بين الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه – 2 -

 

في الحلقة الأولى من هذا البحث قدم الكاتب عشر حقائق فيما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه هي:

1 – الإسلام دين ومدنية. 2 – وثيقة الإسلام الخالدة (القرآن) قد حفظت من التحريف. 3 – الإسلام لم يتوقف عن الانتشار. 4 – أكد الإسلام أهمية العقل والعلم وجمع بين الاتجاهين المادي والروحي.

وهذه هي التي تناولها البحث في الحلقة الأولى، أما الحقائق الباقية موضع هذا البحث فهي: 5 – التفسير التاريخي للإسلام يعطي مفهوماً مختلفاً كل الاختلاف مع مقاييس الأديان الأخرى. 6 – أبرز طوابع الإسلام بعد التوحيد (طابع الشمول). 7 – قدرة الإسلام الدائمة على البقاء والاستمرار. 8 – اللغة العربية لغة الإسلام والعرب. 9 – دور العرب والمسلمين في الحضارة لا سبيل إلى تجاوزه أو إنكاره. 10 – الشريعة الإسلامية حيَّة صالحة لكل زمان ومكان.

خامساً: التفسير التاريخي للإسلام:

وفي مجال التفسير التاريخي للإسلام يبدو مدى الفرق بين فهم المسلم للتاريخ وإحساسه وتأثره به وبين غيره.

فالمسلم (1) يحس إحساساً جاداً بالتاريخ، لأنه يؤمن بتحقيق ملكوت الله تعالى في الأرض، يؤمن بأنَّ الله تعالى قد وضع نظاماً عملياً واقعاً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاولون أن يصوغوا واقع الأرض في إطاره، ومن ثم فالمسلم يعيش دائماً كل عمل فردي أو اجتماعي وكل شعور فردي واجتماعي بمقدار قربه أو بعده من ذلك النظام الذي وضعه الله تعالى.

والذي ينبغي تحقيقه في واقع الأرض لأنَّه قابل للتحقيق، والتاريخ في نظر المسلم سجَّل المحاولة الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض، ومن ثَمَّ فكل عمل وكل شعور فردياً كان أو اجتماعياً ذو أهميَّة بالغة؛ لأنَّ الحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل مُتوقِّف على الحاضر.

أما الماركسي فيؤمن بحتميَّة التاريخ بمعنى أنَّ كل خطوة تؤدي إلى الخطوة التالية بطريقة حتميَّة، ولكنه لا يؤمن إلا بهذا العالم المحسوس، بل لا يؤمن في هذا العالم إلا بالمذهب الماركسي وحده، وكل شيء عداه باطل، والماركسي يتبع عجلة التاريخ، ولكنه لا يوجهها، ولا يعيشها بأية مقاييس خارجة عنها.

وما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدين به شعوراً بالعزَّة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع، وإن اعتزاز المسلم بدينه يعم المسلمين على اختلاف القومية واللغة، وأن الغربي لا يفهم الإسلام حق فهمه إلا إذا أدرك أنه أسلوب حياة تصطبغ به معيشة المسلم ظاهراً أو باطناً.

2 – فإذا أردنا أن نطبق نظرية التفسير المادي للتاريخ على الإسلام لم نستطع أن نحصل على نتائج واضحة، يقول العلامة تريتون: إذا صحَّ في العقول أنَّ التفسير المادي للتاريخ يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض أو معظم الظواهر التاريخية الكبرى، وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإنَّ هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلل وحدة العرب، وغلبتهم على غيرهم، وقيام حضارتهم، واتساع رقعتهم، وثبات أقدامهم، فلم يبقَ أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العِلَّة الصحيحة لهذه الظاهرة الفريدة، إنها تقع في هذا الشي الجديد ألا وهو (الإسلام).

رأوا أنَّ الإسلام قوة هائلة فيه حقيقة واقعة، وديناميكية حيَّة، وهو يحثُّ على العمران سبيل الحضارة، وهو الطريق إلى جمع الكلمة ونشر السلام، وتحقيق العدل بما يؤلف بين القلوب، ويَربط بين الشعوب، وقد أنشأ المسلمون مذهباً في الفقه جديراً بالموازنة مع القانون الروماني، وأقاموا حضارة لا تقلُّ عن أي حضارة مُعاصرة في أوروبا، والدين عند المسلمين حقيقة واقعة، وجزء مُتمِّم لحياتهم اليوميَّة، وهو ليس رداء يرتديه الأحبار والعلماء، ومن ثَمَّ فهو يجعل المسلمين إذا وقعت الواقعة وادلهمَّ ليل الخطوب ثابتي الإيمان لا تزعزعهم العواصف والأنواء، والإسلام يكبر من شأن العلم إكباراً لا شائبة فيه فهو فريضة على كل مُسلم وينظر إلى أتباع الأديان الأخرى نظرة تسامح ورفق.

سادساً: طابع الشمول:

وأبرز ما يتسم به الإسلام في نظر الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عنه على السواء طابع (الشمول): يقول ليوبولد فابس: (إنَّ أهم مآتي الإسلام، تلك المآتي التي تميزه عن سائر النظم، هي التوفيق العام بين الناحية الخلقية، والناحية المادية من الناحية الإنسانية، وهذا سبب من الأسباب التي عملت على ظفر الإسلام في إبان قوته أينما حلَّ، لقد أتى الإسلام بالرسالة الجديدة التي لا تجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة، هذه الخاصة الظاهرة في الإسلام تجلو الحقيقة الدالة على أنَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم كان شديد الاهتمام بالحياة الإنسانيَّة في كلا اتجاهيها: في المظهر الروحي والمظهر المادي. 

ونحن نعد الإسلام أسمى من سائر النظم المدنية لأنه يشمل الحياة بأسرها، إنه يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة، والنفس والجسد، والفرد والمجتمع، ونجد الإسلام وحده من بين سائر الأديان يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته الدنيا إلى أقصى حد من غير تضييع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فليس في الإسلام خطيئة أصلية موروثة، وليس من أجل ذلك ثمَّة غفران شامل للإنسانيَّة، إنَّ كل مسلم رهين بما كسب، والإسلام ينظر إلى الحياة بهدوء واحترام، ولكنه لا يعبدها. 

إنَّ النجاح المادي مرغوب فيه ولكن ليس غاية في نفسه، بل يقود الإنسان نحو الشعور بالتبعيَّة الأدبيَّة في كل ما يعمل، والغاية من جميع نشاطنا العملي يجب أن تكون خلقية.

ويرى الدكتور جرمانوس: إنَّ الإسلام يبسط أمام معتنقيه طريقاً وسطاً لا يتجرد فيه الروح من البدن، ولا البدن من الروح، بل يكون وسطاً بين الروح والمادَّة.

ويقول أميل درمنجم: لقد وفق الإسلام بين الاتجاهين المتقابلين: المادي والروحي، وقال الرسول: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) (2)، وفي القرآن: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77}.

ويرى العلامة هورتن الحقيقة حين يقول: في الإسلام وحده تجد (اتحاد الدين والعلم) فهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً مُتمكِّناً في دائرة العلم، وترى وجهة الفلسفة ووجهة الفقه مُتعانقتين فهما واحدة لا اثنتان.

ويقول رينيه ميليه: إنَّ مبدأ التفريق بين عالم المادة وما وراء المادَّة قد تنبَّه له المسلمون فجعلهم يقبلون على علومنا ولا يرون فيها ما يُناقض دينهم المشهور بالتسامح، وإنه لا يمكن للعلم أن يمحو سلطان الأديان على النفوس.

سابعاً: قدرة الإسلام على الاستمرار:

1 – وفي مجال الدعوة إلى الإسلام نجد أنَّ الباحثين المنصفين من الغربيين قد توصَّلوا منذ وقت بعيد إلى أهميَّة الإسلام بالنسبة للبشريَّة، والحضارة الإنسانيَّة، فالإسلام (3) سيشكل نفسه حسب حاجات العصر الحديث، ولكنه لن يدع الحضارة الغربية تغلبه وتسلبه أبناءه الذين كسبهم منذ مئات الأجيال، بعد أن طبعوا بطابعه وصاروا جزءاً منه، وهم يمثلونه في سائر بقاع الأرض، والمسلمون يستمرون في دينهم مهما اتخذوا من الثقافة والمدنية الغربيتين، وفي الجامعات الكبرى نجد كثيراً من المسلمين، ولا يزال مجرى عقولهم إسلامياً، وفيهم ميل قوي إلى التمسك بدين آبائهم وتطبيقه على الحاجات الحديثة.

2 – والإسلام يتفق مع مدنية زماننا الحاضر تمام الاتفاق، والتقدم الذي نشاهده منذ قرن دليل على أنَّ الإسلام يسير مع المدنيَّة جنباً إلى جنب، والإسلام سيظلُّ موجوداً دائماً.

ويعترف ليون روش (4) إنَّه وجد في الإسلام حلَّ المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم: الأولى قول القرآن: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}، فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية، والثاني: فرض الزكاة على كل ذي مال وأخذها غصباً إذا امتنع الأغنياء عن دفعها طوعاً.

ويرى هاملتون جيب: أنَّ الإسلام ما يزال في قدرته أن يقدم للإنسانية خدمة سامية جليلة، فليس هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح نجاحاً باهراً في تأليف الأجناس المتنافرة في جبهة واحدة أساسها (المساواة)، فإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظيمة موضع الدرس فلابد من الالتجاء إلى الإسلام لحسم النزاع.

وما يزال الإسلام يسلك سبيلاً وسطاً بين المتناقضات الشديدة فهو يقف في مكان وسط بين الرأسمالية والبلشفية.

ويرى الدكتور جرمانوس: (أنَّ مستقبل العالم وخلاصه من خطر الاصطدام الاجتماعي الذي يهدده، لن يكون إلا في المزاوجة بين الحضارة الأوربية بدرسها وعلمها، وبين الروح السامية التي تنطوي عليها عقائد الدين الإسلامي، وإني أؤمل أن يكون الإسلام قادراً مرة أخرى على تحقيق هذه المعجزة في سبيل وحدة الجماعة الإنسانية).

ويقول العلامة رينيه ميليه: (يهمني هنا أن أقول إننا لا نستطيع أن نحكم على تلك الأمة بالسقوط، لأنَّ الأمة التي أمكنها أن تنهض في وقت ما، يمكنها أن تعيد نهضتها في المستقبل، لقد أفل نجم المدنيَّة الإسلامية بعدما أثمرت وأينعت فترة طويلة من الزمن، ويكفي هذه المدنية نفحة من نسيم الحياة الجديدة لتسترجع جمالها وعظمتها وجدتها.

إنَّ تلك الصبغة العامة اللينة التي اتصفت بها مبادئ الإسلام هي التي جعلته يقبل بضروب المدنية ولا ينافيها، بل يقابلها بصدر رحب.

ويقول بعضهم: إذا كنا نفرض أن المسلمين يسيرون في طريق المدنية الغربية سيراً حثيثاً فلماذا نعتبر أن هناك مدنيتين، ولماذا لا تفنى المدنية الإسلامية العربية في جسم المدنية الغربية ما دام المسلمون يأخذون العلوم والعلوم أساس كل مدنيَّة؟

على أني لا أشارك أصحاب هذا الرأي في رأيهم، لأنَّ العلم له دائرة محدودة لا يتعداها وما وراء هذه الدائرة توجد أفكار ومُعتقدات، ومُثُل عُليا وقيم لها تأثير كبير. 

إنَّ العلم مهما اتسعت آفاقه فلا يزال أمامه عالم غامض، وإنه لا يمكن للعلم أن يمحو سلطان الأديان على النفوس، وعلى ذلك فلا أرى حداً لبقاء الإسلام، ذلك الدين الذي أتى بأحسن العقائد مُلاءمة للفطرة، والذي سعد حظه بأن امتدَّ ظله على ضفاف البحر الأبيض المتوسط تحت سماء صافية الأديم لم تتلبَّد بالغيوم، فظلَّ نورُه مُتلألئاً في تلك البلاد الواسعة الأطراف، ولم تستطعْ الأحداث أن تطفئ ذلك النور الرباني الساطع، إنَّ مبدأ التفريق بين عالم المادة وما وراء المادة قد تنبَّه المسلمون إليه فجعلهم يقبلون على علومنا ولا يرون فيها ما يناقضُ دينهم المشهور بالتسامح.

ثامناً: اللغة العربية لغة الإسلام والعرب:

لقد كانت اللغة العربية لغة الإسلام ثقافة والأمة العربية قومية، وقد وصفها جورج سارطون بالعبقرية فقال: أتحدث عن عبقرية اللغة العربية، ففي المرتبة الأولى لم يكن الرسول يعرف لغة سوى لغته، ثم إنَّ الإسلام نزل على الرسول باللغة العربية، وهكذا كانت (العربية) لغة القرآن، ولغة الوحي، ولغة أهل الجنة، ومن ثمَّ أصبحت اللغة العربية من اللغات البارزة في العالم، وإحدى الوسائل الأساسيَّة للثقافة في العصور الوسطى، وهي إلى اليوم لم تزلْ لغة أمَّة مُوزَّعة في جميع بقاع الأرض.

وإنَّ اللغة الوحيدة التي عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من أجمل اللغات في الوجود، وإنَّ خزائن المفردات في اللغة العربية غنية جداً، ويمكن لتلك المفردات أن تزاد بلا نهاية، ذلك لأنَّ الاشتقاق المتشابك والأنيق، يسهل إيجاد صيغة جديدة من الجذور القديمة.

ولغة القرآن على اعتبار أنَّها لغة العرب، كانت بهذا التحديد كاملة، وها نحن أيضاً هنا أمام اتفاق عجيب، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه أمي كان يملك ناصية اللغة، إذ آتاه الله بياناً، ووهب اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية على مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد، وقد جعل القرآن الكريم من اللغة العربية وسيلة دوليَّة للتعبير عن أسمى مقتضيات الحياة).

ويقول هنري لاوس: إنَّ اللغة العربية عندي من أهم دواعي وحدة الثقافة بين المسلمين، وأهم أسباب تفوق هذه اللغة إنها اللغة الرسمية، ولغة الدين، ولابد لأجل فهم القرآن والحديث النبوي من معرفة اللغة معرفة دقيقة، وقد قام اللغويون والنحاة بمجهود عظيم في البصرة والكوفة لخدمة هذه اللغة مع ما بين علماء هاتين المدينتين من التباين.

تاسعاً: دور العرب والمسلمين في العلم والحضارة:

وهذا دور قد أنكره الغربيون طويلاً، ثم عادوا فاعترفوا به تحت ضغط المنصفين من الباحثين الغربيين المتقدمين أمثال: توماس كارليل وجوستاف لوبون، وأقربها إلينا (كتاب شمس الله تسطع على الغرب) للكاتبة الدكتورة سجريد هونكه، التي تقول: لقد نادى النبي العربي بالطموح إلى المعرفة في كل مكان وزمان، لأنَّ المعرفة تيسر سبيل الإيمان، وهكذا لم ينصرم القرن الإسلامي الأول حتى ازدهر العالم العربي في مثل محيط من الزهور، وحين كانت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطى وجهالتها، وقف العرب على أبوابها يرفعون مشعل الحضارة طوال سبعة قرون، لشد ما يغبن حقهم من يكتفي بالقول إنهم نقلوا التراث القديم إلى العالم الغربي بعدما حفظوه من الدمار، فذلك يعني في الواقع التقليل من قيمتهم، والسكوت عن الأمور الجوهريَّة في عملهم الحضاري وجعلهم مجرد وسطاء لا غير. 

والحقيقة أنَّ سائر مناحي الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة في الغرب مدموغة بآثارهم، إنَّ قواميس اللغات الأوروبية تنضح بالكلمات العربية سواء ما يتعلق منها بالحاجات اليومية أو الأطعمة أو الألبسة أو العقاقير، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالملاحة وفنونها، واصطلاحاتها، وقد أخذ الغرب عن العرب فكرة البريد، كما نقلوا كثيراً من فنون الزراعة، وقد أخذ العرب الأرقام الهندية في أواخر القرن الحادي عشر، ويعود الفضل الأكبر في تعريف الغرب على الأرقام العربية إلى الخوارزمي الذي نقلت كتبه جميعاً إلى اللغة اللاتينية، وكانت مرجعاً هاماً للعلماء الغربيين.

ويقول جورج سارطون: لقد بلغ المسلمون ما يجوز تسميته معجزة العلم العربي، وقد أوردت كلمة معجزة لترمز إلى تفسير ما يبلغ إليه المسلمون والعرب من الثقافة والعلم، مما يخرج تقريباً عن نطاق التصديق، وليس لذلك شبه في تاريخ العالم كله، ويجب أن ندرك أن ذلك التطور الذي لا يكاد يصدق في العالم العربي، لم يبدأ إلا منذ القرن الثاني للهجرة. 

ويحاول نفر من المؤرخين أن يبخسوا قدر هذا الإنتاج العظيم بادعائهم أنه لم يكن فيه ابتكار ما، وبأنَّ العرب لم يكونوا سوى مقلدين، إن هذا الحكم يكشف عن خطأ فادح، فمن بعض الوجوه ليس ثمة شيء يمكن أن يعد ابتكاراً صحيحاً أكثر من ذلك الظمأ الذي تملك على القادة العرب حواسهم في سبيل المعرفة، على أننا لا نشك أن قسماً من هذه المعرفة احتاج إليه الغرب حاجة مباشرة للإدارة والحكم، وأعظم الابتكارات العربيَّة في الرياضيات والفلك شيئان: علم الحساب الجديد، وعلم المثلث الجديد.

عاشراً: الشريعة الإسلامية

أما الشريعة الإسلاميَّة فقد استطاعت أن تحصل على اعترافات بتقدير العلماء لها، فيقول سانتيلانا في كتابه عن الإسلام الصادر في سنة 1899: إنَّ في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل أن فيه ما يكفي الإنسانية كلها.

ويرى العلامة فمبري أنَّ فقه الإسلام واسع إلى درجة أنني أعجب كل العجب كل ما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لزمانكم وبلادكم.

ويقول العلامة الألماني: كهلر على أثر ظهور رسالة الدكتور محمود فتحي في مذهب الاعتساف في استعمال الحق والخروج عن حدود الحق في غير ما شرع له الحق قال: إنَّ الألمان كانوا يَتيهون عجباً على غيرهم في ابتكار نظرية (الاعتساف) والتشريع لها في القانون المدني الألماني الذي وضع 1787، أما وقد ظهر كتاب الدكتور فتحي وأفاض في شرح هذا المبدأ عند رجال التشريع الإسلام وأبان لها أنَّ رجال الفقه الإسلامي تكلموا فيه طويلاً ابتداء من القرن الثامن للميلاد فإنه يجدر بالعلم القانوني الألماني أن يترك مجد العمل بهذا المبدأ لأهله الذين عرفوه قبل أن يعرفه الألمان بعدة قرون، وأهله هم حملة الشريعة الإسلامية. 

ويقول العلامة ليفي أولمان في مقدمة رسالة الإثبات للدكتور محمد صادق فهمي: إن في هذه الرسالة ما يكفي للاعتقاد بأنَّ التشريع الإسلامي كافٍ وحدَه لأن يكون تشريعاً عاماً، وعلى ضوء كتاب الدكتور صادق فهمي يجب اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً حياً للقانون العصري، ومناطاً للحق في أدواره المختلفة.

ويقول الدكتور هوكنج أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد في كتابه: روح السياسة العالمية: إنَّ سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئاً في حياة الفرد اليومية، وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدراً للنمو والتقدم، وأحياناً يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة، وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية، فالجواب عن هذه المسألة هو أنَّ في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو، لا، بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيراً من النظم المماثلة، والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي، وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها، وإني أشعر بكوني على حق حين أقرر أنَّ الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض.

ويقول العلامة هوتنر ندرون وريفي: إنَّه يوجد في الفقه الإسلامي جميع القواعد الجوهريَّة التي تتعلق بشريعة الحرب، ولم تقتصرْ على الفتح والغنيمة، بل تجاوزتها إلى فرض الضرائب، وذكر المواد المحرَّمة على التجار، ونظائرها مما لا يختلف إلا في أسماء تستعمل في يوم الناس هذا.

ويقول العلامة الكاثوليكي شيرل عميد كلية الحقوق في فينا: إنَّ محمداً الذي تفخر البشرية بانتسابه إليها استطاع أن يأتي قبل بضعة عشر قرناً بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي عام.

بعد هذا الاستعراض السريع للحقائق العشر نقول:

لقد حرص النفوذ الغربي أن يحول دون الدعوة إلى الإسلام بأمرين:

الأول: عزل اللغة العربية في مختلف الأقطار التي احتلها وتجميدها وإحلال لغته بدلاً منها، وإعطاؤها فرصة النمو.

الثاني: إثارة عديد من الشبهات والشكوك حول الإسلام حتى يظل الإسلام دائماً في قفص الاتهام وفي موضع الإبهام، حتى يظل كُتَّابه ومفكروه مشغولين دائماً بالذود عنه، والرد على ما يُثار حوله، وفي موقف الدفاع لا موقف المبادأة، وبذلك لا تُتاح الفرصة له لأن يشقَّ طريق الدعوة والتعرف وكسب مناطق جديدة وعقول جديدة، ولا يصدر ذلك عن تعصب، ولكنه يصدر عن إيمان أكيد بأنَّ الإنسانية لو عرفت الإسلام حق المعرفة لما اختارت لها سبيلاً غير سبيله.

ولكن هذا العمل من أجل الدفاع عن الإسلام، أتاح فرصاً لا حدَّ لها للكشف عن جوهر الإسلام، ولإبراز خصائصه، ولإتاحة الفرصة للذين قرأوا ما وجه إليه من شبهات أن يجدوا ردوداً حاسمة عن كل ما عرض لهم، وقد أتاحت هذه الفرصة تحقيق أمرين:

الأول: إنَّ الإسلام قد كشف عن منهج في البحث غاية في الدقة والسماحة، بعيداً عن الغموض وبعيداً عن التعصب، وخالياً من عبارات القدح، أو كلمات الهجاء مع السماحة والأخوة الإنسانية.

الثاني: إنه هزَّ عقول المفكرين المسلمين فأزال عنهم طابع الجمود، وحثهم على البحث والتقصي وإبراز جوهر الإسلام في أسلوب جديد ومنهج عصري، و كشف في نفس الوقت عن طابع الاجتهاد والتجديد والحركة وقدرة الإسلام التي لا تختلف عن الالتقاء بالحضارات والثقافات، والامتزاج بها، وامتصاص خير ما تقدمه، ومن هنا استطاع (جوهر الفكر الإسلامي العربي) أن يبرز على حقيقته، بعد أن أزيحت عنه أغشية الجمود والتقليد التي فرضتها ظروف مرحلة (الضعف) التي مرَّ بها الإسلام خلال القرون الأخيرة. 

وقد كان إبراز هذه القيم على وجهها الصحيح، قادراً أن يرد بعض خصوم الإسلام عن خطئهم، وأن يكسب إلى صفه كثيراً من طلاب المعرفة الخالصة لوجه الحق، ومن هنا التقت الدعوة إلى الإسلام مع الدفاع عنه، وما زال سبيل الدفاع عن الإسلام في حاجة إلى مزيد من الجهد، بوصفه أحد سبل التعريف بالإسلام والدعوة إليه، ذلك أنَّ النفوذ الأجنبي وحركات التغريب والشعوبية النابعة من هذا النفوذ، ما زالت تواصل عملها في إثارة الشبهات وإعادة ترديدها على نحو أو آخر.

ولا يكفي أن نواجه هذه الشبهات بالرد عليها ودحضها على أسلوبنا ومنهجنا العربي الإسلامي فحسب، بل إنه كلما وجدت إجابات كتبها مفكرون منصفون من غير المسلمين كان ذلك أبعد أثراً في النفوس وذلك لعدة أسباب:

أولاً: أن يكون قد شهد بالحق شاهد من أهل أولئك الخصوم.

ثانياً: إن كلمة الباحث المسلم قد تكون كلمة (الضرورة) بينما كلمة الباحث غير المسلم هي كلمة (الإنصاف).

ثالثاً: تتميز كلمة الباحث الأجنبي عن الإسلام بأنه خروج من النفس والعقائد الأصلية، إذ لا يمكن أن يدافع أحد عن غير دينه إلا بعد أن يكون قد قطع مرحلة طويلة في الدرس والتأمل حتى يبلغ مرحلة اليقين بما يقول.

رابعاً: إنَّ الكاتب الأجنبي الذي وُلد في غير بيئة الإسلام، وارتبطت مَفاهيمه بدين آخر وبيئة غير بيئة العرب، مع ما هو معروف من ارتضاع لبان كراهية الإسلام في أغلب ثقافات الأمم الغربية، يجعل للكلمة أهميتها.

خامساً: من أهم ميزات كلمة الكاتب الغربي أنه عاش حياة دينه ومجتمعه، ولذلك فإن مقارنته إنما تصدر عن تجربة أصيلة، وعن مقارنة أكيدة، وعن تطلع صادق إلى مفهوم الإسلام وما وراءه.

سادساً: إنَّ الإسلام لم يكن بالقدرة التي تجعله قادراً على شراء أقلام كُتَّاب الغرب، حتى يمكن أن يكون ذلك دافعاً من دوافع كتاباتهم، وبذلك يمكن القول بأنَّ الكتابات المنصفة عن الإسلام إنما جاءت تلقائية وبغير دافع مادي على الإطلاق.

سابعاً: ومن أجل هذا نجد كثيراً من الباحثين يطمئنون إلى كلمة الكاتب الغربي، ويرونها حجة في البحث، ودليلاً أكيداً على الحقيقة، وقد جرَّ هؤلاء المنصفون بعض كتابنا العرب إلى اكتشاف الحقيقة التي كانت بين أيديهم أصلاً.

ثامناً: إنَّ وجهة النظر الأخرى إذا كانت منصفة ربما تكون أكثر جُرأة وحيوية من كلمة صاحب القضيَّة، وفي الكلمات المعروضة تقدير لا حدَّ له لجوانب من الفكر العربي الإسلامي ما نزال نحن نتحاماها، ولا يكاد البعض يؤمن بها كل الإيمان، بينما يؤمن بها هؤلاء الكُتَّاب.

هذا، ولا يمنع ذلك من الإشارة إلى أنَّ هذا التيار الجديد في الفكر الغربي لإنصاف الإسلام ما زال ضعيفاً إزاء كتابات خصوم الإسلام من المبشرين وبعض المستشرقين وكتاب الاستعمار والتغريب، ولكن من المعتقد أن يصبح يوماً ما مصدراً للضوء في مجال الحيرة التي تمرُّ بها الإنسانية اليوم وتتطلع إلى نور جديد.

ولا يستبعد أن يصل الفكر الغربي عن طريق هذا التيار إلى تحول في طريقه.

وعلى المسلمين أن يهبوا لخدمة دينهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

 

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي، 1 صفر 1387 - العدد 26 ).

 

---------

(1) ولفرد كانتول سميث (الإسلام في العصر الحديث).

(2) ليس هذا حديثاً، ومع ذلك فهو يمثل توجيهاً إسلامياً حقيقياً.

(3) كريستان ستوك هير حرونجه

(4) ثلاثون عاماً في الأسلاك: ليون روس

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين