لماذا كره الناس الثورة؟

 

أو: لماذا كرهها كثيرون؟ هذه حقيقة، لا هي خيالات ولا فَرْضيات، مَن لم يرَها كان بلا بصر ومن لم يدركها فهو بلا بصيرة، ومَن أنكرها مكابَرةً وهو موقن بها فإنه يكرّس بقاء المشكلة ويساعد على استفحالها، لأن أُولى خطوات حلها هي الاعتراف بها. وكيف يحل المشكلةَ من ينكرها ولا يعترف بها؟

 

لم يكره الناس الثورة لأنهم أصيبوا بسببها في أنفسهم وأولادهم وأموالهم وممتلكاتهم، هذه هي أمّ الحقائق التي ينبغي أن نبدأ منها، فقد صبر السوريون رغم ضراوة المحنة ودفعوا ثمن الحرية راضين مختارين، فحملوا عبء الثورة وقد علموا أنه حمل ثقيل، ومشوا في طريقها وقد علموا أنه طريق طويل. لا والله ما ضعف الشعب السوري الأبيّ ولا استسلم، وإنه ليستحق أن يتصدر سجلات المجد في صحائف التاريخ.

 

لقد كان أحرار سوريا مستعدين للمضيّ في الطريق مهما بلغ طول الطريق، كانوا مستعدين لاحتمال الإصابات والجراحات والآلام، إلا أنهم وصلوا أخيراً إلى رفض الثورة وكراهيتها، أو وصل كثيرون منهم إلى هذه النتيجة المحزنة، فندم بعضهم على المشاركة في الثورة، وبات آخرون يشتاقون إلى عهد النظام وأيامه الماضيات. ألا ينبغي أن نبحث عن سبب هذه الكارثة فنعالجه قبل فوات الأوان؟

 

*   *   *

 

لقد كره كثيرون الثورة لسببين، أولهما أنهم لم يجدوا في الفصائل التي حررت المناطق وحكمتها البديلَ الذي كانوا يرجونه ويطمحون إليه، فقد مارس كثير منها ظلماً واستبداداً ذكّر الناسَ بظلم نظام الأسد واستبداده، ووصل الكبت في بعض المناطق إلى محاربة علم الثورة ومعاقبة من يرفعه في المظاهرات، لو سُمِح أصلاً بالمظاهرات، فقد حرّمها أحد الفصائل وحاربها كما حرّمها وحاربها النظام!

 

الفصائل كلها أو جلّها مارست شيئاً من الظلم وشيئاً من الاستبداد، لكنها لم تبلغ مجتمعةً ما بلغَته جبهة النصرة وحدَها -في إصداراتها الثلاثة- من ظلم واستبداد. والفصائل كلها أنشأت سجوناً مارست فيها التعذيب والتغييب بلا قضاء ولا قانون، لكن كل معتقَلي كل الفصائل لا يبلغون عدد الذين اعتقلتهم جبهة النصرة خارج القضاء ومات كثير منهم تحت التعذيب. أما محاربة علم الثورة وملاحقة رافعيه فلم يجرؤ على صنعه أي فصيل سوى جبهة النصرة، لأنها جريمة فظيعة يعلم أي فصيل أنه سيسقط لو أقدم عليها ويلفظه الناس.

 

*   *   *

 

السبب الثاني الذي كره الناسُ الثورةَ بسببه، ولعله السبب الأهم، هو ما رأوه بين فصائلها من خصام واقتتال.

 

كثيرون لم يميّزوا بين المعتدي والمعتدَى عليه، إمّا لأنهم لم يحبّوا أن يُجهدوا أنفسهم بالبحث والتحقيق، أو لأنهم لا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب. هل تذكرون نموذج المدرّس الجاهل الذي كان إذا رأى نزاعاً بين التلاميذ عاقب الجميع؟ إنه الحل الأسهل للكسالى والحمقى ومعدومي الضمير. هذا المدرّس يعلم أن النزاع لا يبدأ إلا باعتداء تلميذ ظالم على بريء مظلوم، لكنه لا يبالي بإحقاق الحق ولا يهتم بإنصاف المظلوم بقدر اهتمامه بمنع الشغب ووقف النزاع.

 

وهذا ما صنعه المجتمع الدولي بالثورة السورية، فإنه لم يميّز بين النظام الأسدي الذي بدأ بالظلم والقتل والشعب الذي اضطر لحمل السلاح دفاعاً عن نفسه وثورته، لقد ساوى بين الطرفين وسمّى الثورة "حرباً أهلية"! وكذلك صنع المغفلون الذين عجزوا عن التمييز بين البادئ بالقتال بغياً والمضطر إليه دفاعاً، فخلطوا بين الجاني والضحية ولم يروا في الساحة سوى "اقتتال داخلي" ونزاع فصائلي، وإذن فعلى الثورة السلام!

 

*   *   *

 

عندما بدأت الثورة تمشي في طريق العسكرة حذّر كثيرون من مشكلات وأخطار حمل السلاح، وشاركت بقلمي الضعيف في التحذير فنشرت -في آخر الشهر الأول من عام 2012- سلسلة من خمس مقالات عنوانها "العمل المسلح: الوحدة أو إجهاض الثورة"، كانت الثالثة منها بعنوان "أخلاق السلاح قبل حمل السلاح"، قلت في أولها:

 

إذا انتشر السلاح في أيدي الناس ولم تجمعهم جامعةٌ واحدة تنظّم أمرَهم وتضع لهم القوانين فلا مفرّ من الوقوع في هاوية "فوضى السلاح"، وإنها لَهاوية بعيدة القرار، جرّبَها غيرُنا فدفع للخروج منها الثمنَ الثمين ولبث يتجرع مُرّها العددَ من السنين، فاحذروها؛ إياكم والوقوع فيها فإنكم إذا وقعتم فيها لا تعرفون كم تدفعون ولا تعرفون متى تخرجون.

 

وقلت في آخرها: لقد أنذرتكم، وإنما أنا نذير ليس لي من الأمر شيء؛ عالجوا هذا الأمر اليوم ولا تتركوه حتى يستفحل ويستعصي على العلاج، إياكم أن تتهاونوا أو تتأخّروا فتفلت الأمور وتسود بيننا فوضى السلاح لا سمح الله. إني أحذّركم يوماً يأتي على الناس يقولون فيه: ألا ليت عهد الأسود يعود! إياكم أن توصلوا الناس إلى نطق هذه الكلمة، لو فعلتم وفعلوا فلن يسامحكم الناس ولن يسامحكم التاريخ. هذا نداء لكل عاقل ولكل شخص حمل السلاح، أرجو أن يُسمَع وأن يُعمَل به قبل فوات الأوان. اللهمّ إني قد بلّغت.

 

*   *   *

 

حينما كتبت ذلك التحذير قبل خمس سنين لم يصل خيالي -حتى في أقصى درجاته تشاؤماً وجموحاً- إلى تصوّر الحالة التي وصلت الثورة إليها اليوم. لم أتصور أن يأتي يوم يُبيح فيه فصيلٌ من الفصائل لنفسه استباحةَ واسئصال غيره من الفصائل التي تقاتل النظام، ثم يجد في جمهور الثورة مَن يؤيده ويصفق له ويعينه على بغيه وظلمه وباطله.

 

والآن بعد الذي كان: كيف سنحمي الثورة من الضياع؟ كيف سنعيد لجمهور الثورة ثقته في ثورته؟ كيف والتنظيمات القاعدية المسلّحة ما زالت تسرح بلا رقيب وتمارس البغي والظلم والعدوان بلا حسيب؟

 

كم جَنَت القاعدة على سوريا! كم أجرمت جبهة النصرة بحق السوريين وكم أساءت إلى ثورتهم العظيمة!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين