قصة تنحية الشريعة (1)

 

إن من المصائب العظام، والحوادث الجسام، ما وقع في القرنين الماضيين من تنحية الحكم بشريعة الإسلام في الأكثرية الكاثرة من الدول العربية والإسلامية، وإحلال القوانين الوضعية البشرية مكان الأحكام الإلهية والتشريعات النبوية، وتضييع الحاكمية التي هي مفتاح نصر أمة الإسلام وعنوان فلاحهم.

ولتصور فداحة الخطب فإني أقول: إنه لا يوجد في الأرض اليوم كتاب سماوي صحيح إلا القرآن، ولا شريعة منسوبة إلى نبي إلا شريعة النبي العدنان صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما عدا ذلك إنما هو خرافات وكذب، أو تخليط وأوهام، أو تحريف وتبديل وتغيير، فإذا ضيعت أمة الإسلام الحكم بكتاب ربها - تعالى – وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يبقَ في الأرض صلة بتشريع الإله الحق والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ولم يعد للناس مرجع صحيح يستمسكون به ويعتمدون عليه بعد تضييع العروة الوثقى وتنحية الشريعة المُثلى، واستوى المسلمون مع غيرهم في التحاكم إلى الطاغوت والرضا بغير ما أنزل الله، والعياذ بالله، وكفى بهذا مصيبة تنسي ما قبلها من المصائب، وتطوي ما بعدها من النوائب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وسآتي على قصة تنحية الشريعة بإيجاز، مبتدئاً إياها بالدولة العثمانية العلية، ثم بما جرى في البلاد العربية والإسلامية عقب احتلال أولها واستقلال آخرها، وإلى يوم الناس هذا - إن شاء الله تعالى - مع بيان الجهود التي بذلت لاستعادة الحكم بالشريعة من قبل الجماعات والهيئات والأفراد.

والله تعالى هو المأمول أن يمتعنا بالحكم بشريعته، والعودة إلى الاستمساك بعروة القرآن الوثقى، والسُّنة المحكمة الوسطى، وأن يجعلنا من جنده العاملين لتحقيق ذلك، وإسعاد البشرية بما هنالك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

1- معنى الشريعة:

الشريعة لغة: مأخوذة من الشريعة التي هي مورد الناس للاستقاء، وسميت بذلك لوضوحها ولظهورها، ومورد الناس للاستقاء سُمي شريعة؛ لأنه لا يمكن لأي حيوان أن يعيش بدون ماء، وكذلك ما أنزل الله على عباده سُمي شريعة؛ لأن حياتهم تتوقف عليه، فإن لم يكن شرعٌ من الله تعالى كانت حياتهم ليست بصالحة. (مدخل الفقه الإسلامي: ص 11).

ومعنى الشريعة اصطلاحاً: هي ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام.

وعرفها بعضهم بقوله: الشريعة هي النظم التي شرعها الله تعالى أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها علاقته بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون، وعـلاقته بالحياة. (مدخل الفقه الإسلامي، ص 12).

والشريعة تشمل كل ما أنزل الله تعالى من أحكام سواء أكانت هذه الأحكام عقدية أم عملية أم أخلاقية.

وقد جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية» (1/16): ما يلي:

«أَمَّا لَفْظُ شَرْعٍ فَهُوَ مَصْدَرُ شَرَعَ لِلنَّاسِ كَذَا؛ أَيْ سَنَّ لَهُمْ كَذَا، ثُمَّ اسْتُعْمِل هَذَا اللَّفْظُ فِي الْمَشْرُوعِ، فَيُقَال: هَذَا شَرْعُ اللَّهِ؛ أَيْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَسَنَّهُ لِعِبَادِهِ.

وَالشَّرْعُ فِي اصْطِلاَحِ عُلَمَاءِ الإسْلَامِ: هُوَ مَا سَنَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَحْكَامٍ عَقَائِدِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ أَوْ خُلُقِيَّةٍ.

الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَتَبَةُ وَمَوْرِدُ الشَّارِبَةِ، وَمِثْلُهَا شِرْعَةٌ.

وَعِنْدَ عُلَمَاءِ الإسْلَامِ تُطْلَقُ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْعِ.

وَفِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ شَاعَ إِطْلاَقُ لَفْظِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْكَامٍ عَمَلِيَّةٍ، فَهِيَ بِهَذَا الإطْلاَقِ تَكُونُ مُرَادِفَةً لِلَفْظِ فِقْهٍ بِالاِعْتِبَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ.

وَبِهَذَا الْعُرْفِ الْمُسْتَحْدَثِ أَطْلَقُوا عَلَى الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تُعْنَى بِدِرَاسَةِ الْفُرُوعِ اسْمَ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ.

والصحيح والصواب أن الشريعة هي كل الدين؛ عقيدة وعبادات وأخلاقاً ومعاملات، فقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13)، وما الذي أوحاه الله جل جلاله إلا الإسلام كله؟

وقد قال في تأييد هذا المعنى د. صلاح الصاوي، حفظه الله تعالى: «الشريعة التي نؤمن بها هي كل ما شرعه الله لعباده في الدين، فهي بمعناها العام تشمل كل ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات..». (الهوية والمرجعية الإسلامية، ص 158).

وإنما سقت ذلك لتأكيد النفي لما هو مستول على عقول أكثر المشايخ والمثقفين من أن الإسلام هو عقيدة وشريعة، لا بل الشريعة هي الإسلام كله، والله أعلم.

2- فضل الشريعة:

هل هناك مقارنة بين قانون صنعه الإنسان الضعيف القاصر وتشريع منزل من لدن حكيم خبير؟!

وهل هناك مقارنة بين شريعة منزلة من عند الله تعالى صالحة لكل زمان ومكان لأن الله تعالى يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، وهو الذي خلق البشر ويعلم ما يصلح لهم؟ فهل هناك مقارنة بينها وبين قوانين وضعية قاصرة تُعدل حيناً بعد حين؟

وهل يُقدِم مسلم عاقل على تنحية الشريعة وإحلال أفكار البشر مكانها، مما يسمى قوانين وضعية؟

هذا، وقد قال تعالى في شرعه الذي أنزله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52}) (الشورى).

فجعل الله – تعالى - شرعه نوراً وضياءً وهدى، وجعل منزلته للإنسان بمنزلة الروح؛ لأن حاجته إليه كحاجته للروح.

وشريعتنا الإسلامية هي خاتمة الشرائع السماوية، وهي عامة لكل البشرية إلى قيام الساعة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {28}) (سبأ)، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {158}) (الأعراف).

القانون الوضعي لا فائدة فيه ولا اعتبار له بجانب شريعة الله - عز وجلّ - حتى لو كان بعض مواد القانون الوضعي تتفق مع الفقه الإسلامي، ولكن المعتبر في ذلك نية واضع القانون والآخذ به.

التشريع الإسلامي منزه عن الخطأ وهوى النفس، أما القانون الوضعي ففكرته محدودة ونظره قاصر؛ لأنه صادر من البشر، وهم يخضعون للأهواء والنزعات، وتغلب عليهم العواطف البشرية فيقع واضعوه تحت تأثير هذه العوامل، ولا يدركون حقائق الأمور، ولا يحيطون بها علماً، لذلك كان القانون مهما ارتقى في سلم المعرفة قاصراً، لا يستطيع أن يُصلح حياة الناس، وكان عرضة للتبديل والتغيير، وستظل حياة الناس في اضطراب دائم كما هو الملموس من أحوال المجتمعات التي يحكمها القانون الوضعي. (مدخل الفقه الإسلامي، ص 49).

هذا، وقد قال تعالى قاطعاً كل قول: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ {50}‏) (المائدة).

وقال شيخ الأزهر الأسبق محمد مصطفى المراغي، رحمه الله تعالى: «لا يكشف عنا ما غشينا من هذه الغمة العميمة إلا العمل بشريعة الإسلام والاحتفاظ بتقاليد الشرق الصالحة، والرجوع إلى شرع الله في أمور الدنيا من بدائه العقل وموجبات الفطرة؛ لأن الله جلت قدرته هو الذي خلق الناس ودحا الأرض، فهو أعلم بغرائز خلقه وأسرار كونه، وهو أعلم بما سينشأ عن تصادم الغرائز من نزاع، وما سيشتد على خيرات الأرض من تنافس؛ وهو أعلم بما سينتجه تفاوت الناس في القدرة والحيلة من بغي الأقوياء على الضعفاء، وجور الأغنياء على الفقراء؛ فشرعه - وهو الخبير البصير - حقيق أن يكون حلاً حاسماً لمشكلات الحياة، وعلاجاً شافياً لأدواء المجتمع، ودستوراً جامعاً تنتظم عليه شؤون الأفراد وأحوال الأمم في كل أرض وفي كل عصر وفي كل جنس.

أما تشريع الناس للناس فهو عرضة للنقص أو للخطأ من جهة الجهل أو من جهة الهوى أو من جهة التطبيق؛ وهو إن صلح لعصر لا يصلح لغيره، وإن أفاد في أمة لا يفيد في أخرى، فما بالنا ندَع حكم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم نحكّم في أنفسنا وأموالنا وأحوالنا شرائع قد لا تتفق مع عقائدنا، ولا تأتلف مع عوائدنا، ولا تستطيع أن تحيط بما أحاط به الله من خفايا الصدور ومفاجآت الغيب؟!

لا يزكو بأهل القبلة أن يولوا وجوههم شطر المغرب يأخذون عنه من المذاهب والنظم والتقاليد ما أُضل به أهله، إنما النور في الشرق مطلع الأديان، والهدى في شريعة الله مُنزل القرآن، والدليل في سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الهجرة، والسبيل ما سلكه السلف الصالح فأوفى بهم على الغاية». (مجلة «الرسالة»، السنة العاشرة، القسم الأول، العدد 449).

وقال الأستاذ الشهيد - بإذن الله تعالى - عبدالقادر عودة: «الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية:

الميزة الأولى: الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.

الميزة الثانية: السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو؛ أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائماً من مستوى الجماعة، وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.

الميزة الثالثة: الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.

هذه هي الميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية، وهي على تعددها وتباينها ترجع إلى أصل واحد نشأت عنه جميعاً بحيث يعتبر كل منها أثراً من آثاره، وهذا الأصل هو أن الشريعة الإسلامية من عند الله ومن صنعه، ولولا أن الشريعة من عند الله لما توافرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام، تلك الصفات التي تتوافر دائماً فيما يصنعه الخالق، ولا يتوافر شيء منها فيما يصنعه المخلوق». (التشريع الجنائي في الإسلام، 10/ 24 - 25).

وهذا الذي سقته إنما هو نَزْر يسير من فضل الشريعة الجليلة.

وسنذكر في المقالة القادمة، إن شاء الله تعالى، الأسباب التي أدت إلى تنحية الشريعة والاحتكام للقانون الوضعي ونذكر القصة الأليمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين