كلمة حق في أديب اللغة العربية طه حسين رحمه الله

 

المراحل الفكرية التي مر بها طه حسين

الإنصاف من صفات الأحرار، وإعطاء حكم في شخصية أدبية يتطلب دراسة شاملة لكل المراحل التي مرت في حياته وعدم الاقتصار على مرحلة البدايات التي كثيرا مما تتغير بعدها التوجهات الفكرية.

 

والحقيقة أن هناك توجهات متعددة تعرض فكر "طه حسين" تابعة للمرحلة التي عاشها، وسأقتصر على ثلاثة توجهات:

1- توجه العلماء والأدباء الذين صدمهم ما كتبه طه حسين في كتابيه ( الشعر الجاهلي) و ( مستقبل الثقافة في مصر) ، فقد تجاوز فيهما تجاوزات كثيرة في العقيدة والتاريخ، وظهر هذا في الردود الرائعة التي كتبها عملاق الأدب الإسلامي مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وخاصة في كتابه ( تحت راية القرآن )، وأعتقد جازماً أنها كانت لها أكبر الآثر لتحولات جذرية في نهاية المطاف في فكر طه حسين.

 

وكنت أنا لفترة قريبة مع هذا التوجه ، ولكن بسبب قراءاتي المستمرة في الفترة الأخيرة عن طه حسين تغيرت قناعي في هذا الرجل ، وخاصة بعد اطلاعي على الإنتاج الأدبي والتاريخي الذي أصدره في الفترة الأخيرة من حياته ، وخاصة كتابه "على هامش السيرة" وإن كان لا يخلو من بعض الأخطاء العلمية ، ولكن الذي يميزه أنه كتبه بأسلوب الأدب الرفيع المؤثر الذي يحمل في طياته عميق الحب والانبهار والإعجاب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بالإضافة لاحترامه لمنهج المحدثين في توثيق الأحاديث النبوية، وتأكيده على الالتزام بهذا المنهج العظيم، بالإضافة لسماعي لحلقات قديمة في لقاءات معه وجدت فيه الأديب المتواضع ، فكان المذيع يصفه بـ ( بعميد اللغة العربية، ورائد الأدب العربي) فيتنكر لذلك ولا يعتبر نفسه إلا كأحد الأدباء لا غير ، ورأيت فيه المحب المخلص الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم .

 

2- توجه الحداثيين والعلمانيين المستغربين الذين وقفوا فقط على بدايات ما صدر عن طه حسين ، وأظهروه على أنه يدعو إلى فكر تنويري غربي بحت ، وأنه صاحب مشروع حداثي يتطابق مع نهجهم ، ويتعمدون إخفاء ما صدر عنه في الفترات الأخيرة من حياته، وما صدر عنه من تراجع عن أخطائه .

 

3- دراسة شاملة دقيقة لكل مراحله الفكرية، من خلال تتبع جميع ما صدر عنه في مؤلفاته ومقالاته، والوثائق التي بقيت محفوظة من كتاباته ، تمثل ذلك في الكتاب الذي أصدره "الدكتور محمد عمارة " حفظه الله بعنوان: "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام" ، وقد جاء الكتاب مليئًا بنصوص طه حسين، خاصَّة تلك النصوص التي مثَّلت نماذج مراحله الفكريَّة، وقضايا هذه المراحِل التي أثارتِ الجدل الشديد، وشغَلت الناس بطه حسين، وهذه المراحِل التي توزعتْها حقب أربعة تُعدُّ هي فصول الكتاب:

 

1- أولا : المرحلة الأولى : البداية الفكرية، (الفترة من 1908 ــ إلى 1914) وهى التى سبقت رحلته إلى فرنسا وقد صنفها الدكتور عمارة تحت عنوان : « طه حسين الشيخ». إذ تمثل المرحلة التى بدأت بالتحاقه بالجامعة المصرية الأهلية بعد حرمانه من نيل شهادة العالمية الأزهرية .

 

وفى تلك المرحلة كتب الدكتور طه حسين فى «الجريدة» لسان حال الحزب الوطنى يقول: "إن الوطنية هى الجامعة الوحيدة المشتقة من الطبيعة.. وان الدين على ما فيه من إصلاح للناس وإقامة لحضارتهم وعمرانهم لا يمكن ان يكون جامعة منضبطة للحياة الدنيوية الصالحة". 

 

إلا أن الرجل أطل بوجه آخر من خلال صحافة الحزب الوطنى، فظهرت كتاباته فى مجلة "الهداية" معبرة عن موقف مفكر إسلامى مهتدياً فى كتباته بضوابط الدين. فهو يتحدث عن القرآن الكريم باعتباره «كتاب عبادات وقانونى: وحكمة وتشريع»، ويدعو إلى قيام المسلمين بنشر الإسلام، إذ يقول « إن التوحيد هو ملاك الفضل وقوام الأخلاق الحسنة، وان الشرك هو مصدر النقائص وجرثومة كواذب الأخلاق.. ولذلك فإننا ملزمون بنشر الإسلام ومحو آثار الشرك». ومن الطريف أنه فى تلك المرحلة، قبل أن يقترن بزوجته الفرنسية الكاثوليكية كتب فى مجلة «الهداية» ذاتها قائلا: «استطيع أن أحظر تزوج المسلم من الكتابية من الفرنج، أو على الأقل أضيق دائرته تضييقا شديدا». نظرا لما يمثله ذلك من مخاطر على دين الأسرة والتربية الإسلامية للأبناء.

 

2- ثانياً : المرحلة الثانية : مرحلة الانبهار بالنموذج الغربي : (الفترة من 1919 ــ 1930)، بعد عودته من بعثته في فرنسا وحصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون ، حتى انه انحاز إلى حزب الأحرار الدستوريين ضد سعد زغلول باشا وحزب الوفد الذى كان رمزا للنضال ضد الاحتلال البريطانى. وهى ذات المرحلة التى شارك فيها ودافع عن علمنة الإسلام حين صدر كتاب على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم». وفى الوقت ذاته شكك فى المقدسات الإسلامية بكتابه «فى الشعر الجاهلى». ووقف منحازا إلى فرعونية مصر والمصريين ضد الانتماء الحضارى العربى الإسلامى.

 

3- ثالثاً : المرحلة الثالثة : مرحلة الإياب التدريجى والمخاض الحافل بالمتناقضات : (الفترة من 1932 - 1952) ، حصل فيها شيء من التحولات الفكرية والسياسية، إذ رغم انه ظل على تعلقه بالنموذج الغربى الذى عبر عنه فى مؤلفه مستقبل الثقافة فى مصر، فإنه انتقل إلى صف الدفاع عن حزب الوفد وسعد زغلول، كما انه انتقل من الانبهار بالثورة الفرنسية إلى نقدها إلى جانب نقده للاستعمار الغربى ، كما انه اقترب من الثقافة الإسلامية من باب مغاير بإصداره كتبا مثل «على هامش السيرة» فى ثلاثة أجزاء والفتنة الكبرى (جزءان) والوعد الحق. وانضم فى ذلك إلى كوكبة المثقفين الذين اهتموا بالتاريخ والثقافة الإسلامية (مثل محمد حسين هيكل والعقاد وأحمد أمين وزكى مبارك وغيرهم ) .

 

4- رابعاً : المرحلة الرابعة : مرحلة الاياب والانتصار الحاسم للعروبة للإسلام (الفترة من 1952 – 1960 ) انخرط طه حسين فى صف المدافعين عن انتماء مصر العربى والإسلامي .

 

وفى تلك المرحلة قام برحلته الحجازية التى بللها الرجل بدموعه وطوى بها صفحة اغترابه، وفيها أعلن «ان الإسلام وطن، بل هو الوطن المقدس والصانع الأول للمواطن المسلم عبر الزمان والمكان»

 

وفى تلك الرحلة سئل عن أحب مؤلفاته إليه كان رده: ( كتابي «على هامش السيرة» لأني صدرت في كتابته عن حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حب عميق جداً، وأظنّ أني عبرت عن هذا الحب تعبيراً لا بأس به، ثم يأتي بعد ذلك الكتب التي كتبتها عن الإسلام مثل كتابي «الوعد الحق» : لأني كتبت هذا الكتاب بإخلاص شديد جداً ، لأنني أحب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وما لا قوه في سبيل الإسلام ) .

 

بالإضافة لكِتابه « مرآة الإسلام » الذي يكشف فيه عن ألوانٍ من إعجاز النظم القرآني.

 

وحين سئل عن شعوره بعد قيامه برحلته الحجازية وأدائه العمرة قال: «هو شعور الغريب حين يعود بعد غيبة طويلة جدا إلى موطن عقله وقلبه وروحه ».

 

ومِن الجدير بالذكر أنَّ طه حسين أوصى أن يُحفَر على القبر الذي دُفن فيه هذا الدُّعاءُ النبويُّ - الذي كان أثيرًا إلى قلبه، قريبًا من لسانه -: 

 

((اللهمَّ لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، والجَنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وعليك توكلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلَّا أنتَ)).

 

#الخاتمة : الدكتور طه حسين رحمه الله أديب كسائر الأدباء له ما له ، وعليه ما عليه ، وهناك انتقادات علمية وجهها كبار علماء الأمة أوردوها على الكثير من مؤلفاته ، وكان يتبقل جميع تلك الملاحظات بصدر رحب ، منها ما رجع عنها ، ومنها لا زالت في كتبه. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين