فدائيون من الأوس والخزرج

 

الفدائية في الإسلام مخاطرة بالنفس التي هي أعزُّ شيء على الإنسان في سبيل العقيدة والغاية الشريفة والدفاع عن العرض والأوطان.

وقد تبارى (الأوس والخزرج) في هذا الميدان فسجَّلت كل قبيلة منهما حدثاً هاماً في تاريخ الإسلام.

أما الأوس: فقد سجَّلت بطلهم الفدائي محمد بن مسلمة وإخوانه رضي الله عنهم صورة فدائية رائعة لاغتيال رأس الكفر كعب بن الأشرف وأنهى بذلك صحيفة جرائمه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضد المسلمين.

وكان ابن الأشرف عربياً من بني نبهان وهم بطن من طيء، وكان أبوه أصاب دماً في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعباً، وكان طويلاً جسيماً ذا بطن وهامة، فهو وإن لم يكن يهودي الأصل – قد تهوَّد وصار في عداد اليهود بالمربى والنشأة – وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، ولما هزم المشركون ببدر هزيمتهم الساحقة، قال: لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم – وهم أشراف العرب – وملوك الناس، لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم خرج إلى مكة يندب من مات ويحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين.

ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبَّب بنساء المسلمين حتى أكادهم، وممن شبَّب بها السيدة أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في أبيات ذكرها يونس بن إسحاق:

أراحل أنت لم ترحل لمنهية = وتارك أنت أم الفضل بالحرم

والتشبيب بالنساء المسلمات ولاسيما في البيئة العربية جريمة منكرة وبخاصة إذا كانت من يهودي سفيه حاقد على الإسلام والمسلمين فلم يكن بدٌّ إذاً من زَجْرِه ورَدْعه وتخليص المجتمع من شروره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى اللهَ ورسولَه؟، فقال محمدُ بنُ مسلمة (الأنصاري الأوسي): أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك) فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال يا رسول الله قلتُ قولاً لا أدري هل أوفين لك به أم لا. فقال: إنما عليك الجهد فقال: يا رسول الله لابدَّ لنا من أن نقول، يعني: فيك قولاً لا ترتضيه قلوبنا، وإنما نريد به الوصول إلى غايتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حِلٍّ من ذلك، فاجتمع على قتله محمد بن مسلمة، وسلطان بن سلامة بن وقص، وكنيته أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل وكان أخا كعب من الرضاع، كما كان نديمه في الجاهلية ويركن إليه، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبل بن جبر واسمه عبد الرحمن رضي الله عنهم.

تنفيذ الخطة:

واجتمعوا كي يُدبِّروا الخطَّة لاغتيال عدوِّ الله فرأوا أن يُقدِّموا إليه أبا نائلة سلطان بن سلامة لأنَّه يطمئن إليه ولا يطمئن إلى غيره، فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدوا الأشعار وكان أبو نائلة رضي الله عنه ممن يقول الشعر، ثم قال له: ويحك يا ابنَ الأشرف إني قد جئتُ لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عليَّ، قال: أفعل. 

قال: لقد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحد، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العِيال وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابنُ الأشرف أما والله لقد كنتُ أخبرك يا ابنَ سلامة أنَّ الأمر سيصير إلى ما تقول، فقال له سلطان إني قد أردتُ أن تَبيعنا طعاماً ونعطيك رهاناً ونوثق لك وتحسن في ذلك، فقال له كعب: أرهنوني نساءكم؟ فقال له أبو نائلة: كيف نرهنك نساءنا وأنت أحب أهل يثرب وأعطرهم، وأجمل العرب؟ فقال كعب أترهنوني أبناءكم، فقال أبو نائلة رضي الله عنه: كيف نرهنك أبناءنا فتكون سُبَّة وعاراً علينا، وإنَّ معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيكَ بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة سلاح الحرب ما فيه وفاء. 

وواعدوه أن يأتوه ليلاً، وقد أراد سلطان أبو نائلة رضي الله عنه بهذا أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، فقال كعب: إنَّ في الحلقة لوفاء.

فرجع أبو نائلة رضي الله عنه إلى أصحابه، فأخبرهم بما جرى بينهما وأمرهم أن يأخذوا السلاح وينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مشى معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغَرْقد مُودِّعاً، ثم وجَّههم ودعا لهم، فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. 

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إلى حصنه، فناداه أبو نائلة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما، وكان حديث عهد بمرض، فوثب وعليه ملحفته فأخفت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإنَّ أصحاب الحرب لا يَنْزلون في هذه الساع،ة وإني لأسمع صوتاً يقطر منه الدم، فقال كعب: إنَّما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة لو وجدني نائماً ما أيقظني، إنَّ الكريمَ لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب.

ثم قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه إذا جاء فآخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه فأصيبوه، فقال كعب وهو مُتوشِّح سَيْفَه، وهو ينفح منه ريح المسك فتحدَّث معهم ساعة وتحدثوا معه، ثم قال له: هل لك يا ابنَ الأشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدَّث بقيةَ ليلتنا هذه؟ قال كعب إن شئتم، فخرجوا يتماشَون، فمشوا ساعة، ثم قال له محمد بن مسلمة رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب، أتأذن لي أن أشمَّ رأسك، قال كعب نعم، فشمَّه، ثم أشمَّ أصحابه وكذلك فعل أبو نائلة رضي الله عنه، حتى اطمأنَّ إليهم، ثم عاد محمد بن مسلمة لمثلها، فلما استمكنَ منه قال: دونَكم عدوَّ الله فاقتلوه.

إصابة أحد الفدائيين:

وقد أصيبَ أحد الفدائيين رضي الله عنهم لما اختلفت السيوف، وهو: الحارث بن أوس بن معاذ فجُرِح في رأسه، أو في رجله، وأصابته بعضُ أسياف القوم، قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرَّة العريض وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا، قال: فاحتملناه فجئنا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلَّمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، فسُرَّ بذلك، وحمد الله وكبَّر، وقال: (أفلحت الوجوه)، فقالوا: ووجْهَك يا رسول الله، وقفل على جُرح الحارث فما أصابه ضر، والتأم الجرح، ورجعوا إلى أهليهم وقد أراحوا المسلمين من هذا الشرير الخبيث الماكر المستهين بالأعراض، وكان لهذا العمل الذي قام به هؤلاء السادة الفدائيون أثراً وأي أثر في ملء قلوب اليهود خوفاً فقد أصبحوا وليس بالمدينة يهودي إلا ويخافُ على نفسه، وفي هذا قال كعب:

فغودر منهم كعب صريعاً = فذلَّت بعد مصرعه النضير

على الكفين ثم وقد علته = بأيدينا مشهرة ذكور

بأمر محمد إذ دس ليلاً = إلى كعب أخا كعب يسير

فماكره فأنزله بمكر = ومحمود أخو ثقة جسور

وكان قتل كعب في ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة، كما قال ابن سعد في طبقاته.

هذه صورة من صور الفدائيَّة في الإسلام، وهي تدل على مبلغ حرص الصحابة على أن لا يمسَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، ولا أن تُنال أعراضُهم بسوء، وإنهم كانوا يَستهينون بالأخطار في سبيل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان رضاهما فوق القرابة والصداقة، كما تدلُّ على مبلغ ما كان يتمتَّع به العرب من الذكاء والفطنة، وحُسْن التصرُّف وإحكام التدبير.

تحوَّل (الصراع الدامي) بين قبيلتي (الأوس والخزرج) قبل الإسلام إلى تنافس في الخير وبطولات في الدفاع عن العقيدة الإسلامية.

وكما سجَّل الفدائيون من الأوس، مصرع كعب بن الأشرف على يدي محمد بن مسلمة وإخوانه رضي الله عنهم، فقد سجَّل الفدائيون من الخزرج مصرع سلام بن أبي الحقيق، وقال الخزرج: والله لا يذهب الأوس بالفضل علينا.

وكان سلام بن أبي الحقيق تاجراً مشهوراً، وزوجاً لصفية بنت حيي قبل زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ممن حزَّب الأحزاب ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدَّم أمواله الطائلة سلاح حرب على الدعوة الإسلامية، ووسيلة لإيذاء المسلمين.

وكان سلام بن الحقيق يُقيمُ في قصره بخيبر، فاستأذن الخزرج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم وخرج منهم خمسة نفر، وهم عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان الأسلمي، وعبد الله بن أنيس الجهيني حليف الأنصار، وأبو قتادة الأنصاري، وخزاعي بن أسود رضي الله عنهم، وأمَّر عليهم عبد الله بن عتيك وأوصاهم أن لا يقتلوا وليداً ولا امرأة، فلما وصلوا إلى خيبر قال لهم عبد الله: مكانَكم – أي الزموه – وانطلق إلى باب الحصن وتحايل على الباب حتى دخل، ثم توجه إلى بيت أبي رافع وصار يفتح الأبواب الموصدة التي توصل إليه، وكلما فتح باب أغلق من داخل، حتى انتهى إليه، فإذا هو في بيت مُظلم وسط عياله، فلم يُمكنه تمييزه فنادى: يا أبا رافع فقال: من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغنِ شيئاً، فعاد عبد الله يُناديه وفي كل مرَّة يغيِّر صوته، حتى استمكن منه وقتله دون أن يؤذي أحداً من ولده وزوجه؛ لأنهم لا جريرة لهم، وهذا الحرص من عبد الله بن عتيك رضي الله عنه يعطينا صورةً لأخلاق المسلم فهو لا يقتل إلا من بغى وتجبَّر، وآذى الَله ورسوله ولا يأخذ البريء بذنب المذنب، ولا الولد بجريمة أبيه أو الزوجة بوزر زوجها.

ثم خرج عبد الله بن عتيك رضي الله عنه من البيت وكان نظره ضعيفاً، فوقع من فوق السلم فانخلعت رجله فعصبها بعمامته، وصار يتحامل على نفسه حتى وصل إلى أصحابه فأخبرهم، فقالوا: النجاة النجاة، وأغذوا السير حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم قال: (أفلحت الوجوه) وحدثوه بما كان، ثم قال لعبد الله بن عتيك رضي الله عنه ابسط رجلك، فمسحها عليه الصلاة والسلام فكأنه لم يشتكها قط، وعادت أحسن مما كانت، وقد روى الإمام البخاري هذه القصة المثيرة كلها بسنده الصحيح، عن أبي إسحاق عن البراء عن بن عوف، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز يعني خيبر، فما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني مُنطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنَّع بثوبه كأنه يَقضي حاجته وقد دخل الناس فهتف به البواب، يا عبد الله إن كنت تريد الدخول فادخل فإني أريد المفاتيح أن أغلق الباب، فدخلت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علَّق الأغاليق على ود، أي: المفاتيح على وتد قال: فقمت إلى الأقاليد (المفاتيح) فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحتُ باباً أغلقت عليَّ من داخل قلت: إنَّ القوم نذروا بي، أي: علموا لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مُظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت قلت: يا أبا رافع! فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف فما أغنيت شيئاً وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع، فقال: لأمك الويل، إنَّ رجلاً في البيت ضربني بالسيف، قال: فضربته ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت ضَبيب – حد السيف – في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له أوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم: أقتلته؟ فلما صاحَ الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء لقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال لي: (ابسط رجلك) فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط، وفق حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أحد الفدائيين في هذه القصة قال: 

(توجهنا من خيبر فكنا نكمن النهار، ونسير الليل وإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا واحد يحرسنا، فإذا رأى شيئاً نخافه أشار إلينا فلما قربنا من المدينة كانت نوبتي فأشر إليهم فخرجوا سراعاً ثم لحقتهم، فدخلنا المدينة فقالوا: ماذا رأيت؟ قلت ما رأيت شيئاً ولكن خشيتُ أن تكونوا أعييتم فأحببت أن يحملكم الفزع. 

وورد أيضاً في رواية ابن إسحاق أنَّ امرأته صاحت فنوَّهت بهم، فجعل عبد الله بن عَتيك رضي الله عنه يرف السيف عليها، ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل النساء فيكفُّ عنها.

وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على عَظَمة أخلاق الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وعلى قوَّة ضبطهم لأنفسهم، حتى في المواقف التي من شأنها أن يفلت الزمام ويتطاول السيف، فلله درُّ هذه النفوس والعقيدة المؤمن المضحِّية بالنفس في سبيل الدين والعقيدة، ورضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولله هؤلاء النفر الأبطال الذين قتلوا هذا الجبَّار المتكبر الساعي في الأرض بالإفساد، فرضي الله عنهم وأرضاهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة التاسعة والعشرون، ذو القعدة 1391 - العدد 11).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين