فضائل الإيمان

 

روى الشيخان عن عُبادةَ بنِ الصامتِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهِد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه، لا شَريكَ له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، والجنَّة حقٌّ، والنارَ حقٌّ، أدخلَه الله الجنة على ما كان عليه من العمل).

فقه الحديث:

قد جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصول العقائد الدينيَّة التي بها النجاة في الآخرة، فإنَّ هذه العقائد على كثرتها في كتب التوحيد تَرجع إلى ثلاثة مقاصد لا زائد عليها:

المقصد الأول: معرفة المبدأ، وهو العلم بالله تعالى وصفاته، ويسمى قسم الإلهيات.

والمقصد الثاني: معرفة الواسطة، وهو الإيمان بالرسل والملائكة والكتب والتكاليف، ويسمى قسم النبوات.

والمقصد الثالث: معرفة المعاد، وهو الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، ويسمى قسم السمعيَّات.

ولابد من جمع هذه المقاصد الثلاثة في الاعتقاد، إلا أنَّها تارة تُذكر كلها بصريح العبارة، وتارة يُكتفى بذكر المقصدين الأولين عن الثالث وهو السمعيات، لأنَّه داخل في عموم ما جاءت به الرسل، ولذلك اكتفى في شعار الإسلام بالشهادتين، قال تعالى: [ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ] {آل عمران:179}. وتارة يكتفي بذكر الطرفين لأنَّ من أحاط بهما فقد أحاط بالواسطة، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:62}. 

وتارة يكتفي بذكر واحد من الثلاثة: أما الأول فقط، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي الحديث القدسي: (لأخرجنَّ من النار من قال لا إله إلا الله)، وذلك لأنَّ الإيمان بالله تعالى إذا كان إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم لزم منه تصديق هذا الداعي، بل يشتهر أنَّ كلمة التوحيد صارت علماً على مجموع الكلمتين اللتين هما شعار الإسلام.

وأما الثاني فقط، فقال تعالى: [فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ] {آل عمران:31}.

وأما الثالث فقط، فقال تعالى: [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:46}، لأنَّ من عرف النتيجة عرف مقدماتها.

أول ما يخطر بالبال ههنا أنَّ الحديث لم يعرض من صفات الله تعالى إلا لصفة واحدة، وهي الوحدانية، فما بال الصفات الأخرى؟

 قلنا: إنَّ الاعتراف بالله تعالى بأنه هو المعبود بحق اعتراف ضمني بأنه جامع لكل كمال، منزه عن كل نقص، إذ لا يستحق العبادة وهي نهاية التعظيم إلا من كان كذلك.

والمقصد الثاني وإليه الإشارة بقوله: (وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه): 

فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يتضمَّن الإيمان بجميع الرسل، لأنَّه مصدق لهم، وداعٍ في صلب دعوته إلى الإيمان بهم جميعاً، فذكر الإيمان بعيسى لاقتضاء ظروف خاصة لذكره وهي أنَّ أهل الكتاب اختلفوا في شأنه، فالنصارى رفعوه إلى درجة الألوهية، واليهود وضعوه عن مرتبة الرسالة، فلزم التنبيه على حقيقة الأمر فيه، فنبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله فيه: (إنَّه عبد الله ورسوله)، وبقوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)، على المزايا التي اختصَّه بها في طريقة تكوينه صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه أنشأه بكلمته وأمره، إذا قال له: كن، فكان.

نعم كل كائن قد نشأ بكلمته تعالى وأمره التكويني، لكن نشأة عيسى صلى الله عليه وسلم كانت بمجرد هذه الكلمة من غير واسطة الأسباب المألوفة، فقد نشأ من أم فقط بغير أب، كما نشأ آدم بلا أم ولا أب: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {آل عمران:59}.

فهو صلى الله عليه وسلم بشر عجيب الشأن في التكوين، وآية من آيات القُدرة العُليا التي هي فوق تلك النواميس، وقد سبقتها آية أعجب منها وهي خلق آدم، فلم يكن ذلك موجباً لاتخاذ آدم صلى الله عليه وسلم إلهاً أو ابناً لله.

والإخبار عن عيس عليه السلام بأنَّه (روح) مع أنَّه مركب ككل إنسان من روح وجسم، ذلك لأنَّ روحانيته عليه السلام كانت غالبة على جثمانيَّته، فكان كأنه روح بحت.

ومعنى كون تلك الروح من الله تعالى: أنَّها من عنده وبأمره، غير أنَّ الروح في عامَّة الناس إنما يكون بعد أخذهم تلك الأطوار العاديَّة، وبعد أن يكونوا أول أمرهم نطفة تصب أصلاب الآباء في أرحام الأمهات.

أما نفخ الروح في عيسى فقد كان بيد التكوين الإلهيَّة الصرفة، فلم يُسبق بهذه المقدمات.

والمقصد الثالث أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق، والنار حق) وهذا هو قسم السمعيات اكتفى منه بأصليه العظيمين، وهما دار الثواب، ودار العقاب، لأن ما عدا ذلك من البعث والحشر والحساب والميزان والصراط، كلها وسائل ومقدمات، فالإيمان بها تابع للإيمان بهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل) أي: على حسب درجته في العمل إحساناً أو تخليطاً.

فالناس في سعيهم شتى: فمنهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مُقتصد، ومنهم سابقٌ بالخيرات، وعلى قدر تفاوتهم في العمل يكون تفاوتهم في دخول الجنة، أو الداخلين أو آخر الداخلين، أو فيما بين ذلك، ثم إذا دخلوها فهناك الدرجات المتفاوتة المدى، قال تعالى: [وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] {الأنعام:132}. وقال تعالى: [انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا] {الإسراء:21}. 

ويصح أن يكون المراد بقوله: (على ما كان عليه من العمل) المبالغة في دخول المؤمن الجنَّة مهما عمل من سوء؛ لأنَّ من مات من العاصين على الإيمان فهو وإن كان أمام المشيئة في كفتي ميزان لا يدري أيأخذ نصيبه من العذاب أم يناله عفو الله تعالى، لكن مآله الجنة وإن طال سفره إليها وكان دونها أهوال وأهوال.

نسأل الله تعالى العفوَ والجنَّة، ونعوذ بالله من الأهوال.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد 6 السنة 14، 1380، 1960).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين