الإسلام في أفريقيا -29-

 

أبو العباس يخلف أباه وأخاه أحمد يستبد بالملك

 

بعد وفاة أبي عقال خلفه في الحكم ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب. وكان كأبيه وعمه جليل القدر نابه الذكاء، موفقا في أموره مظفرا في حروبه.

لقد استعان أبو العباس في تدبير ملكه بوزيره الأول عبد الله بن علي آل حميد). الذي أعانه مع حداثة سنه على ضبط شؤون دولته، وكف أيدي البغاة عنها. وإلى جانبه سلمت مقاليد الدولة لشقيق الأمير أبو جعفر أحمد بن الأغلب.. الذي قلده أخوه كثيراً من أمور الدولة.

لم يكن أبو العباس - على ما يبدو - مهتماً كثيراً بشؤون الحكم، فتقاسم السلطة أخوه من جهة، ووزيره ابن حميد من جهة أخرى، الذي كان يتمتع بجاه عريض بين الناس لما كان يملكه من ثروة طائلة، مما أثار حفيظة الأمير أحمد وحسده، فأخذ يتآمر على إزاحة الوزير. 

وبالفعل نجح أحمد في قتل الوزير عبد الله بن علي سنة (231هـ/845م) غدراً وغيلةً، ثم تقدم بمواليه وأنصاره إلى قصر أخيه الأمير فدخل عليه شاكياً السلاح، ليفرض عليه شروطه ليكون المدبر الوحيد لشؤون ملكه، فقبل أخوه ذلك على مضض، تجنباً لتمزيق أسرة بني الأغلب، وتحاشياً لسفك الدماء. فاستبد أحمد بالملك دون أخيه، إذ لم يترك له إلا الشعار والاسم. وقبض أحمد على من شاء من الرجال والأعوان، واستصفى من أراد، وعذب من أبغض، وأعطى الرجال وجبى الأموال.

قام أحمد بكل أنواع الغلو، وعمل بصورة جعلت كل أصناف المعارضين يقومون في وجهه، ثم ما لبث أن انغمس في الملذات والفجور واللهو. وأقدم على انتزاع الأملاك من أصحابها، وعلى إذلال الأعيان والمتقدمين.

وذعر الفقهاء لما فعله أحمد بالوزير ابن حميد الذي كان يعتبر رجلهم في بلاط الأغالبة، وعلى اتصال وثيق بهم، فقد أنقذ علي بن حميد وزير زيادة الله الأول، الفقيه سحنون من الجلد، وكان بيته مفتوحا للفقهاء من أهل السنة.

وبدلا من أن يهدئ أحمد الأجواء التي نتجت عن جريمته النكراء، تفنن في تغذيتها بمظالم جديدة، وكان القول (بخلق القرآن) والمشاحنات حول ذلك على أشدها، فراح هذا الأمير الجاهل يعمل على تفعيل النزاع حول خلق القرآن. فقد نادى من أعلى منابر المساجد بمذهب خلق القرآن. وكان هذا بمثابة إعلان حرب على الفقهاء الرافضين لهذا القول جملة وتفصيلا، وبدأ بملاحقة كل رافض لهذا القول من الفقهاء. فلجأ الشيخ سحنون بن سعيد إمام أهل السنة بإفريقية إلى الناسك الزاهد عبد الرحيم بقصر زياد. فأرسل أحمد جنده وراءه وجاؤوا به إلى القيروان، وأوقف في شهر رمضان من سنة (231هـ/845م)، وقدم إلى مجلس انعقد برئاسة القاضي المعتزلي ابن أبي الجواد. وطلب أن يحكم عليه بالقتل والتمزيق، لكن الحكم النهائي نص على أن يحجر عليه التدريس.

واشتد بأس أحمد على الرعية، فصادر الأموال، ونكّل بمنتقديه، وأوغل في الظلم وارتكاب الفواحش، وذاق منه الناس بلاءً عظيماً، ولم يسلم من سطوته أحد، حتى أبناء أسرته وأهل بيته وحلفائه في تآمره على أخيه، فثار عليه الأغالبة سنة (232هـ/846م) فقبضوا عليه ونفوه إلى العراق تجنباً لإراقة المزيد من الدماء، ومكث هناك منفياً إلى أن مات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين