رحلة الأندلس -3-

الإمارة والخلافة (138-400)

 

?ظلت بلاد الأندلس ولاية تابعة للخلافة الأموية الممتدة منها غربًا إلى بلاد السند شرقًا، ثم تحولت إلى إمارة أموية بعد انتقال الخلافة إلى آل عباس، ثم إلى خلافة أموية، فالعهد الأموي في الأندلس دام متواصلا أكثر من ثلاثمائة سنة، وهي أعز القرون الإسلامية فيها وأزهرها وأرقاها.

?وردها صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان (112-173ه) في قصة رائعة تبعث على الدهشة والاستطراف، وتُذكِّر بآلاء الله تعالى وعجائب صنعه في خلقه، وأسس بها الدولة الأموية سنة 138ه، ولُقّب بالداخل، لأنه أول من دخلها من بني أمية حاكمًا، وكان حكمه من أقوى المنعطفات في تاريخ الجزيرة، قضى على المحاربين الثائرين المتمردين، واستأصل الخوارج البغاة المعتدين، ووحَّد البلاد ووسع دائرة ملكه، وفتح المدن النائية وأمَّن الثغور، ونظم جيوشه وعساكره، وأنشأ أسطولا بحريا قويا، وبدأ بتشييد جامع قرطبة سنة 170ه، وعني بإقامة الجسور والمعابر وترصيف الطرق والشوارع وتجميل القرى والمدن، وله شعر قوي أخاذ، قال في شجرة النخل التي نبتت في جنته برصافة قرطبة: 

تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ        تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ

فقلت شبيهي في التغرب والنوى        وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي

نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة        فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها الذي  يسحُّ ويستمري السماكين بالوبل

يا نخل أنت غريبة مثلي                في الغرب نائية عن الأهل 

فابكي، وهل تبكي ملمسة              عجماء لم تطبع على خبل 

لو أنها تبكي إذن لبكت                ماء الفرات ومنبت النخل 

لكنها ذهلت وأذهلني                  بغضي بني العباس عن أهلي 

ومن شعره الرقيق الذي أهداه إلى أخته بالشام:

أيها الراكب الميمم أرضي          أقرِ بعض السلام عني لبعض

إن جسمي كما تراه بأرض            وفؤادي ومالكيه بأرض

قدر البين بيننا فافترقنا            وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا          فعسى باجتماعنا سوف يقضي

?وخلفه ابنه هشام الأول (173-180) وكان من الملوك العادلين الصالحين محبا للعلم وذويه، وبدأ في عهده انتشار مذهب الإمام مالك بن أنس في الأندلس ولا سيما بعد رجوع يحيى بن يحيى الليثي من رحلته الثانية، ونعمت البلاد في إمارته وعاش الناس عيشة هنيئة مريئة طيبين سالمين، وكانت له هجمات عسكرية في فرنسا وغيرها من بلاد أوربا، وخلفه ابنه الحكم بن هشام والذي خلفه ابنه عبد الرحمن الثاني (206-238)، وبدأت في عهده مظاهر البذخ والترف والدعة والرفاهية في البلاد، ورفع الناس المباني الفخمة، والقصور الشامخة، وصارت قرطبة أرقى مدن أوربا حضارة وجمالا وعلما وأدبا وفضلا.

?وأول من لقب بالخليفة من الأمويين هو عبد الرحمن الثالث الناصر (300-350ه) الذي أنشأ مدينة الزهراء، ووسَّع جامع قرطبة، وبلغ عدد الكتب في خزانته نصف مليون كتاب، وكان جامع قرطبة في عهده من أشهر جامعات العالم ومراكزه العلمية.

?وخلفه ابنه الحكم بن الناصر المعروف بالقوة والشدة والإحسان إلى الناس، لكنه أصيب بفالج في آخر أيامه فاستخلف ابنه هشام بن الحكم وهو ابن اثنتي عشرة سنة وجعل عليه ثلاثة أوصياء: أمه، والحاجب جعفر بن مصعب، ومحمد بن أبي عامر قائد الشرطة، والذي اغتال أخيرا بعض كبار القواد والأمراء وتولى الحكم مسمِّيا نفسه بالحاجب المنصور يدعى له على المنابر مع الخليفة، توفي سنة 392هـ وتولى الحكم بعده ابنه عبد الملك إلى نهاية المائة الرابعة، وهذا العهد يعرف بعهد الدولة العامرية.

?عمَّرت العرب في الأندلس حضارة ما فتئ الغرب بل والعالم بأسره يجني من ثمارها ويقتات من موائدها، وكانت مدنيتهم الراقية منارة علم وثقافة وازدهار وتقدم في غياهب الظلام والجهل في الغرب، ولقد فاقوا الأمم والشعوب في عنايتهم بالعلوم والفلسفة والأدب والشعر وسائر الفنون الرياضية والفلكية والطبيعية والكيمياوية والطبية، وأنشأوا المساجد، والجوامع، والمدارس الكبرى، والمكتبات الضخمة في كل صقع من أصقاعها، ونشط في عهدهم حركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية نشاطا منقطع النظير عادم المثيل.

?وأدهشوا الخلق في الجوانب الحضارية الأخرى من الصناعة والتجارة والزراعة، وإنشاءمعامل الأسلحة، ومصانع النسائج، والجلود والسكر، وأكثروا من بناء الفنادق والمشاتي في طرق وشوارع مرصفة آمنة، وظلوا بفضل موانئهم وأساطيلهم سادة البحر المتوسط مالكي أزمته ذوي صولاته وجولاته أمدا بعيدا، وذلك خلال قرون متطاولة كانت فيها سائر أوربا تعيش حياة بداوة وهمجية وتخلف وجاهلية وظلمة ووحشية، والحاصل أن الحديث عن الأندلس يفوق البيان ويعجز عنه اللسان:

كم ظل  فيه  العدل  مرفوع اللوا        والعلم تحت ظلاله منشور

والفن  مؤتلق  الصحيفة  ماله      فيما يشع من البهاء نظير

والأرض روض والمجالس بهجة      والماء راح والولائد حور

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين