العبادة

 

قالوا: ما هي أفدح أرزاء البشرية؟ قلت: إن رُزْءها الفادح وخَطْبها المُدلهِمَّ الذي أصابها بكل سوء، وألحقها كل ضرر ومكروه، ودهاها في دقاق شؤونها وجلالها هو تلبيسها بين المراحل والآماد، والوسائل والغايات، قالوا: أليس من التلبيس والتخليط أن تَعْرِض لطامَّتنا الكبرى مُرخيا عنان حشوك دون إفصاح وبيان؟ قلت: إن المال وسيلة من وسائل السعادة، ولكن الناس يرون كسبه وحِيازته سعادة، بل لا معنى لها عند الجماهير إلا الطَّول وميسور الغنى، والديمقراطية مجاز إلى حكم صالح، وتعد اليوم فضيلة تسعى إليها الشعوب والأمم، والميزان الذي به يُقَدَّر فلاحها وخسرانها؟ والمساواة ذريعة إلى العدل، وقد تبوأَّتْ محل المطلب، تطمح إليها النساء متوهماتٍ أنها ترفع من شأنهن وتُعلي من مكانهن. فصارت الأسباب مطالب والوسائل غايات، ولُفِّقت لها دلالات غير التي وُضِعت من أجلها، وأهمل الناس غايتهم الحقيقية متساهِين عنها مُوجِّهين أنفسهم نحو تنمية الأموال والثروات، وتأثيل الدراهم والدنانير، وتشييد المنازل والبيوت، وترصيف الشوارع والطرقات، وإنشاء الحدائق والمنتزهات، وتيسير الأسفار والرحلات، وتطوير المدارس والكليات والجامعات.

قالوا: ما الذي توخَّيت بالغاية الحقيقية؟ قلت: هي الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، فقد خُلقت المطايا لتمتطى، والخيول لتركب، وجُعلت المطاعم والمشارب غذاء للإنسان والأنعام وقوة، وكذلك خلق الإنسان لغاية يحققها، لا تصرفه عنها الصوارف ولا تأفكه الأوافك، غير قاعد عنها ولا منشغل بسواها، قالوا: فما غايتنا؟ قلت: غايتنا أن نعبد ربنا عز وجل، لا نشرك به شيئا، فهو المتوحد بالألوهية، لا إله إلا هو، ولا معبود لنا سواه، وهو القائل "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".

قالوا: ما لنا لا نُحس بحافز قوي يدفعنا إلى العبادة دفعا، ولا نشعر بداعٍ غالب يبعثنا عليها بعثا؟ قلت: يثبِّطكم عنها ثلاثة: الأول أن العبادة فضيلة، والفضائل لا تُقتنى بالأماني والأحلام، ولا تُشتهى كما تشتهى الملاذُّ والأهواء، وإنما تُتكسَّب بعمل دؤوب، وجهد وكد، وتُنال بمعاناة وجسر من تعب، وخلق الإنسان عجولا كسولا، يَجمح أن يبذل جهده فيما نفعه آجل متثاقلا متكاسلا متباطئا، الثاني أننا انسلخنا من فطرتنا مناوئين لها عاتين، كالعاقِّ الذي يشمئز من أبويه ناشزا مكابرا، مع أن احترامهما وحبهما في غريزة البشر، وقد أودع الله تعالى عبادته في جذر فطرتنا وأصل خلقنا، ووضع ذكره وحبه في طبائعنا وصميم علمنا، والثالث أننا نستثقل إعمال العقل والفكر غير آلفين له ولا مرتاحين إليه، ولو أننا نظرنا فيما حولنا واعين له مستبصرين لانكشف لنا ضعفنا وعجزنا، وافتقارنا إلى غيرنا في وجودنا ونشأتنا وبقائنا، وقد خلق لنا ربنا ما نحتاج إليه ونعتمد عليه، مسخرا إياه لنا، أليس من الطبيعي والمعقول أن نتساءل إذا كان هذا الخلق الكبير سُخِّر لنا، فما هي غايتنا إذن؟ ولن تكون هذه الغاية أن نُخضع قلوبنا وعقولنا وأجسادنا لما حولنا من الخلق المسخَّر لنا، وإنما يؤدي النظر إلى أن نؤمن بربنا الذي خلق لنا كل شيء ونتوجه إليه بالعبادة والطاعة، بديع السموات والأرض يكفينا ويرعانا فنسلّم له مطيعين.

قالوا: وهل يحتاج إلى أن يعبده الإنسان؟ قلت: لا، إنه حميد مجيد، غني عن عبادة الخلق وطاعته، ولكن الإنسان هو الفقير إلى عبادته، المحتاج إلى طاعته، فإن لم يعبده كان ناقصا أبتر، وكان خلقه عبثا وسُدى، وإذا عبده سعى إلى غايته منعما عليه مرضيا عنه، ونفع العبادة والطاعة إليه يعود، وهي خير زاد له إلى الغفور الودود، والحمد لله ربنا الذي طاعته قربى، وعبادته سعادة، وشكر نعمه نعمة، فيا عجبا كيف يعصيه العاصون الماردون، وكيف يجحده الكافرون الجاحدون؟

قالوا: كيف معاشنا في الأرض؟ قلت: إن الله الذي خلقنا لعبادته لم يُضيِّعنا، ولكنه تكفل بقاءنا، وعليه أرزاقنا، وليس مع الله بنا حاجة إلى أحد، وجعل لنا في الأرض معايش، آخذين منها ما يكفينا ويسد خلَّتنا غير مستكثرين منها ولا مستثقلين بها كواهلنا، فالمعاش ليس غايتنا، ولكنه وسيلة تعيننا على عبادة ربنا جل وعلا، ونعم الراكب الخفيف السريع إلى منزله يتأنَّى برهة في مناخه ثم يسير، وبئس الراكب الثقيل المحمَّل بأعباء تُعيقه عن قطع المسافات متلهِّيًا بمناظر الطريق ومُتَعها مُخلدا إليها.

قالوا: ما هي أنواع العبادة، قلت: أفضلها أن يقيم العبد الصلاة لوقتها في طهورها، ومن الضلال تفاوت الميقات وضياع الصلوات، ويتلو كتاب الله في تدبر، ويُقرنه ما ورد في حمده وتسبيحه في القرآن والسنة، ملازما أوامره وطاعاته، ومجتنبا نواهيه ومعاصيه، ومبتغيا الحلال الطيب من رزقه، ومباعدا للحرام.

قالوا: ما هو حد العبادة؟ قلت: لا حدود للفضائل مادام العبد مطيقا لها ومواظبا عليها، وإنما الوسائل هي التي تُحد وتُقصر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعبد الناس لربه، يصلي شطر نهاره وجل ليله، ويقضي ما يتبقى من يومه في سائر أنواع العبادة والطاعات، وإن عُكَّاف كعبة جلاله يعترفون بتقصيرهم في العبادة والطاعة معلنين أنهم ما عبدوه حق عبادته وما عرفوه حق معرفته، يستعذبون المعاناة في سبيله ويَسْتَحْلون، منعمين سعداء، قال أحد كبار عُبَّاده العارفين: إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن شيء قط عنده أحلى من ذلك، ولا أطيب، ولا ألذ. وقال: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

اللهم لك الحمد أن هديتنا ووفقتنا لعبادتك وطاعتك، يا ذا العرش يا خير معبود، ويا خير مسؤول ويا خير محمود، اللهم ربنا لا نسألك أن تقبل عبادتنا وذكرنا وصلاتنا، ولكنا نسألك أن تعفو عن ذنوبنا وزلاتنا، وتقصيرنا في العبادة، يا خير مدعو، ويا أكرم منجد، اللهم أنعم علينا بمزيد عبادتك وطاعتك، فلا حسنة أفضل منها، ولا نعماء وأيادي أشرف منها، رضينا بك ربا وإلها، إياك عابدين وإياك مستعينين، ذليلة رقابنا، خاضعة أعناقنا، خارَّةً جباهنا، ومُسلمةً لك وجوهنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين