من أحداث السيرة: الأحزاب وبنو النضير (1)

 

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير – وكانوا حلفاء بني عامر – يستعين بهم في المطالبة بديَّة رجلين من بني عامر قتلهما أمية الضمري، وجلس يكلمهم في إعانته فقالوا نفعل، اجلس حتى نطعمك وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مُستنداً إلى جدار بيت، فخلا بعضهم إلى بعض وأشار عليهم حيي بن أخطب أن يطرحوا عليه صخرةً عاتية من فوق البيت الذي يَستند إليه فيقتلوه، وكلَّفوا بذلك أحد رجالهم، فأعدَّ الصخرة ليسقطها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنبأ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به فنهض مُسرعاً من مكانه كأنما يريد حاجة ومضى إلى المدينة، فلما أبطأ لحق به أصحابه رضي الله عنهم وكانوا دون العشرة، وأخبرهم بما همَّت به اليهود، وبعث في طلب محمد بن مسلمة، فقال اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم: أن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده، فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتهم عشراً فمن رؤي بعد ذلك ضربتُ عنقه.

فأخذوا يتجهَّزون في أيام إلا أن حيي بن أخطب بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لا أخرج فليصنع ما بدا له، وذلك بعد أن منَّاهم ابن سلول رأس المنافقين بمؤازرتهم، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّر من معه، وقال: حاربت يهود، ونادى مناديه بالمسير إلى بني النضير، وقام على حصارهم حتى أجلاهم وأخرجهم من المدينة بدمائهم وما حملت الإبل إلى السلاح، وساروا إلى خيبر، ومن ثَمَّ بدأوا مؤامراتهم، فخرج منهم إلى مكة سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق يدعون قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: نحن معكم حتى نستأصل محمداً، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله، فنشطت قريش لذلك، وتذكروا أحقادهم ببدر، فقال أبو سليمان: مرحباً وأهلاً، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، وأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش وتحالفوا وتعاقدوا وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة مُتعلقين بأستارها: ألا يخذل بعضهم بعضاً ولتكونن كلمتهم واحدة على محمد ما بقي منهم رجل.

هكذا تعاهدوا على محاربة الله تعالى في حرمه محتمين بكعبته. 

وكان مما يثير الدهشة والغرابة أنَّ أبا سفيان قال لليهود: أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دين محمد، فنحن عمارُ البيت، ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام، وتناسى اليهود أنَّهم كانوا إذا قابلوا من يَليهم من مُشركي العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون: [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ] {البقرة:89}. 

فخدعوهم وتعمَّدوا الكذب، حيث قالوا لهم: أنتم أولي الحق منه إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى في ذلك: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا] {النساء:51}.

هكذا كان اليهود قبل البعثة يَستنصرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعد البعثة كتموا ما عندهم من الحق، وألَّبوا عليه القبائل، وتحالفوا على قتال النبي مع قريش وتواعدوا على الزمان والمكان، ثم خرجت يهود إلى غطفان وجعلت لهم ثمار خيبر سنة إن هم نصروهم ثم إلى بني سليم فوعدوهم السير معهم.

وخرجت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وخمسمائة وألف بعير، ولاقتهم بمر الظهران سليم، وخرج معهم بنو أسد وبنو فزارة وأشجع وبنو مرة، وكانت عدة الجميع عشرة آلاف.

وجاء ركب خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بخروج القبائل لقتاله، فندب الناس وأحاطهم علماً بالموقف من عدوهم، وشاورهم في الخروج من المدينة أو البقاء فيها والإقامة قريباً من الجبل، وأشفقوا من التعجل بالرأي وذكروا يوم أحد فأحبُّوا الثبات بالمدينة على أن يحفروا خندقاً يحميها أشار عليهم به سلمان الفارسي، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدِّ في الحفر، وبشَّرهم بالنصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة وشاركهم بنفسه، وكما بنى المسجد معهم من قبل جعل يعمل معهم في حفر الخندق حتى ينشطوا فتبادروا إلى العمل. 

ومن عجب أنهم استعانوا في الحفر بما استعاروه من بني قريظة من مسلمي وكراز ومكاتل ولم يتأخر عن العمل أحد من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب مرة بالمعول ومرة بالمسحاة يغرف بها التراب ومرة يحمل التراب، في المكتل والقوم يرتجون، كان يضرب بالكرزين، ويقول: إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. 

وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ينقلان التراب في ثيابهما من العجلة إذا لم يجدا مكاتل، ولما بدأ صلى الله عليه وسلم الحفر قال: 

باسم الله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا=يا حبذا ربا وحب دينا

وكان مما يرتجزون به أثناء العمل:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا=ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا=وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا=وإن أرادوا فتنة أبينا

وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمعول فصادف حجراً صلداً فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه المعول، فضرب ضربةً فذهبت أولها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة بحر الشرق، وكسر الحجر فقال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في الأولى قصور اليمن، ثم رأيت في الثانية قصور الشام، ورأيت في الثالثة قصر كسرى بالمدائن، وجعل يصفه لسلمان فقال: صدقت والذي بعثك بالحق إن هذه لصفته، وأشهد أنك رسول، فقال النبي هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي، يا سلمان لتفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام ولا ينازعكم أحد ولتفتحن اليمن، ولتفتحنَّ هذا المشرق ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده.

وتم حفر الخندق في ستة أيام، ثم عسكر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل سلمان خلف ظهره والخندق أمامه وأصبحت المدينة محصنة بمنازلها وجبلها وخندقها وحصون بني قريظة.

ودنا المشركون من المدينة وكان حيي بن أخطب يقول لأبي سفيان بن حرب إن قومي قريظة معكم فقال له أبو سفيان ائت قومك عسى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة قد صالح اليهود وبني قريظة منهم على ألا يكونوا معه ولا عليه، إلا إن حيي بن أخطب ما زال بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وشقوا الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وأعلم رؤساء قريظة بما صنع.

وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأخبر النبي بما صنعت قريظة من نقضهم العهد فبعث بعض رجاله ليستوثقَ الأمر وأوصاهم إن كان حقاً ما فعلوه أن يلحنوا له رمزاً لئلا يفت ذلك في أعضاء المسلمين ويورث وهناً.

وعندما عاد الرجال وعرف النبي صلى الله عليه وسلم من إشارتهم نقض اليهود لعهدهم كبَّر وقال: أبشروا بنصر الله وعونه، وهكذا يتساوى الإيمان عند احتدام الأمة واشتداد الخطب.

وانتهى الخبر إلى المسلمين فاشتدَّ الخوف وعظم البلاء وظهر المنافقون والمخذلون.

وهمَّت بنو قريظة بالإغارة على المدينة ليلاً مُستعينين برجال من قريش وغطفان، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقام في قبلة يصلي داعياً: (اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم واغلبهم: لا يغلبهم غيرك). 

وهكذا يبدأ الدعاء حين يبدأ الاستعداد ويتم الإعداد.

وتناوش القوم بالنبال والحجارة وأقبل المشركون حتى أتوا مكاناً ضيقاً أغفله المسلمون عبره بعض فرسانهم، وتصدى لمبارزة فارسهم المعلم عمرو بن عبد ود علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار وألبسه درعه، وقال إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وهذا علي أخي وابن عمي ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.

ولما قتل عمرو بن عبد ود هرب الباقون بعد أن قتل منهم كذلك نوفل بن عبد الله المخزومي، وحين عرضت بنو مخزوم استرداد جثته بعشرة آلاف درهم أو بمائة من الإبل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنما هي جيفة خذوه فإنَّ خبيث الدية خبيث الثمن ورفض الدية أو الثمن ترفُّعاً وتعففاً.

ورأى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من خمص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدَّة جوعه فأمر امرأته أن تصنع طعاماً من خبز الشعير وشاةً لهماـ طبخوا بعضها وشووا بعضها، وأتى جابر بالطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن أحب من أصحابه، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه بين أصابع جابر ثم غطَّى الطعام وقال للقوم: أجيبوا جابر يدعوكم، فأقبلوا جميعاً، وكانوا فرقاً عشرة عشرة، وجعلوا يَغرفون من الطعام فما يَرونه ينقص شيئاً، فأكلوا وشبعوا، وأكل جابر وأهله.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حتى اشتدَّ الكرب، فقال: (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إنك إن تشأ لا تعبد). 

وأرسل إلى غطفان أن يجعل لهم ثلث ثمر المدينة وترجع بمن معها فطلبوا نصف الثمر، فأبى عليهم ذلك فقبلوا، وأحضرت الصحيفة والدواة، ليكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه وثيقة الصلح، ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فقالا: ( إن كان هذا أمراً من السماء فامضِ له، وإن كان أمر لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقلت أرضيهم ولا أقابلهم، فقالا يا رسول الله: والله إن كانوا ليأكلون العهز والأثمال في الجاهلية من الجهد ما طمعوا بهذا منا قط، أن يأخذوا ثمرة إلا بشراء أو قرى، فحين أتانا الله بك وأكرمنا بك وهدانا بك نعطي الدنيَّة، لا نعطيهم أبداً إلا السيف، فقال صلى الله عليه وسلم: شقَّ الكتاب فشقَّه سعد، وقالا لرسول غطفان ارجعوا بيننا السيف.

وهكذا نسي الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا فيه من كَرْب وسيطر سلطان العقيدة السليمة مكان أقوى مما تهفو إليه النفوس وقت المحنة.

ثم أقبل نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه يسعى في تخذيل الأحزاب فأوقع بين اليهود وبين قريش، وأوهم اليهود أنَّ قريشاً ستتركهم لمحمد يفعل بهم ما يشاء إن هم خسروا الحرب، وكانت الغلبة للمسلمين وطلب منهم أن يأخذوا من قريش رهائن حتى لا يرجعوا، وذهب إلى قريش وأبلغهم أنَّ اليهود لن تحارب حتى تأخذ منهم رهائن إذا اشتدَّت الحرب ورفضت قريش أن تقدم الرهائن ورفضت قريظة أن تخرج لمناجزة محمد ورجاله، وبينما هم في أخذ وردٍّ وشدٍّ وجذب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه بالدعاء: 

(اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم) وحين استُجيب له عُرف السرور في وجهه صلى الله عليه وسلم، فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى بعث الله الريح على الأحزاب فما يكاد أحدهم يَهتدي لموضع قدمه ولا يقر لهم قدر ولا بناء.

وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لينظر ما فعل القوم، فتسلَّل بينهم ورآهم يَتشاورون في الرحيل، وذهب إلى غطفان فوجدوهم قد ارتحلوا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأذن للمسلمين في الانصراف فلحقوا بمنازلهم.

وهكذا أنعم الله على أهل الخندق، وكفاهم عدوَّهم بعد سوء الظن منهم، ومقالة من تكلم بالنفاق: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] {الأحزاب:9}.

وإلى العدد التالي مع مصير بني قريظة. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الرابعة والثلاثون، شوال 1396 - العدد 10 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين