلمين بما رأوا وما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا لما دوَّن الإمام مالك كتابه الموطأ بناء على طلب الخليفة المنصور، وأراد المنصور أن يجمع المسلمين على ما في الموطأ كما جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، قال له مالك: (لا تفعل يا أمير المؤمنين لأن الصحابة افترقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكلهم يريد الله تعالى، فعدل المنصور عما أراده).

 

وكما كان عدم تدوين السُّنة سبباً لاختلاف المجتهدين من جهة أنه قد يصل إلى علم الآخر كان سبباً لاختلافهم من جهة اختلافهم في الثقة برواة الحديث، وفي المقياس الذي يُبنى عليه الوثوق، فكان أحدهم يرجِّح الحديث على الحديث لأنَّ رواته أوثق حسب مقياسه، فمجتهدو العراق كانوا يرجِّحون الحديث الذي رواه أهل الفقه، وأخذوا به، وقد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: (عليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء)، ومالك رحمه الله تعالى كان يرجح ما عليه أهل المدينة، والشافعي رحمه الله تعالى كان يرجح ما رواه العدلُ التامُّ الضبطُ مُطلقاً.

 

وقد روى سفيان بن عيينة حادثاً يبين الاختلاف بين المجتهدين بناء على اختلافهم في مقياس الثقة بالرواة، قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الخياطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة: ما بالكم لا تَرفعون أيديكم عند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لأنَّه لم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، قال الأوزاعي: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع ؟ فقال أبو حنيفة: حدثني حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ولا يعود إلى شيء من ذلك. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتحدثني عن حماد عن إبراهيم؟! فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس دون ابن عمر، و إن كان لابن عمر فضل صحبته، والأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله.

 

2 - فتاوى الصحابة:

 

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدَّى لإفتاء المسلمين في مختلف الأمصار جماعة من أصحابه عُرفوا بحفظ القرآن الكريم، ورواية السنن، وطول صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وفهمهم روح التشريع وأصوله، وقد صدرت منهم فتاوى كثيرة في وقائع متعددة، وعُني التابعون وتابعوهم بتدوينها، حتى إنَّ مالك بن أنس في تدوينه الموطأ جمع بين السنن وآثار الصحابة، فهل تُعتبر هذه الفتاوى مرجعاً تشريعياً؟ بمعنى أنَّ المجتهد ليس له أن يخرج عما أفتى به الصحابة في الواقعة، أولا تعتبر مرجعاً تشريعياً، وإنما هي مجرد اجتهادات لغير معصومين؟ 

 

اختلف المجتهدون في هذا، وبناءً على هذا الاختلاف اختلفوا في بعض الأحكام، فأما أبو حنيفة فقد سئل عن خطته في التشريع فقال: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه، التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب - وعدَّ عدة من مجتهدي التابعين وتابعيهم – فلي أن أجتهد كما اجتهدوا.

 

وروي عنه أنه قيل له: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالف قولك؟ قال: أترك قولي لكتاب الله، فقيل له: إذا كان خبر الرسول يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بخبر الرسول، فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟ قال: أترك قولي لقول الصحابي، فقيل له: إذا كان قول التابعي يخالف قولك ؟ قال: إذا كان التابعي رجلاً فأنا رجل.

 

أما مالك فكان يَعتدُّ بفتاوى الصحابة التي عليها عمل أهل المدينة، ولا يسوغ الخروج عليها، ويوجب أن يكون المسلمون تبعاً لأهل المدينة فيما ساروا عليه من الأحكام.

 

ولهذا أخذ على الليث بن سعد فقيه مصر أنه أفتى بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس بالمدينة، ولما رأى ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، يخالف في بعض ما مضى عليه الصحابة، كره ذلك منه، واضطرَّ إلى فِراق مجلسه.

 

وأما الشافعي فيقول في كتابه الأم: لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب أو السُّنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا. 

 

فالشافعي يرى أنَّ فتوى الصحابة ليست حجَّة مُلزمة إلا إذا كان ما أفتى بهم أحدهم لم يخالفه فيه مخالف منهم. 

 

وهذا هو الحق، فإن الله سبحانه أمر الناس أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول وأولي الأمر منهم، وأمرهم إن تنازعوا في شيء ليس لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولا لأولي الأمر منهم فيه حكم، أن يردوه ويرجعوه إلى ما حكم فيه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وفتوى صحابي أو عدد من الصحابة ليس حجَّة من هذه الحجج الشرعية إلا إذا كان قولاً مُتفقاً عليه من مجتهديهم، فإنه يكون إجماعاً.

 

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفُ بعضهم بعضاً، وما اعترض أحدهم مخالفهم وألزمه برأيه، ولا أكثر من عدَّ ما اختلف فيه الصحابة من الأحكام. 

 

وهذه جزئية من الجزئيات التي اختلفوا فيها: إذا طلَّق الزوج زوجته طلقة واحدة أو طلقتين، وبعد أن انقضت عدتها منه تزوجت بغيره، وبعد أن طلقها غيره وانقضت عدتها منه، عادت إلى التزوج بزوجها الأول، فهل تعود إلى زوجها الأول بحل جديد، أي: يملك عليها ثلاث طلقات، أو تعود إليه بما بقي من الحل الأول؟ أي تعود إليه بطلقة أو طلقتين ؟ قال عمر وعلي وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم: تعود له بما بقي من عدد الطلقات، وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: تعود له بالطلقات الثلاث، لأن الزوج الثاني يَهدم ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث، وقد أخذ بالأول عدد من المجتهدين منهم الشافعي ومحمد بن الحسن، وأخذ بالثاني عدد منهم، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف.

 

ولهذا قال الكمال بن الهُمَام في هذه المسألة: أخذ شبان الفقهاء بقول شيوخ الصحابة، وشيوخ الفقهاء بقول شبان الصحابة، وقد أخذ الليث بن سعد على أخيه مالك بن أنس فتواه بإباحة الجمع بين الصلاتين في ليلة المطر، وقال له: إنَّ مطر الشام أغزر من مطر المدينة ولم يجمع إمام بجند من جنود المسلمين في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد ومعاذ بن جبل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) فالتزام فتوى صحابي بعينها التزام بما لا يلزم شرعاً.

 

والواجب التزام ما قال الله تعالى في كتابه، وما صحَّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما لا يُعرف فيه خلاف بين المجتهدين.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد العاشر، المجلد الرابع، جمادى 2/ 1370 مارس 1951). 

 

----------

 

(1) اقرأ هذا الكتاب القيم في: (إعلام الموقعين) لابن قيم الجوزية، وفي (تاريخ التشريع الإسلامي)، للخضري بك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين