رحلة الأندلس -5- جامع قرطبة

 

?إن زيارتي لجامع قرطبة حدث في حياتي يُذكر ولا يُنسى، يُؤثر ولا يُمحى، لا لأنه من من أروع ما أنشأ المسلمون من أعمال الهندسة المعمارية، أو لأنه الأثر الوحيد القائم من بين مساجد الأندلس وجوامعها الكثيرة المنتشرة في مدنها وقراها، وحواضرها وبواديها، وطرقها وأزقَّتها، وسائر أكنافها وأرجائها، بل للأمرين جميعا ولأنه ذِكر معلَّق بين الماضي والحاضر، وأجنبي غريب بين من حوله مستوحش منهم استيحاشا، ويا لغربة من فرَّق الدهر بينه وبين خلانه، وشتَّت آمِّيه وعامِريه وبدَّدهم تبديدا.

?أنشئ في رقعة فسيحة بجانب نهر الوادي الكبير، ينزل العابر من فوق القنطرة إلى ساحته ومبناه، تحيط به من جوانبه أزقة ضيقة، وبيوت عتيقة، كان آهلوها مصلِّيه وغاشِيه، لاجئِيه وآوِيه، مترددين إليه مختلفين، استغرق بناؤه قرنين ونصفا بداية من فتح قرطبة في عهد بني أمية، ولعله لم يخلد أثر من الآثار الإسلامية في كتب التاريخ كما خلد هذا الجامع، فقد كتب عنه العلماء والأدباء واصفيه وصفا دقيقا ناعتين ما حواه من إتقان صنع، وإحكام بناء، ووشي وتنميق، وإبداع وتحسين.

?دخلنا صحن المسجد حوالي الساعة الرابعة ظهرا مفاجَئين بأنه أصغر من مصلاه، ولعل المصلى يشغل ثلثي المساحة، والثلث الباقي يشغله الصحن مسجًّى بأشجار النخيل والليمون، واسترعى انتباهنا عند وروده مئذنته المصنوعة من خشب الساج النفيس والمسماة بمنارة عبد الرحمن الناصر، والمزينة واجهتها بنقوش عربية بديعة، وقد أَلْصقت الإسبان بهذه المئذنة طاقةً حاضنة لأجراس الكنيسة قارِنين بين متضادتين متنافرتين، ولكن أبَّهة المئذنة المتفاخمة المتعاظمة تستأسر الناظر وتسحر عينيه سحرا فلا تبصران هذه الأجراس، وإذا رجع بصره كرتين أو كرات لم يلاحظها إلا كوصمة عيب في جمال فاتن خلاب، يا أيتها المئذنة! يا شاهدة تاريخ الأندلس بعد رحيل أحبتك وأصفيائك، وغياب أعزتك وأوفيائك، وانقطاع صوت مؤذنيك الموحدين! كيف بقيتِ قائمةً على مدى الدهر صابرةً على فراقهم، ومحتملةً رنين أجراس فيه من الشرك والكفر أرجاس، إن لم يؤثر فيكِ مضي الشهور والسنين، أفلم يؤثر فيكِ حزن مغادرة الأحبة المارِّين تحتك دخولا وخروجا ترينهم قياما راكعين وساجدين إلى ربهم مقربين، سيماهم في وجوههم من أثر السجود؟

?ثم انصرفنا نملأ عيوننا بظاهر الجامع، وهو كله آية في الجلال والجمال، والهيبة والأنس والشوق والمحبة، تبهر الناظر إليه رؤيته مسلما كان أو كافرا، مؤمنا كان أو مشركا، واستعدت في قلبي شعر إقبال: "يا كعبة أرباب الفن والصناعة، بلغتْ بفضلكِ أرضُ الأندلسيين مرتبةَ الحرم، إن كان تحت السماء نظيرٌ لجمالك البديع فهو في قلب المسلم، وليس في مكان آخر".

?دخلنا المصلى من الباب المؤدي إلى الجناح الذي على أقصى يمين الداخل، في وسطه تماثيل موضوعة وصور مصنوعة، فاستوحشناها ونفرنا منها نفورا، ولعدمنا الصبر ولعلانا الجزع لولا أن تذكرنا البيت الذي رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل، فأقحم فيه أولادهما ثلاثمائة وستين صنما، وكان قائدنا في المصلى الأخ العالم الدكتور أبو زيد واصفا لنا ما يحتاج منه إلى بيان وإيضاح، دخلناه غير محييه تحية المسجد، فالصلاة فيه ممنوعة، يا جامع قرطبة! عليك سلام الله بقلوب خاشعة وعيون دامعة، إن منعونا من أداء الصلاة فيك فلن يمنعونا من تسبيح ربنا بألسنتنا وقلوبنا، لقد حللت من العز المنيف محلة، ونزلت من القدر الميمون منزلة، وأصبحت مثالا للمؤمن الصادق في صبرك وتجلدك كلما مدتْ يد الأيام إليك بنانها بخطب وأذى، ولله در إقبال:  "ترى النجوم والكواكب أرضَك سماءًا، يا لهفى ظلتْ أجواءك طيلة قرون خالية من الأذان".

?وعجبنا من كثرة ما فيه من عمود وسارية، ولعلها تبلغ الألف أو زيادة، وقد كانت أجنحته وأعمدته وسواريه مدارس ومراكز علمية، ترى العلماء والشيوخ جالسين عندها محفوفين بطلاب من قرطبة وخارجها يعلِّمون القرآن الكريم مع تجويد قراءاته وإتقانها في رواياتها المختلفة، ويتدارسون الموطأ، وصحيح مسلم، والفقه على مذهب مالك، واللغة والأدب والنحو، ويناقشون آراء الفلاسفة والحكماء من الشرق والغرب، وكانت تحمل إلى مكتباته أحمال الكتب من بغداد والشام ومصر والعالم بأسره، يا أصحابي! تقصَّوا أنظاركم في هذه البقعة المباركة ترَوا آماد الزمان وأحيان الدهر كيف أصبحت فيها معتصرة مختصرة، وتُطلُّوا على وجوه كريمة مستنيرة أصبحت من فعالهم في كل مكان سُرُج ومصابيح تُزهر، ومن صنيعهم درر وجواهر تتألق، صنائع فاق صانعوها ففاقت، وأغراس طاب غارسوها فطابت.

?تقدمنا خاشعين متواضعين لله نحو المحراب المكسوِّ نور الهدى، يبدو عليه ويظهر، ولو أن جمادا كُلِّف أن يتكلم لتكلم هذا المحراب، بل إنه يتكلم لو كان هناك آذان صاغية وقلوب واعية، وبذلنا جهدنا في قراءة ما عليه من الكتابات العربية الجميلة، فصعب علينا فهمها، ومما يمكن قراءته: "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ". و"هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ" ومما كتب عليه أيضا: "موقف الإمام المستنصر بالله عبد الله الحكم"، وتوقفنا قليلا وتلقينا من المقام مواعظ وعبرا تشفي الصدور، بل إن شفاءها لمتعذر عسير، وتذكرت هناك أولئك الأمراء والسلاطين والعلماء والشيوخ الذين صلَّوا عنده آخذين بذمة من ربهم وعصمة منه، فيا محراب اسلَمْ، ويا منبر انعَمْ، أعطاكما الله محبة في الورى، وحباكما بالفضل الذي لا ينكر، ولأنتما أملأ للعيون وأجل قدرا في الصدور وأكبر.  

?تجولنا في داخله متمعنين عظمته وجلاله، مأخوذين بحسنه وجماله، وقد عجب منه غيرنا كما عجبنا منه، قال صاحب الروض المعطار:" وبها الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة وإحكامَ صنعة وجمالَ هيئة وإتقان بنية، تهمم به الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميماً إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقاً وطولاً وعرضاً". وقال ابن الوردي في كتابه خريدة العجائب وفريدة الغرائب: "بها الجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله، طوله ذراع في عرض ثمانين ذراعاً، وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقود، أكبرها يحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة، تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة، وبه منبر ليس على معمور الأرض مثله في حسن صنعته، وخشبه ساج وأبنوس وبقس وعود قاقلي".

?يا إخواني وأصحابي! لا تنسوا تلك الأيام الغرر والعهود اللامعة لهذا الجامع، وما سمي الإنسان إنسانا إلا أنه ينسى، تغالبت مسراتنا وأحزاننا فلا أدري أيها أغلب، وتذكرت ما قاله إقبال: "يا حرم قرطبة! إن وجودك ناشئ من الحب، والحب خالد ليس له مضي ولا انقطاع". "إن جلالك وجمالك لدليلان لسالكي طريق الله، فإنه جليل وجميل، وأنت جليل وجميل، إن أساسك متمكن راسخ، وإن اعمدتك تفوق العد كأشجار النخيل المتزاحمة في صحارى الشام، يشرق في بابك وسقفك طالع الوادي الأيمن، وإن منارتك الرفيعة يتجلى عليها أنوار جبريل".

?يا حرم قرطبة! أبت عبراتنا إلا انسكابا ونار غرامنا إلا التهابا، فأهدي إليك من مدامعي وعبراتي هدايا، ولم يحفظ مُضاعَ المجد شيء كالدم المهراق أو الدمع المسكوب، ماذا على الأيام لو سمحت لنا بثواء أيام لديك قلائل.

?وخرجنا من داخل المصلى إلى الصحن حوالي الساعة السادسة باحثين عن مكان نصلي فيه الظهر والعصر، أوليس من المحزن المبكي أن يبحث زائر هذا الجامع الكبير عن مكان للصلاة خارجه؟ ودُلِلنا على مسجد صغير في داخل زقاق قريب من الجامع حيث صلينا جمعا وقصرا، وقال صاحبنا الحافظ المقرئ عمر خان من كاليفورنيا: "لقد استشعرت من السكينة والطمأنينة بصلاتي في هذا المسجد الصغير ما لم أستشعره لو صليت في الجامع الكبير"، صدق فليست جَنَّة المؤمن في المباني الفاخرة ولا قصور الأمراء والوزراء، ولكنها في سجوده لرب العالمين، وللمؤمن حيث انتهى مسجد، وله حيث توجَّه ربُّه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين