النبي السياسي -1-

 

لعلَّ القارئ الكريم يجدُ في ذلك العنوان مجافاةً لمعاني النبوة، ومُباينة لحقيقة الرسالة، لأنَّ كلمة السياسة اقترنت في عصرنا بمعانٍ لا تتفق مع خُلُق صاحب الرسالة السماويَّة صلى الله عليه وسلم، ومن يوحى إليه من عند الله تعالى؛ لأنَّ السياسة اقترنت بالخداع وإظهار السياسي ما لا يُبطن، والمخاتلة والكذب، حتى لقد قال كبير من ساسة إنجلترا المعاصرين: إنَّ السياسة والصدق لا يجتمعان، وإنَّه يمرُّ على قبر سياسي مع صاحب له فيقول له صاحبه إنَّ هذا قبر سياسي صادق، فيقول: إنه إذن قبر رجلين أحدهما سياسي والآخر صادق، فإما السياسة وإما الصدق، ولا يجتمعان! 

تلك هي بعض المعاني التي شاهت بها حقيقة السياسة، حتى ظُنَّ أنها لازمة من لوازمها، وخاصَّة من خواصها لا تفترق عنها، ولا يتزايلان، ولقد قال الإمام محمد عبده: (لعن الله السياسة وما اشتقَّ من السياسة من ساس يسوس سائس مسوس).

وما كانت تلك الثورة على السياسة من ذلك الإمام الجليل إلا لأنه خبر خفايا سياسة العصر وعجم الساسة ورأى خنوع الرعية لآثامها، فلعن الجميع.

2 - وحُقَّ لكبير وزراء انجلترا أن يعدَّ السياسة والصدق نقيضين لا يجتمعان، لأنَّ سياستها قامت على خدع الضعيف، وقد نشرتها في ربوع العالم، كما كان حقاً على الإمام العظيم وقد رأى الشرق فريسةً لهذه السياسة، مخدوعاً بها، أن يعلن لعنتها، فهي الإثم الكبير، والخطر العظيم على الإسلام والمسلمين.

ولكن السياسة ليست كذلك، فإنَّ أولئك الخاتلين المنافقين من ساسة العالم اليوم لم يجنوا على الضعفاء فقط، ولم يظلموا الأمم فقط، بل جَنَوا على الحقائق وظلموها، وأفسدوا المعاني الإنسانيَّة وشوَّهوها، فشاهت في نفوسهم وعقولهم، لفساد قلوبهم ونياتهم الخبيثة، ومن أظلم ما جَنَوه على المعاني هو إفسادهم لمعنى السياسة، وظلمهم لحقيقتها.

إنَّ السياسة كما جاءت على ألسنة الفلاسفة في القديم، وكما جاء بها القرآن، وقام بها النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم، هي عناية الرجل بجماعته وحمايتها، وتنظيم العلاقات بينها وبين غيرها، على أسس من العدالة، واستخلاص الحق من وسط مُتنازع الأهواء، ومضطرب الأفكار، ولجاجة العداوة، وشراسة الأخلاق. 

فالسياسة الحق هي تنظيم العلاقات بين الآحاد والأمم على أسس الخير، والتدبير المحكم لنصرة الفضيلة في وسط الأهواء المتناحرة، والعداوات المستحكمة من غير أن يضرَّ أهل الحق؛ ولذلك قال سقراط في بيان السياسة الفاضلة أو بالأحرى السياسة الحق: (يجب قبل كل شيء أن تفكر في اكتساب الفضيلة أنت وكل رجل يُريد ألَّا يعنى بنفسه، وبما له من الأشياء فحسب، بل يعنى أيضاً بالدولة، وبالشؤون التي هي الدولة). 

فالفضيلة عند شيخ الفلاسفة الإنسانيين أساس كل سياسة، وإنَّ السياسي العظيم الجدير باسم السياسي حقاً هو الذي يتقيَّد بالفضيلة كلَّ التقيُّد في الوصول إلى حكم الشعوب وحمايتها وحماية حريَّاتها العامَّة والخاصَّة من مجاوزة للحق والعدل والقسطاس المستقيم. 

وإنَّ أولئك الذين يفصلون الأخلاق الفاضلة عن السياسة لم يفهموا الأخلاق، ولم يفهموا السياسة الحق التي قام عليها العدل أو يقوم في هذه الأرض.

3 ـ هذه هي السياسة في لبِّ معناها وحقيقة غايتها ومغزاها؛ وعلى ذلك لا تكون ثمة غضاضة في أن يوصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه النبي السياسي، بل إنَّه أعظم سياسي رآه الوجود الإنساني، لأنَّه السياسي الفاضل الذي كان مرمى سياسته أن تسودَ الفضيلة ربوع الأرض في مَشَارقها ومَغَاربها، وسلك السبل الموصلة إلى هذه الغاية السامية، ووصل بذرائعه الفاضلة في السياسة إلى جمع أمة من البدو الذين لم يتلاقوا وقتاً ما من قبله، نحو غاية واحدة هي نصرة الفضيلة، لقد جمع من ذلك النفر المتناثر جمعاً متحدَ الغاية والمرمى والهدف، ولم يعرف التاريخ أمَّة اجتمعت على الفضيلة، كما جمع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النثير الإنساني الذي تربطه جامعة من قبل نحو أسمى الغايات الإنسانية، وهو نشر العدل والأخلاق الفاضلة والمساواة التي لا تُفرِّق بين عربي وأعجمي، ولا شرقي وغربي: ولا بين أبيض وأسود، حتى لقد صاح فيهم بقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] {الحجرات:13}، وبقوله عليه الصلاة والسلام: ( كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (الجنة لمن أطاعني ولو كان عبداً حبشياً، والنار لمن عصاني ولو كان شريفاً قرشياً) [لم أجد من روى الحديث]. 

وبقوله صلى الله عليه وسلم في المساواة الإنسانية في الحقوق والواجبات أمام القانون: (الناس سواسية كأسنان المشط)، وإنه لينادي بأنَّ العدالة مطلوبة مع العدو كما هي مطلوبة مع الولي، فينطق بقوله تعالى: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8}. 

ومع المساواة أمام القانون لا يفرض أنَّ الناس مُتساوون في القوى والمواهب بل كل ميسر لما خُلق له، وكلٌّ ومقدرته، وكل وطاقته، وإنَّ الفرص للجميع مُتكافئة، فكل ينال منها بمقدار ما تؤهله قواه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، وقال عليه السلام: (الناس بخير ما تباينوا، فإن تساووا هلكوا) [رواه البيهقي في الشعب مرسلاً من قول الحسن]، لأنهم إن تساووا جميعاً في المواهب لم يكن ثمَّة زرَّاع ولا صنَّاع ولا تجار ولا علماء، بل يكونون جميعاً صنفاً واحداً، أو أصنافاً مُتقاربة، والعمران يقوم على التباين في الأعمال، من غير أن يكون لكل عمل طبقة بعينها، حتى لا يكون ظلم الطبقات، بل الجميع أمام القانون سواء، لا فرق بين وزير وصانع، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين عامل وتاجر، ولا بين صانع وصاحب مصنع ولكل فضله وعمله في بناء المجتمع وصلاحه، ولكل الفرصة في أن يصل إلى أسمى الأعمال. 

4 ـ نحو هذه الأهداف الفاضلة من قيام المساواة الإنسانيَّة العامَّة، والعدالة التامَّة والأخوَّة الشاملة، والحرية الكاملة اتجهت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت حياته بعد البعث تتجه لتحقيق تلك الغايات الإنسانية العالية مع غيرها في تدبير محكم، ووزن للأمور دقيق، واستقامة تفكير، واتجاه إلى الغاية من أقرب طريق. 

ونشير إلى بعض مظاهر تلك السياسة العالية من غير أن نبيِّن، ونجمل من غير أن نفصِّل:

[تتمة المقالة في الجزء الثاني]

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، السنة السادسة، ربيع أول 1372، نوفمبر 1952).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين