محبة الله تعالى

 

قالوا: حدثنا عن محبة الله، قلت: سألتموني عن أطيب شيء وأحلاه، وأعذبه وأهناه، فالله ربنا ومولانا الودود الرحيم والعزيز الكريم، وكيف لا نحبه وقد أحبنا قبل أن نعهد الحب معرفة وذوقا أو نُؤلَفَه إيلافا، وقبل أن نستسيغه استساغة أو نستطرفه استطرافا، ولولا حبه لما كان لنا عين ولا أثر، ولا ما بطن ولا ما ظهر، إنه أحبنا فخلقنا وأنشأنا إنشاءا، وصورنا فأحسن التصوير، وخلق ما ينفعنا وسخره لنا تسخيرا، وأعطانا بغير حساب، والعطاء عطاؤه، وقضى فينا ما قضى والقضاء قضاؤه، وربنا على ما كان منه حميد، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير، شملت رحمته الجميع، وبُسِطت موائد نعمته في كل صقع من أصقاع المعمورة، وفي جميع أنحاء ملكه.

قلت: إن محبتنا له من فيضان محبته علينا، وجريان نعمه علينا وعميم إحسانه وجسيم فضله، قالوا: كيف نُوْليه محبة وشوقا ولم نره؟ قلت: الحب الحقيقي لا يُعَوِّل على رؤية الحبيب، إن الحب الناشئ من النظر، والحاصل من فاعلية الحواس حب ظاهري مادي سطحي، وهو تعلق حيواني ونزعة بهيمية، ومن ذلك شهوتنا لنوع من الطعام بعد أن نذوقه، ووجْدنا بصوت نسمعه، واستطابتنا للطيب بعد أن نشمَّه، وافتتاننا بوجه جميل نراه أو كَلَفنا بصورة خلابة نُسحر بها، وهذا الحب في معظمه هوًى.

قالوا: فما هو الحب الحقيقي؟ قلت: الحب الحقيقي هو الحب الفطري المؤيد بالعقل، فالإنسان مجبول على حب من يعتمد عليه في نشأته وبقائه، ويُعَوِّل على نعمه وأياديه، ومطبوع على حب المتصف بنوع قدرة ونبوغ، الطفل يحب أمه لأنه يركن إليها محسنة إليه، والإنسان يحب شاعرا أو أديبا أو عالما لا لنعمة منهم ترجع إليه، بل لتبريزهم وتفوقهم، نحب النبي صلى الله عليه وسلم ولم نره لفضله وإحسانه، ورفده وإنعامه، ولما أوتي من خصال الكمال ومحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق، وكذلك نحب سائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، والـصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من الصالحين الأخيار، وما صحبناهم ولا رأيناهم.

قلت: وبهذا الحب الفطري العقلي نحب ربنا جل وعلا، فإن صفاته تجمع بين الأمرين: القدرة والرحمة، فهو مالك الملك ووارث الأسباب، منزل غيث كل سحاب، فطر الأرض والجبال والسماوات العلى، والأنهار والبحار والصحارى، وأنبت الأوراد والزهور من الجذور الصماء، بارئ السكنات ناشر الحركات، برأ كل نسمة، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم، أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك، فهو الحق وما خلاه باطل، يرزق من يشاء ويقدر، وهو كافل أرزاقنا عليه معتمدين، وله منن علينا عظيمة، وأياد سابغة، وهو الوهوب، عظيم العطايا، رازق دائم السيب، ينعم على عباده ولا يبغي منهم بضاعة، فسبحان من أعطانا من سعة، وسبحان من أعطانا ما أعطى، يئسنا من العالمين ورجونا رب العالمين.

قالوا: وهل الإطاعة لازمة للحب؟ قلت: نعم، بل الإطاعة هي الشهادة على صدق المحبة، فإن المحب لمن يحب يطيع، ولا بد للمحب أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، وأن يسعى في مرضاته ما استطاع، وأن يبعد عما حرمه ويكرهه أشد الكراهة، قال يحيى بن معاذ الرازي: ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده، وقيل: المحبة موافقة الحبيب فِي المشهد والمغيب، وقيل: المحبة مواطأة القلب لمرادات الرب.

قالوا: أو ليس حب النعم حبا لله تعالى؟ قلت: لا، إن حب النعم فتنة، وهو حب يشترك فيه الكفار والمشركون والفساق والمنافقون، فإنهم كذلك يحبون النعم، مستغنين بها، زاهدين في ربها المنعم بها عليهم، ومن هذا النوع شغف بعض المتصوفة بالوجوه الحسان واختلاطهم بالنساء ووالولدان والمردان، ظانين أن ذلك يقرِّبهم إلى ربهم، وبئس ما ظنوا وادعوا، وساء ما افتروا ورموا، وهو عشق سفلي ناشئ عن قصور النظر وعمى البصر والبصيرة، فالبصير العاقل إذا رأى النعم تقرب بها إلى المنعم منيبًا إليه، ومعرفته للمنعم تذهله عن غيره حنيفا مخبتا، روي عن بعض الصالحين أنه جلس في مراقبة ذكر الله واستغرق في بحر المكاشفة، فلما برز للناس سأله أحد أصحابه، ما الذي حملت إلي هدية من هذه الحديقة التي كنت فيها متنزها، قال: كنت أفكر في أن أملأ جيبي بالهدايا لأصحابي حين أصل إلى شجرة الورد، فلما وصلت إليها أسكرتني روائح الأزهار وأذهلتني عن جيبي.

قالوا: مالك قابعًا في عقر دارك غير آنس إلا بيتا من بيوت الله؟ قلت: لا تلوموني، فإني أجد في المساجد ريح مسك وطمأنينة قلب، وهدوء خاطري وسكينة بالي، استغنيت بربي عن غيره، فاعتكفت في بيته، ولا أجد لذة في زيارة منزل أو النزول بمثوى، إني أحببت ربي متجها إليه راغبا عن غيره لأني إذا قصرت في حقه أو أسأت في التأدب معه لم يكرهني ولم يطردني، وقد أصابني ببعض ما يردني إليه رحمة منه وفضلا، ويُحَوِّل قول أو فعل من عباده غضبَه وسخطَه إلى عفو ومغفرة، فهو الواحد الصمد الذي به رجاؤنا إليه مستندين، وأنه لا رب لنا نرجوه سواه، إذ لم يخب سعي من رجاه.

قالوا: ماذا قال غيرك عن الحب؟ قلت: قال بعضهم: المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم، وقيل: المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب، وَقَال أبو يزيد البسطامي: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك، وعن سمنون أنه قال: ذهب المحبون لِلَّه تعالي بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صَلى اللَّه عليه وسَلم قال: المرء مع من أحب، فهم مع اللَّه تعالى. قالوا: أردنا أن نسمع منك أكثر من ذلك، قلت: عجز الفصحاء البلغاء عن صفته، وقد قال بعضهم: إني له لمحب إليه مشتاق، والمحب قتيل الحب والوَلَه، وأنَّى للقتيل أن يتكلم أو أن ينبس بنت شفة، ومن لم يُقْتل فإنه غريب عن رهطي وقبيلتي، وبعيد عن أهلي وعشيرتي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين