واجبنا في خدمة الفقه الإسلامي

 

من المتَّفق عليه بين علماء المسلمين أنَّ كل أفعال المكلفين وأقوالهم، سواء أكانت عباداتٍ أم معاملات، أو جنايات، أم من أي نوع من العقود والتصرفات – قد شرع الله لها أحكاماً، لأنَّه سبحانه لحكمته البالغة ورحمته الواسعة لا يترك الناس سُدىً، وهذه الأحكام قد دلَّ سبحانه على بعضها بآيات قرآنية أوحى بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على بعضها بسنن قوليِّة أو فعليِّة صدرت من رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك باقيها من غير دلالة عليها بقرآن ولا سُنَّة، ولكنه نصب لها أماراتٍ، ومهَّد سُبلاً للاهتداء إليها ليجتهد المجتهدون في استنباطها بواسطة هذه الأمارات والطرق.

قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية ما خلاصته: (كل ما نزل بمسلم فلله تعالى فيه حُكم، وعلى الحق فيه دلالة، وعلى المسلم إذا كان فيما نزل به حُكم لله تعالى بعينه اتِّباع حُكم الله سبحانه، وإذا لم يكن فيه حُكم لله تعالى بعينه فعليه الاجتهاد بالقياس).

ومجموعة الأحكام الشرعيَّة العمليَّة المستفادة من القرآن أو السُّنَّة فيما ورد فيه قرآن أو سُنة، والمستفادة بالاجتهاد بواسطة الأمارات فيما لم يرد فيه قرآن أو سنة، هي الفقه الإسلامي.

وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تكوَّنت المجموعة الأولى من هذه الأحكام، من أحكام دلَّت عليها آيات القرآن، وأحكام دلَّت عليها سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أحكامها أحكاماً في وقائع حدثت فعلاً، وما كانت أحكاماً لوقائع فرضية، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وقعت واقعة، أو عُرضت عليه خصومة، أو استُفتي في حادثة، تطلَّع إلى الوحي الإلهي، فإذا أوحى الله تعالى إليه بآية أو آيات فيها حكم ما وقع له أو عرض عليه أو استفتي فيه، بلَّغ المسلمين ما أوحي إليه، ونفَّذ حكم ربه.

من هذا قوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا] {البقرة:219}، وقوله سبحانه: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] {البقرة:222}، وقوله عزَّ شأنه: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ...] {النساء:176}.

وإذا لم يوحِ الله تعالى إليه بآية أو آيات فيها حُكم ما وقع له أو سئل عنه، عَرف أنَّ الله سبحانه أراد منه أن يجتهد ليتعرف حُكم الله تعالى باجتهاده، فاجتهد وأجاب وأفتى وقضى، من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في البحر الملح: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، جواباً عن سؤالهم: أنتوضأ بماء البحر؟. 

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) جواباً عن سؤالهم بهذا الشأن. 

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بمَ يستحلُّ أحدكم مالَ أخيه) جواباً عن سؤالهم: أيحلُّ بيع الثمر على الشجر قبل أن يبدو صلاحه؟

فأحكام المجموعة الأولى من الفقه الإسلامي كانت أحكاماً في حوادث واقعيَّة، ومصدرها الوحي القرآني، أو اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم.

وفي عهد الصحابة طرأت للمسلمين طوارئ لم تطرأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحدثت وقائع، وجدَّت خصومات واستفتاءات، ولابد من معرفة حكم الله تعالى فيها، ولا سبيل إلى معرفته بالوحي لانقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسبيلُ إلى معرفته هو الاجتهاد بالأمارات والدلائل على السنن الذي اجتهد به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا اجتهدَ بعضُ الصحابة الذين آنسوا من أنفسهم الأهليَّة للاجتهاد، لعلمهم بالقرآن والسنة، وطول صُحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ووقوفهم على أسباب نزول الآيات وورود السنن، وفهمهم حكم التشريع، اجتهدوا في تبيين ما دلَّت عليه آيات القرآن، وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام، واجتهدوا في استنباط الأحكام لما حدث من الوقائع والخصومات ولم يدلَّ على حكمه قرآن ولا سُنة، وباجتهادهم هذا ساير التشريع الإسلامي مصالح المسلمين، وما قَصُر عن حاجاتهم، وكانوا على سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، لا يجتهدون إلا فيما حدث من الوقائع وما عرض من الخصومات، وقد انقضى عصر الصحابة وهو القرن الهجري الأول. 

ومجموعة الفقه الإسلامي تتكون من:

1 – أحكام وردت في القرآن.

2 – أحكام وردت في السنة.

3 – أحكام أخذها مجتهدو الصحابة من ظواهر القرآن والسنة.

4 – أحكام استنبطها مجتهدو الصحابة بالقياس والاستصلاح وسائر الأمارات الشرعية في الوقائع التي لم تدل على أحكامها نصوص ولا ظواهر في القرآن والسنة.

وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين، وهو القرنان الهجريان الثاني والثالث، اتسعت أرجاء الدولة الإسلامية، وانتظمت بلاداً وشعوباً مختلفة الأجناس والنظم والعادات والمعاملات، ودخل في دين الإسلام كثيرون ممن عاشوا في بيئة الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية.. 

هذا، وعوامل كثيرة أخرى أوجدت في البيئة الإسلامية أنواعاً جديدة من النظم والمعاملات، والعقود والتصرفات، وخلقت فيها أنواعاً جديدة من الخصومات والمنازعات، ودعت إلى تدبير مصالح وحاجات ما كان للمسلمين بها عهد من قبل، فرأى المجتهدون من التابعين وتابعيهم، والأئمة الأربعة ونظرائهم، أن عليهم واجباً أن يسايروا بالتشريع والتقنين مصالح الناس وحاجاتهم، وأن يثبتوا أن شريعة الإسلام لا تضيق بحاجة ولا تقصر عن مصلحة، ورجعوا إلى كتاب الله تعالى وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى آثار أصحابه وفتاويهم، واجتهدوا في استنباط الأحكام لكل ما واجه المسلمين من وقائع وطوارئ، وما وجدوا في مصادر الشريعة ضيقاً ولا جموداً فشرَّعوا لما وقع ولما يحتمل وقوعه. 

وكانت قوانين الدولة الإسلامية على اتساع أرجائها، واختلاف شعوبها، وتعدد نظم أهلها وعاداتهم، كلها قوانين إسلامية مستمدة من المصادر الشرعية، لا تقف في سبيل مصلحة، ولا تحول دون نفع. 

وكان الفقه الإسلامي، في دقة التحليل وأحسن التعليل وجودة الصياغة والتعبير، يفوق الفقه الروماني، وأسمى ما عرف من فقه الأمم، وقد ساير الظروف وجارى العصور، ومشى مع الحاجات المتجدِّدة، واتسع للمصالح المختلفة، ولكن الحريَّة المطلقة في الاجتهاد أدَّت إلى تشعب الآراء، واتساع دائرة الخلاف، وضعف الوازع الديني في النفوس أدَّت إلى الاجتراء على الاجتهاد ممن ليسوا له أهلاً، وإلى متابعة الأهواء والحرص على رضا الولاة والأمراء، فسدَّاً للذريعة إلى الشر والفساد، وصدّاً لباب الاجتهاد في وجه من يدَّعونه و ليسوا أهلاً له، وفي وجه من يسترضون به ذوي السلطان والجاه، سادت في المسلمين فكرة سد باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وجمد هذا الفقه من أواخر القرن الرابع الهجري، وصار الاجتهاد المطلق بالرجوع إلى ينابيع الشريعة ومصادرها جرأة على الدين، وخروجاً على جماعة المسلمين، وأوجبوا على المسلمين تقليد إمام من الأئمة المجتهدين الذين ضبطت مذاهبهم، ونقلت بالتواتر أقوالهم.

ولكن المسلمين بسد باب الاجتهاد عالجوا داء بداءٍ شر منه، واتقوا شراً ووقعوا في أشد منه، لأنهم اتقوا ما نجم من المفاسد عن الاجتراء على الاجتهاد من غير أهله، وعن متابعة الأهواء والشهوات بالإفتاء والاستنباط، وعن كثرة تضارب الآراء والأقوال واتساع دائرة الإصلاحات والمنازعات، ولكنهم و قعوا في جمود الفقه الإسلامي، ووقوفه عن مُسايرة العصور، وقصوره عن الحاجات والمصالح والتطورات، وما كانت لهذا الوقوف آثار خطيرة في القرون التي تلت عصر الاجتهاد؛ لأنَّ المصالح كانت مُتشابهة، والتطورات كانت مُتقاربة، ولكن لما دار الزمن دورته، واتصل الشرق بالغرب سياسياً ومالياً وعلمياً، وتجارياً وتبادل المسلمون وغيرهم أنواعاً من النظم والعقود والمعاملات لا غنى للأمم عنها في تطورها، وجد المسلمون أنفسهم تجاه وقائع ونظم ومُعاملات وعقود لم يشرع المجتهدون السابقون أحكاماً لها، ولا يوجد في اللاحقين من يشرع لها، ولهذا لجأت بعض الدول الإسلامية على القوانين الأجنبيَّة، واقتبست منها التشريعات التي تساير بها الأزمان والتطورات، وتمشي بها في ركب الأمم المتحضِّرة؛ لأنها لا يمكنها أن تعيش وحدَها في عزلة بقوانين وقفت عند القرن الرابع الهجري، وبهذا صار كثير من المسلمين يخضعون لقوانين من غير الفقه الإسلامي، وصار الفقه الإسلامي تراثاً قديماً لا يُرجع إليه إلا في العبادات وما ألحق بها من الأحوال الشخصية ونحوها.

وكان مُقتضى الحكمة أن لا تعالج فوضى الاجتهاد بسدِّ بابه، وإنما تعالج بتنظيم الاجتهاد وسنِّ النظم الكفيلة بالقيام به على أكمل وجه لتجني الأمَّة ثمراتها، وتوقى من آفاته.

كان من الحكمة أن تُعنى كل حكومة إسلامية بتكوين هيئة علميَّة من خيرة رجال الدين والقانون والاقتصاد، تكون مهمتها مُسايرة التطورات بالتشريع، ومُواجهة ما يحدث من الوقائع، وما يجدُّ من الحوادث، فيكون الاجتهاد للجماعة لا لفرد، ويكون أعضاء الجماعة من خيرة من يوثق بعلمهم ودينهم وصدق نظرهم.

وبهذا كان الفقه الإسلامي بقي مُسايراً الحاجات والمصالح، مُتمشياً مع العصور، كما كان في القرون الهجريَّة الأولى الأربعة، وأمن المسلمون فوضى الاجتهاد الفردي، وأهواء ذوي الأغراض.

والذي يَعنينا أن نبحث فيه الآن هو ما يجب علينا أن نقوم به ليعود للفقه الإسلامي مجده، وليزول ما تراكم عليه في قرون جموده.

فأول ما يجب علينا: هو أن نطالب بإيجاد هيئة من علماء الدين ورجال القانون والاقتصاد تكون لها صبغة رسميَّة تَرجع إليها الأفراد والحكومة لمعرفة حكم الشريعة في عقود التأمين وبيع أوراق اليانصيب، وشركات الادِّخار، وأعمال البنوك والمصارف، والتصدير والاستيراد والتوفير، وأعمال بورصة القطن، وكل ما يواجه المسلمين الآن من المصالح المتجددة، والمضاربات المتعددة؛ لأنَّ المسلمين لا يمكن أن يعيشوا في عزلة لا يتبادلون مع الأمم علاقات ومُعاملات، ولابدَّ لهم أن يعرفوا حكم الله تعالى في أعمالهم، والمسلم الآن إذا استفتى في حكم بيع أوراق اليانصيب مثلاً لا يجد من يدرس هذا التعامل ويوازن بين ما يجلبه من نفع وما ينجم عنه من ضرر، وعلى ضوء هذه الموازنة يحكم.

وكذلك إذا استفتي في عقود التأمين أو الادِّخار أو التوفير لا يجد من يدرس هذه المعاملات ويتبين إن كانت فيها مصالح للناس وليس فيها إضرار بأحد ولا أكل مال أحد بالباطل، ويَبني حكمه على ما يتبيَّنه، وكل ما يسمعه المسلم في شأن هذه المعاملات أنها من المقامرة أو من الربا من غير درس ولا مُوازنة، وكل واحد من المفتين يتجه في فتواه اتجاهاً غير اتجاه أخيه، والمسلم يقع في حيرة من هذا التضارب، فالواجب أن يعهد بهذا إلى الجماعة ولا يترك للأفراد، وعلى الجماعة أن تسير على الدستور الاجتهادي الذي سار عليه المجتهدون في عصور الاجتهاد، فما فيه نصٌّ على حكمه في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم ينفذ فيه حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما لا يوجد نص على حكمه في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من مُعاملات الناس وعقودهم وتصرفاتهم وسائر أمور دنياهم يُوزن بميزان المصلحة، وينظر فيما يجلبه من نفع للأفراد والجماعات، فما وجد فيه نفع للناس من غير إضرار بأحد أباحته، ولو خالفت أقوال المجتهدين السابقين وشروطهم وقواعدهم؛ لأنَّ الأحكام الدنيوية ما قصد الشارع بها إلا تحقيق مصالح الناس، وحيثما وجدت المصلحة وجد شرع الله تعالى، ومحال أن يكون المجتهدون السابقون قدَّروا مصالح عصرهم ومصالح العصور المستقبلة، وغير مقبول أن ننظر الآن في تقدير المصالح بالعيون التي كان ينظر بها المجتهدون في القرن الثالث الهجري.

وثاني ما يجب علينا في خدمة الفقه الإسلامي: أن نعنى بالتراث الذي خلَّفه لنا المجتهدون والفقهاء السابقون، فنخرج كتبه إخراجاً حسناً يُلائم البيئة التي نعيش فيها، وييسِّر الانتفاع بالآراء القيِّمة والكنوز الثمينة التي اشتمل عليها، وأخصُّ ما يجب أن نُعنى به أن يتبين الباحث في كل باب من أبواب الفقه الحكم الذي وردَ به نص في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحكم الذي مصدره اجتهاد المجتهد، ليعلم المسلم الأحكام التي هي قانون واجب اتباعه في كل زمن وفي أية بيئة.

والأحكام التي هي اجتهاديَّة أساسها النظر من غير معصوم، وتقبل أن تُعدَّل وتبدل حسب تبدل المصالح وتطور البيئات.

وثالث ما يجب علينا في خدمة الفقه الإسلامي: أن نُفْرِدَ بالبحث بعض موضوعات لها صلة وثيقة بحياتنا الحاضرة، لنجليها للمسلمين أوضح جلاء، وبين ما أراد الإسلام بها، مثل: الربا، والتصوير، والمقامرة، ونحوها، فإنَّ عدم جلاء المراد شرعاً بهذه الكلمات جعل كثيرين من المسلمين يتحرَّجون من أنواع كثيرة من المعاملات، ويحاربون فناً يراه أكثر الناس من أجمل الفنون وهو التصوير، ويعترضون كثيراً من أنواع المسابقات، فلابدَّ من تبادل البحث في هذه الموضوعات ليقف المسلم على حقائقها.

ورابع ما يجب علينا: هو أن نوازن بين أحكام الفقه الإسلامي وبين القوانين الوضعيَّة، وبين الأصول الكليَّة التي بُنيت عليها الأحكام من النوعين؛ لأنَّ هذه الموازنة تجلي حكمة التشريع الإسلامي، وتُمهِّد السبيل إلى اقتباس قوانيننا من شريعتنا، وتظهر فضل سلفنا الصالح من المجتهدين والفقهاء، وتبعث في الفقه الإسلامي حياة قد تعيده إلى مجده الأول وليس ذلك على الله تعالى بعزيز.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السادس، المجلد الخامس، صفر 1371، نوفمبر 1951).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين